الإخوان وجذور الإرهاب الدينى


رياض حسن محرم
2020 / 11 / 26 - 21:30     

ارتبط في أذهان الكثيرين أن الإرهاب الدينى المرتبط بالإسلام نشأ في العالم منذ عام 2001 وتفجير برجى التجارة العالميين بجزيرة مانهاتن في نيويورك بالولايات المتحدة، ومنذ ذلك التاريخ حفلت الميديا الأمريكية وأضابير الأدب والدراما في العاالم بعشرات الأعمال والتفسيرات المعقول منها والموغل في شططه عمّا حدث، ووصل الأمر أحيانا الى نفي الحادثة من الأساس أو تحميل المخابرات الأمريكية الضلوع في التدبير لها أو المداراة والتدليس على ماحدث لتمهيد الأرض لما أتى بعدها من غزو لأفغانستان و العراق وفرض هيمنة القطب الأعظم على العالم.
ولكن ماحدث من ضلوع تنظيم القاعدة بقيادة "أسامة بن لادن" بتلك االأحداث، التى قام هو بنفسه بتفسيرها وتبريرها على شاشات التلفزة، وشرح دور كل فرد من ال 19 في تنفيذ جزئية مما حدث، قد يفسّر ذلك جزء من تلك الحقيقة الغائبة، ولكن جذور ذلك تبدو أبعد بكثير مما حدث هذا اليوم، وهى في حقيقتها ترجع الى عام 1928 ونشأة جماعة الإخوان المسلمين في مدينة مصرية منعزلة اسمها "الإسماعيلية".
إن ماوضعه المؤسس "حسن البنا" من أفكار وأدبيات يعد ساذجا مقارنة بما أضافه اليها "سيد قطب" من تعميق لفكرة الجهاد والتكفير، فهو المنشإ لفكرة "الجهاد العالمى"، وتقسيم العالم الى دارين، "دار سلم" وهى من يقيم عليها مسلمون عدول لا تثريب على ايمانهم، وبقية العالم الذى هو "دار حرب" ومن المفروض سيطرة الإسلام عليها بالقوة والعنف، تحت مسمى "استاذية العالم"، وهو من صاغ نظرية الحاكمية وتتعبييد الناس لربهم، من خلال عدة مراحل تبدأ بالإستضعاف والعزلة الشعورية في مواجهة تلك الحالة من الجاهلية الثانية، مرورا بالجهاد لتحرير الأوطان الإسلامية، ثم الإنطلاق الى تحرير كل العالم، وتعتمد الأدبيات الإخوانية بصورة رئيسية على مؤلفات كلّ من حسن البنّا (1906 - 1949)، مؤسس الجماعة ومرشدها ومنظّرها الأول في مجموعة الرسائل أساسا، وسيّد قطب (1906 - 1966) الذي يفوق دوره التنظيري أهميةً عن البنا بمراحل في كتابيه "معالم في الطريق" و "في ظلال القرآن"، ويعدّ سيد قطب الشخصية الإخوانية الأكثر جرأة ووضوحاً في التعبير دون مواربة عن حقيقة هذا التنظيم وغاياته. فهما يشكّلان معاً المرجعية الفكرية الرئيسية للإخوان المسلمين، حتى أنّ كلّ تنظير إخوانيّ لاحق - على قلّته قياساً بعمر الجماعة وحجمها التنظيمي – يستند إلى تلك المرجعية وينهل منها، فلا يخرج عن الأطر والمحدّدات التي وضعتها.
في أدبياتهم يرفض الإخوان المسلمون صراحةً الاعتراف بالحدود بين الدول، فلا يقيمون اعتباراً حقيقياً لوطنٍ أو جنسية، ذلك أنهم يستعيضون عنهما بفكرة "الوطن/الأمّة". ولا يراد هنا بالأمة معناها السياسي الحديث أو فكرة الأمة/الدولة التي تضمّ جميع المواطنين، وإنما "الأمة" عندهم هي الجماعة الدينية حصراً. ولعلّ مما يدلّل على أهمية هذه المقولة ومركزيتها في الفكر الإخواني أنها وردت في الوثيقة الأهمّ التي وضع فيها حسن البنّا أسس وقواعد "إسلام الإخوان المسلمين" وفق تعبيره، وهي رسالة المؤتمر الخامس والتي تضمّنت أيضاً عباراته الشهيرة: "الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف"، وكما يقول قطب "إن الوطن ماهو الاّ حفنة من تراب عفن"، كما أن البنا لا يعترف بالحدود الجغرافية بين الدول، وعدم اعترافه بالدول القائمة نفسها، فهو يعتبر أن المسلمين هم جميعاً "أمة واحدة"، وأنّ "الوطن الإسلامي" وطن واحد مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده، وأن الإخوان المسلمين "يقدسون هذه الوحدة ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين، وينادون بأنّ وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول (لا إله إلا الله محمداً رسول الله)، كما أكّد سيد قطب على هذه المقولة في كتابه الأشهر "معالم في الطريق"، حيث أفرد لمعالجتها فصلاً كاملاً بعنوان "جنسية المسلم وعقيدته"، وفيه لم يسهب في تفصيل و"تأصيل" الفكرة فحسب، وإنما دفع بها إلى أقصى حدود التطرف والعدائية؛ إذ "قرّر" قطب أنّ الإسلام: "جاء ليقرّر أنّ هناك وشيجة واحدة تربط الناس في الله فإذا انبتّت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة... وأنّ هناك حزباً واحداً لله لا يتعدد، وأحزاباً أخرى كلها للشيطان وللطاغوت" وفي ما بدا أنه إحياءٌ لمضمون إحدى الفتاوى الإشكالية الغابرة لابن تيمية، المعروفة باسم "فتوى ماردين" والتي قسم فيها العالم إلى "دار الإسلام ودار الحرب"، ثم يخلص إلى القول: "لا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله... ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضوا في الأمة المسلمة في دار الإسلام، ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله، اذن فالإسلام فقط هو صلة المودة الوحيدة التي يمكن أن تجمع "المسلمين" (حسب المعايير القطبية) بغيره حتى لو كان هذا الغير أباه أو أمّه، فما بالك بالمسلمين الآخرين الذين لا يتوافق إسلامهم مع أفكار قطب، فضلاً عن غير المسلمين. فلا قيمة ولا اعتبار لأي روابط إنسانية أو علاقات مواطنة على أسس مدنية وقانونية تنظم علاقة الأفراد فيما بينهم، أو بين كل منهم وبين البلد الذي يعيش فيه. وليس الوطن سوى البلاد التي يطبّق فيها "إسلام" قطب وجماعته على النحو الذي يريدون!"
إن كتابات سيد قطب تعدّ من الركائز التي قام عليها "الفكر الجهادي" المعاصرونقلت منها أو ااستشهدت بها كل تنظيمات "الإسلام السياسى" اللاحقة، وفي ثمانينيات القرن العشرين تدفّق آلاف الإسلاميين على أفغانستان، قادمين من شتى أصقاع الأرض للمشاركة في القتال ضدّ الغزو السوفييتي. لم يكن هدف هؤلاء دحر السوفييت فحسب؛ بل كانوا مدفوعين بأيديولوجية تهدف إلى إقامة "حكم إسلاميّ"، هؤلاء الذين عرفوا لاحقا باسم "الأفغان العرب" والذين قدموا إلى أفغانستان من خمسة عشر بلداً عربيّاً على الأقل، وكانت جماعة الإخوان المسلمين بحجمها وإمكاناتها وخبراتها التنظيمية هى الفريق المهيمن على الشارع الإسلامي وقتها، برغم كلّ ما تعرّضت له من حملات قمع وتصفية في مصر وسوريا وغيرهما لكنها نجحت في أن تستقطب وتدمج في أطرها بعض التنظيمات الإسلامية الشبابية الناشئة فيما أسموه "الصحوة الإسلامية"، كما حدث في مصر زمن المرشد "عمر التلمسانى" واندماج الجزء الأكبر من الجماعة الإسلامية بقيادة الطبيبين "أبو الفتوح والعريان" والتي سميت بإعادة الإحياء أو التأسيس الثانى للجماعة، لذلك كله يمكن التأكيد بأنّ العدداً الأكبر من "الأفغان العرب" كانوا من الإخوان المسلمين أو نشؤوا في كنف الجماعة أو يدورون في الفضاء الإخواني على أقل تقدير، ابتداءا من "عبدالله عزّام ومرورا بأسامة بن لادن والظواهرى وغيرهم، فالمصادر الإخوانية تحتفي بالأفغان العرب وتؤكّد انتماء أبرزهم إلى الجماعة. ولعلّ عبد الله عزام (1941-1989)، يشكّل المثال الأهمّ، حيث كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وهو "رائد الجهاد الأفغاني" ومؤسس "مكتب خدمات المجاهدين"، ويعتبر"شخصية محورية في تطوير الحركات الإسلامية المسلحة، وتبنى أسلوباً عملياً لضم وتدريب المسلحين من الاخوان المسلمين من أنحاء العالم"، وكانت تجربته "مؤثرة على التطور اللاحق لتنظيم "القاعدة "، وتجدر الإشارة إلى أن عزّام كان على صلة مع مروان حديد (1934 - 1976)، القيادي الإخواني و"مؤسس الجهاد السوري"، وكان عزّام "متأثراً بفكرة الطليعة الجهاديّة، التي أسسها مروان حديد وبنى عليها فكرة الطليعة المقاتلة، والتي تقوم في جوهرها على فكرة قلّة مجاهدة تقود المعركة وتعمم الثورة، وهي الأساس ذاته الذي تقوم عليه تنظيم القاعدة.
(هذه مقدمة لكتاب عن "الإخوان وجذور الإرهاب" سوف أنشر هنا حلقاته تباعا)