هكذا تلاشت فقاعة الديمقراطية الأميركية


رضي السماك
2020 / 11 / 27 - 19:05     

لعقود طويلة ظلت الولايات المتحدة تتباهى بنفسها كأعظم دولة في العالم في شتى مناحي الحياة الحضارية ؛ بدءاً من تطورها المذهل - الذي لا مراء فيه - في الميادين العلمية والتكنولوجبة والصناعية ، ومروراً بالمجالات الثقافية والفنية ؛ مع أنها في هذه المجالات بين بين ، وانتهاء بتقديم نفسها نموذجاً عالمياً ملهماً للشعوب باعتبارها دولة ديمقراطية - دستورية يفصل الدستور بين سلطاتها الثلاث وتظلل المساواة شعبها بمختلف أجناسه وأعراقه لا تشوب ممارساتها والمنظومة التشريعية التي ترتكز عليها شائبة ، بل أنها فوضت نفسها الراعي الأول لحقوق الإنسان في العالم والناهي عن انتهاكاتها، وعينت نفسها " الشرطي الدولي " لتأديب المنتهكين ، ومن ثم استطاعت بهذه السياسة الديماغوجية من خلال ما تملكه من جبروت جهاز إعلامي أن تكسب شرائح وفئات غير قليلة من شعوب ودول العالم الفتية . وهي لتحقيق هذا الغرض لغسل عقول شباب تلك الدول من كوادرها الواعدة لم تتوان عن انفاق مليارات الدولارات منذ أواخر أربعينيات القرن الآفل مع بدء الحرب الباردة بغية التأثير في توجهاتهم الثقافية والروحية لتكون على طريقة نمط الحياة الرأسمالية الأميركية ؛ فما زال حتى يومنا هذا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تستضيف لهذه الغاية بصفة منتظمة وفوداً من أغلب دول العالم الثالث لتعريفهم على منجزاتها في المجالات العلمية والإنسانية المتقدم ذكرها ، وبضمنها على وجه الخصوص السياسية ، كما في البرنامج المعروف " الزائر الدولي " الذي يستمر لبضعة أسابيع و تنفق عليه ملايين الدولارات سنوياً ، أو منحهم دورات تدريبية مجانية طويلة الأجل . بيد أن هذه الفقاعة المتضخمة التي أستمرت طويلاً باتت معرضة للانفجار والتلاشي أكثر من أي وقت مضى جراء النتائج الكارثية لحكم الرئيس ترامب الموشكة ولايته على الانتهاء .
في مثل هذا الوقت غداة إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 وقفت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون لتعلن مبتسمة أمام جمهورها بكل شجاعة اعترافها بخسارتها في السباق الانتخابي قائلة : أن النتيجة أظهرت وجود انقسام عميق في بلدها أكثر مما توقعته ؛ لكنها شددت على أهمية قبول النتيجة كقيمة ديمقراطية " مقدسة " حسب تعبيرها ؛ واعترفت بفوز غريمها الرئيس الحالي ترامب الذي مازال يرفض بعناد حتى اللحظة التسليم بهزيمته والاعتراف بفوز منافسه الديمقراطي جو بايدن ؛ مشككاً في نزاهة وحيادية العملية الانتخابية ، وهو موقف غير مسبوق في شدته وهزليته طوال ما يقرب من قرنين ونصف القرن من تاريخ الانتخابات الاميركية . لكن كلينتون إبنة النظام الرأسمالي لم يتبين لها انقسام شعبها - حسب زعمها - إلا على إثر ظهور النتيجة المغايرة لطموحاتها وتوقعاتها القوية بالفوز ؛ لا كمن يدرك سياسياً ذلك الانقسام -طبقياً واجتماعياً- الموجود منذ أمد طويل رغم آليات النظام " الديمقراطية " المزعومة ، فلو كانت كلينتون تمتلك هذه الرؤية لأدركت عن حق عمق ذلك الانقسام دونما حاجة لظهور نتائج الانتخابات ، وهو انقسام قد بلغ الآن مع نهاية ولاية ترامب شرخاً أعمق وأعمق ؛ بل يمكن القول أن ثمة خللاً خطيراً في النظام السياسي نفسه بات مكشوفاً ، وكف منذ أمد غير قصير أن يكون ضابطاً للاصطراعات الطبقية والاجتماعية كما رام الآباء الرأسماليون أو كما يُسمون مؤسسيه التاريخيين الذين وضعوا لبناته الأولى قبل تحوله إلى امبراطورية رأسمالية أمبريالية كبرى ، حتى تحول الفشل في الضبط إلى فضيحة مدوية للنظام .
وفي ظل انتفاء إمكانيةحدوث ثورة شعبية لا يبدو قد أزفت شروطها الذاتية والموضوعية بعد ؛ لعوامل عديدة ليس هنا موضع تناولها ، فإن الحاجة باتت ملحة لتحقيق إصلاح " راديكالي " إذا ما أمكن تحقيق التفاف و تكاتف أوسع القوى السياسية والاجتماعية المتضررة من الوضع الراهن الخطير الذي بلغته البلاد ، فالإصلاح الراديكالي من شأنه - حيثما توفر في أي بلد - عند تعذر الثورة أن يمهد الأرضية لانتقال سلمي للسلطة قد يسمح لاحقاً لتحقيق ثورة من داخل النظام بما يجنب الثورة الشعبية باعتبارها الاداة الأكثر تكلفةً وخطورة على الشعب والنظام معاً في زعزعتها للاستقرار الإجتماعي ؛ وبخاصة إذا ما جاءت عنيفة غير مأمونة العواقب قد تطول المدة معها دون تحقيق الاستقرار المنشود فتتضاعف الخسائر الكارثية لا سيما البشرية منها .
مهما يكن فإن ثمة ثلمة خطيرة معيبة لحقت بسمعة تاريخ هذا النظام الرأسمالي العريق في إظهار نفسه نموذجاً عالمياً ديمقراطياً عنوانها : " الانتقال غير السلس في تداول للسلطة " !