عندما يقهر الدين الرأسماليّة وسط المقهورين

تيري إيغلتُن
2020 / 11 / 28 - 10:58     

مع ازدياد علمانيّته ونسبيّته، نسي الغربُ حجمَ النفوذ الذي تمتلكه الديانات. الإلحاد ليس بالسهولة التي يبدو عليها. يمكنه أن يكون سهلًا على المستوى الفرديّ، لكن تبيّن أنّه من الصعوبة الشديدة أن تصبح مجتمعاتٌ بأكملها ملحدة. فالحداثة مليئةٌ بأنقاضِ البدائل التي فشلتْ في استبدال الذات الإلهيّة: من المنطق والفنّ والعلم والثقافة والإنسانيّة إلى الطبيعة والإنسان والدولة وصولًا الى توم كروز. فبمجرّد أن يتمّ طردُ الله من الباب، يعود إلينا من النافذة، وأحيانًا خلف قناعٍ كثيف.

لست أدّعي بذلك أنّ هذه الظواهر مجرّد بدائل للذّات الإلهيّة، ولكنّها أدّت هذا الدور في فتراتٍ زمنية معيّنة. فالدين عادةً ما أدّى دورًا حيويًّا في إضفاء الشرعيّة على المنظومات السياسيّة، لدرجة أنّ حكّامنا لا يمكنهم النظر إلى اختفاء الله دون أيّة درجة من رباطة الجأش، وهذا أحد أسباب وجود عدّة محاولات، أغلبها حُكِم عليه بالفشل، لملء مكانه.

أقول إنّ أغلب تلك المحاولات كان محكومًا عليه بالفشل لأنّه من الصعوبة الشديدة التفوّق على الدور الذي أدّاه الدين. فقد أثبت أنّه أكثر الأنظمة التي عرفها الإنسان ثباتًا وبقاءً وانتشارًا وتجذّرًا، لأسباب عديدة. من بين تلك الأسباب قدرتُه على ربط العادات والتقاليد اليوميّة لمليارات الأشخاص العاديّين بأكثر الحقائق تساميًا وخلودًا وجلالًا. فهو أكثر أشكال الثقافة الشعبيّة تفوّقًا في تاريخ الإنسانيّة. على أنّني أراهنك على أنّك لن تجد لذلك ذكراً في أغلبيّة المناهج الدراسيّة الخاصّة بالدراسات الثقافيّة.

إنّ الثقافة قد تعني القِيَم والمعتقدات الخاصة بأقليّةٍ مثقّفة، أو قد تعني أسلوب حياةِ مجموعةٍ من الناس. والثقافة بالمعنى الأخير يمكن تعرُيفها هذه الأيّام بأنّها ما يكون الشخص مستعدًّا للقتل من أجله. والدين هو الشيء الوحيد الذي استطاع دمجَ هذين التعريفين الخاصّين بالثقافة، بما هي مفهومٌ جماليّ ودراسة إثنوغرافيّة، في وحدةٍ تجمع بين التخمين الميتافيزيقيّ والتقوى الشعبيّة والطقوس والواقع الاجتماعيّ، بطرائق تحسدها عليها المنظوماتُ الرمزيّة الأخرى.

الشيء الذي استطاع استبدالَ الدين بنجاحٍ، في أيّامنا هذه، هو الرياضة. الرياضة هي أفيون الشعوب. فهي تمارس الشعائر الأسبوعيّة وتوفّر لائحة الأبطال الأسطوريّين وتضفي الإحساسَ بالتضامن الذي كانت توفّره الكنيسة من قبل.

ونحن الآن على أبوابِ مفارقةٍ كبيرة. فبعد عدّة محاولاتٍ فاشلة لإسقاط الإله من عرشه واستبداله بنسخة علمانيّة لائقة، نجحت الحضارة الأوروبية أخيرًا في إرساله إلى أقصى الظلمات مع تغيّر المجتمع الرأسماليّ، إلى درجة أنّ دعوة نيتشه إلى موت الله مرّت بسلام. فالإيمان الدينيّ أو غيرُه بالنسبة إلى الرأسماليّة المتقدّمة يؤدّي إلى الانقسام والخلاف، لذلك فهو ليس في صالح الترابط الاجتماعيّ.

إنّ رأسماليّة ما بعد الحداثة ترتكبُ خطأً كارثيًّا عندما تنظر إلى الإيمان على أنّه تزمّت واستبداديّة. فمَن يبدأ بالإيمان بالعفاريت ينتهي به الأمر إلى العمل في معسكرات الغولاغ.

هذا الخوف من التزمّت هو ما يدفع العديد من الشباب إلى استخدام كلمة «مثل» (like) كلَّ أربع ثوانٍ. فعبارة «إنّها الساعة التاسعة» تبدو مطلقة وجازمة بطريقةٍ كريهة، في حين أنّ «يبدو أنّها التاسعة» عبارة مناسبةٌ أكثر بما هي احتماليّة وموقّتة وتنقيبيّة. عندما سُئل آخر محافظ للندن عمّا إذا كانت لديه «قناعات»، أجاب بأنّه قد تلقّى واحدةً منها كمخالفةِ سَوق سيّارة.

في مقدور الرأسماليّة المتقدّمة، أو رأسماليّة ما بعد الحداثة، أن تمارس النسبيّة. فالإيمان ليس هو ما يضفي عليها التناغمَ والترابط، على عكس حال فرقة الكشّافة أو الكنيسة اللوثريّة. الإيمان الزائد غير مهمّ وغير مستحَبّ لمثل هذه المنظومات الاجتماعيّة. هو خطيرٌ سياسيًّا وغير ضروريٍّ تجاريًّا. فما دام المواطن يستمرّ في القيام من سريره والذهاب إلى عمله ودفع ضرائبه، يمكنه أن يؤْمن بما يريد.

قارَنَ هذا بإصرار الفيلسوفُ تشارلز تايلور على أنّ الإيمان جزءٌ جوهريّ من تعريف الذات.

إنّ انعدام الإيمان كامنٌ في جوهر الرأسماليّة المتقدّمة. فالحقيقة أنّ فترة ما بعد الحداثة يمكن أن توصَف بأنّها أوّل حضارةٍ ملحدة. لكنْ في اللحظة التي دَفن فيها المجتمعُ الغربيّ الله، اصطدمتْ طائرتان في مركز التجارة الدوليّ. وهكذا برز سردٌ ميتافيزيقيّ خالص عن الصراع بين الرأسماليّة المتقدّمة وقراءةٍ معيّنة للإسلام في اللحظة التي أُعلنتْ فيها «نهاية التاريخ» في الغرب وأنّ كلّ تلك الأمور المملّة قد انتهت.

فالذات الإلهيّة، على ما يبدو، لم يتمّ تثبيتها في نعشها بعناية، كلّ ما في الأمر أنّها غيّرت عنوانها.

الأصوليّة هي العقليّة المريضة الخاصّة بالذين يشعرون بالتجاهل والإذلال من قِبل عالم الرأسماليّة المتقدّمة، الذين قد يقرّرون أنّ السبيل الوحيدَ لجذب الانتباه إلى وجودهم هو أن يفجّروا رؤوس الأطفال الصغار باسم الله.

فالدول الأصغر والأضعف، التي عانتْ وطأة انتصار الغرب بعد الحرب الباردة، أطلقت العنان لردّ فعلٍ عنيف اتّخذَ شكل الإسلام الراديكاليّ. والآن، فيما يتعلّق بالإيمان، يعاني الغرب من نقصٍ لأنّه انهمك في فترة ما بعد الحرب الباردة، أي فترة ما بعد الحداثة، في ما يمكن أن نسمّيه حقبة نزع السلاح الأيديولوجيّ، فيتخيّل أنّ بإمكانه أن يعيش على مزيجٍ من البراغماتيّة والنسبيّة والعلمانيّة في اللحظة التي يواجهه فيها عدوٌّ أصوليّ وميتافيزيقيّ يؤمن بالأحكام المطْلقة.

إنّ الغرب، في مواجهته مع الإسلام الراديكاليّ، يبدو الآن في حاجةٍ إلى شيءٍ أقوى من «ما بعد الحداثة» لتبرير أعماله.