بين السياسي والمثقف


حسن مدن
2020 / 11 / 24 - 14:40     

يرى إدوارد سعيد أن لدى المثقفين استعداداً فطرياً لفن التمثيل، سواء أكان ذلك حديثاً، أم كتابة، أم تدريساً، أم ظهوراً على شاشة التلفزيون، وذلك الاستعداد يتضمن كلاً من الالتزام والمجازفة، الجرأة وقابلية السقوط معاً.
ذلك أنه بالوسع أن نرى في الحياة الحديثة كيف يقوم المثقفون بدور تمثيلي فيها، عندما ينظر إليها كرواية، أو دراما، لا كعمل تجاري، أو كمادة لدراسة اجتماعية، ليس لحركة اجتماعية ما، نخبوية أو واسعة الانتشار فقط، بل لأسلوب حياة، وأداء اجتماعي معين.
كاتب وأكاديمي آخر، أمريكي الجنسية هو كوري روبن، يرى، مستعيناً في ذلك ببعض أطروحات ماكس فيبر، أن المثقف، أو تحديداً ما أطلق عليه: المثقف الجماهيري، هو مركب من مهنتين، أولاهما العلّامة، والثانية هي السياسي، فلا هو أكاديمي صرف، ولا هو سياسي صرف، إنه جامع بين الصفتين، وهو جمع تنجم عنه شخصية أخرى، ثالثة، غير تلك التي للأكاديمي أو للسياسي.
هذا أمر قابل للسجال بالطبع، ولكن خبرة الحياة، خاصة في التاريخ المعاصر، أظهرت أن هناك ساسة مثقفين، وهناك أيضاً مثقفين مشتغلين بالشأن السياسي، وليس مجرد منشغلين به، أي أنهم منخرطون فيه، والفرق جلي حين نتحدث عن ساسة مثقفين، بمعنى أن السياسة هي احترافهم الأساس، لكنهم رغم ذلك يتحلون بثقافة عميقة تعينهم في عملهم السياسي، لما توفره لهم الثقافة من مهارات وملكات في فهم الواقع الذي يسعون لتغييره أو تطويره، وعلى بلورة ما ينادون به في خطابات متماسكة تقدم إلى الجمهور.
أما المثقف المشتغل بالسياسة، أي المنخرط فيها، فإنه أميل إلى تقديم نفسه كمثقف أولاً، وبالتالي فهو لا يلزم نفسه بالتمكن من المهارات والملكات التي للقائد السياسي، فهي إن لم تتوفر عنده، فإن ذلك لن يعد نقيصة، ذلك أن اشتغاله بالسياسة هو من قبيل الالتزام الأخلاقي، أو استجابة لنداءات الضمير عنده، حين يدور الحديث طبعاً عن السياسي - المناضل، لا السياسي البراجماتي الباحث عن الغنائم.
«أريد 200 مليون شخص يغيّرون عقولهم»، قائل هذه العبارة هو كاتب اسمه فيدال جور، استشهد بمقولته هذه كورين روبن آنف الذكر، وهو في هذا يقترب من طموح السياسي، الذي يتوسل للتأثير في أذهان الجمهور وسائل ليست ثقافية بالضرورة، كقوة الإقناع، ومهارة الخطابة والفصاحة، والكاريزما، وإثارة العواطف.
عادة الكاتب لا يقول قولاً كهذا حتى لو غيرت كتابته مئات الملايين من الأشخاص، لا مئتي مليون فحسب، لأنه إذ يكتب لا يفترض أنه يخاطب جمهوراً محدداً بعينه، فهو يكتب للجميع، ومع أنه يتوقع، وقبل ذلك يرغب، في أن هذه الكتابة قد تغير أذهان الكثيرين، لكن من دون أن تكون عنده وحدات القياس التي لدى السياسي.