ما بعد الجائحة: مقدّمات عالم قَيدْ التشكّلْ


حسن مدن
2020 / 11 / 23 - 18:46     

أظهر تفشّي جائحة "كوفيد - 19" إلى أيّ مقدار العالَم هو قرية كونيّة بالفعل، ولكنّ هذه "الكونيّة" ليست بمنجاة من مَخاطِر آتية إليها من أحد مراكزها أو أطرافها، ما كانت ستعرفها لو ظلَّت مجرّد قرية. وخطر هذه الجائحة لا يتجلّى، فقط، في اتّساع انتشارها والعدد المُتزايِد من أرواح البشر التي تحصدها، وإنّما أيضاً في طريقة تعامُل الحكومات والمُجتمعات معها، التي تنمّ عن فقدان الجاهزيّة، والفشل في توفير ما يلزم من عدّة وعتاد لمُواجهتها.
بتنا وجهاً لوجه مع عاهاتٍ كثيرة تنخر عالَم البشر. بعضها ظاهر لا يتوارى أبداً، وبعضها كامن ينتظر الفرصة فقط لمُعاوَدة التذكير بأنّه "حيّ يُرزق". ووباء "كوفيد - 19"، على خطورته وشراسته، ليس هو التحدّي الوحيد الذي يُواجه العالَم، فهناك ما لا يقلّ خطورة عنه: الكوارث الطبيعيّة، الاضطّرابات والنزاعات السياسيّة والاجتماعيّة النّاجمة عن إخفاقنا في بناء مُجتمعات عادلة تصون حقوق أبنائها، هموم الحياة اليوميّة التي تُثقل كاهل ملايين، لا بل مليارات البشر، حمّى الحياة الاستهلاكيّة الفارغة من المعنى، الحروب العبثيّة المُدمِّرة التي يروح مئات الآلاف ضحايا لها، الاستهتار وعدم المسؤوليّة في العلاقة مع البيئة المُحيطة، فأتت الجائحة لا لكي تُكشِّر عن أنيابها القاتلة في وجوهنا فحسب، وإنّما لتُرينا، أيضاً، وبكلّ وضوح ما في عالَمنا من عاهات.
ما هو متيّسر من وقائع رئيسة في التاريخ البشري، يُرينا أنّ الإنسان مرَّ بمُنعطفاتٍ كبرى، غيَّرت الكثير فيه وفي المحيط من حوله وفي طريقة تسييره للأمور. بعض هذه المُنعطفات من صنْع البشر أنفسهم. الحروب مثلاً، سواء الصغيرة منها أم الكبيرة بخاصّة، والفاصِلة كَونيّاً، مثل الحربَين العالَميّتَين الأولى والثانية، ما كانت ستقوم لولا حماقات الإنسان نفسه، وهو يصارع على النفوذ والثروة والاستئثار بخيرات الكوكب، وهناك منعطفات أخرى يصعب القول إنّ الإنسان وحده مسؤول عنها، وبينها الجوائح والأوبئة القاتلة التي لها تاريخ أسود في العلاقة مع الإنسان، ولم يكُن عدد ضحاياها في أزمنة سابقة أقلّ من ضحايا "كوفيد - 19"، حتّى اللّحظة على الأقلّ، لكنْ يُمكن القول إنّه أخطر وباء تُواجهه البشريّة خلال المئة عام الأخيرة.
هذه المحنة أعادت طرح السؤال الفلسفي العميق عن مصير الحياة البشريّة على كوكب الأرض، فثمّة أطروحات سابقة حذَّر اصحابها من قرب مَوت الإنسان، لا بمعنى مَوت الأفراد الذي نعرفه، وإنّما نهاية البشر ككائنات. وأصحاب هذه الأطروحات يرون أنّ البشر ليسوا سوى إحدى دَورات الحياة على الكوكب، وكما انقرضت الديناصورات وسواها، فليس هناك ما يَضمن عدم انقراض البشر ذات يوم، بخاصّة أنّهم لا يتمتّعون، بيولوجيّاً، بالكثير من السمات الدفاعيّة التي تتّسم بها الحيوانات، وتَجعلها أكثر قدرة على التكيّف مع الطبيعة.
سعى الباحث الكندي ستيفن بنكر لإقناعنا بأنّ أفضل أيّام البشر قادمة. حاثّاً إيّانا على ألّا ننساق وراء أخبار الكوارث، لنحسب أنّ نهاية العالَم أصبحت وشيكة. الصحافيّون، في رأيه، يغطّون سقوط الطائرات ويتجاهلون الآلاف المؤلَّفة من الطائرات التي تقلع وتهبط بسلام. لم يكُن كوفيد - 19 قد حلّ بعد، لذلك كان الرجل في منتهى الثقة وهو يقول: "انظروا إلى موضوع الجدري وطاعون الماشية في "ويكيبيديا"، ستجدون أنّ هذه التعاريف عائدة إلى الزمن الماضي"، ما يعني أنّ اثنَين من أكبر مَصادر الشقاء في الوجود البشري تمّ اقتلاعهما إلى الأبد". ولكنّ "كوفيد - 19" بدَّد هذا الوَهْم، فما حسبناه ماضياً فقط، لا عودة له، عاد إلينا بمنتهى الشراسة والعدوانيّة.
وفضلاً عن كلّ ما كان البشر يعتقدون أنّهم بلغوه من تقدّمٍ في العلوم، بما فيها الطبّ، فإنّهم أظهروا، حتّى إشعارٍ آخر، قلّة حيلتهم أمام هذا الفيروس، وعجزْهم عن التصدّي الفعّال له، والقضاء عليه، على الرّغم من أنّ الأطبّاء والعُلماء المُختصّين حذّروا، قبل سنوات، من أنّ وباءً عالَميّاً ناجِماً عن بعض سلالات الأنفلونزا مُقبِلٌ لا محالة، وأنّ هذا الوباء قد يأتي قريباً جدّاً ويُمكن أن يتأخّر سنوات، ما يَقتضي "وضْع ما يُمكن أن نُطلِق عليه خِطط الطوارىْ لمُواجهته مُبكّراً، بالعمل على إعاقته، وهو في بداياته". ولعلّ ما يُعاني منه العالَم اليوم من وباء هو نفسه الذي توقَّع العُلماء حدوثه وحذَّروا منه، وطالَبوا بخِطط طوارىء استباقيّة لمُواجهته، وهذا ما لم يفعله العالَم للأسف، بل إنّ أوّل طبيب صيني لاحظَ ظهور الفيروس عُوقِب من سلطات بلاده، قبل أن يستفحل وينتشر ويتحوّل إلى وباء يقتل الناس، فيما ظلّ الكثير من زُعماء العالَم، حتّى وقت قريب، يَسخرون من الأمر ويُسفّهون المعلومات عن خطره الماحِق.
وفي حال اجتازَ البشر المِحنة، سنكون إزاء اللّحظة التي تعقب الانعطافات الكبيرة في الحروب، كتلك التي عرفها العالَم بعد الحربَين العالَميّتَين الأولى والثانية. صحيح أنّ نيران الأسلحة لم تُطلق، والدماء لم تَسل في الحرب ضدّ "كوفيد - 19"، ولكنّه أَسهم وسيُسهِم في خلْق عالَمٍ جديد، عالَم تالٍ له.
الحقّ أنّ إرهاصات ومقدّمات العالَم الذي يُعجِّل تفشّي الجائحة في تبلْوره واستوائه، قائمة بالفعل، حسبنا هنا أن نُشير إلى بعض المظاهر، التي ليست هي الجوهريّة بالضرورة، لكنّها شديدة الأهميّة أيضاً. فقد أَقعدنا "كوفيد - 19"، اضطّراراً، في بيوتنا، وحوَّل مُدناً تضجّ بالحياة الصاخبة ولا تنام إلى مُدنِ أشباح، اختفى البشر من شوارعها ومحلّاتها ومقاهيها وحاناتها، فأصبح ملاذنا في عالَمٍ آخر، هو العالَم الافتراضي، الذي لم يخلقه تفشّي الجائحة، ولكنّ تفشّيها أظهر أنّه سيكون العالَم الموازي، وربّما البديل، للعالَم الواقعي، وأنّ تواصلنا المُقبل قد يكون عن طريقه فقط.
ولم ينشأ العمل عن بُعد، أو العمل مع المنزل، مع تفشّي الجائحة، ولكنّ العالَم، أو عدداً كبيراً من دوله، كانت جاهزة له، وبالتالي فإنّه عوَّض، ولو جزئيّاً، عن إغلاق الكثير من الشركات والوزارات والمؤسّسات مقرّاتها، أو بعض فروعها. وحتّى الدول غير المُستعدّة لهذا النمط من العمل، لن تَجد مفرّاً، في حال طالَ أمد الوضع الذي نحن فيه، من أن تسعى لتهيئة نفسها له.
لا أحد، في تقديرنا، يضمن أنّ العالَم سيعود عن العادات التي سيُكرِّسها تفشّي الجائحة. على سبيل المثال، قد يتقلّص حَجمُ الوظائف بنسبة كبيرة، طالما أصبح بالإمكان تسيير الكثير من أمور الاقتصاد وعالَم المال والشؤون الإداريّة بالعمل عن بُعد، أو العمل من المنزل، بأعدادٍ أقلّ من العاملين، وهو أمر يصبّ في مصلحة الشركات وأصحاب رؤوس الأموال.
لكنّ الأكثر جوهريّة في الأمر، هو أنّ تفشّي "كوفيد - 19" أظهر عجْز الدول التي تصف نفسها باللّيبراليّة، ولاسيّما تلك التي تُجاهر بما يُعرف بـ"اللّيبرالية الجديدة" في صورتها الأشد أنانيّة وتوحّشاً القائمة على تعظيم أرباح الرأسمال الكبير وغنائمه، وتهميش أوسع ما يُمكن من الناس، اقتصاديّاً واجتماعيّاً، ما أدّى إلى تلاشي الطبقات الوسطى واضمحلالها، وتردّي الخدمات الاجتماعيّة الضروريّة في مجالاتٍ حيويّة كالتعليم والصحّة ومَرافِق البنية التحتيّة وما إليها، فانكشف تردّي الخدمات الطبيّة في هذه الدول، ووجود قطاعات شعبيّة هائلة العدد خارج مظلّة التأمين الصحّي، التي يستثمر فيها القطاع الخاصّ بالدرجة الأساسيّة، والمَعنيّ بمُراكَمة الأموال، أكثر من عنايته بالسلامة البدنيّة للناس.
وكان التعبير الصارخ عن ذلك ما ذهب إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في بدايات الجائحة، من أنّ موت 150-200 ألف أميركي مع خطر فقدان مليونَي مُواطِن لأعمالهم، هو أهون الشرور. ولا تقلّ فجاجة دعوة رئيس الحكومة البريطانيّة بوريس جونسون إلى ما وصفه باستراتيجيّة "مناعة القطيع" التي تعني إطلاق العنان للفيروس كي ينتشر ويأخذ مداه، قبل أن ينحسر من تلقاء نفسه، "مُبشِّراً" البريطانيّين بأن يستعدّوا لفقْد الكثيرين من أحبّتهم.
مُقدّمات العالَم المُنتظَر
هنا أيضاً يُمكن مُلاحظة أنّ مُقدّمات العالَم المُنتظَر بعد السيطرة على الجائحة، قد أخذت في التشكُّل منذ عقدَين أو ثلاثة، فبدرجةٍ كافية من الثقة يُمكن القول إنّ نِظام القطبيّة الأحاديّة قد انتهى، أخذاً بعَين الاعتبار حقائق من نَوع استعادة روسيا جوانب من مَهابتها الدوليّة التي كانت لها في العهد السوفييتي، والأهمّ من ذلك هو الصعود الصيني، بخاصّة من وجهة النظر الاقتصاديّة، وأتت طريقة تصدّي الصين لتفشّي الفيروس في أراضيها وتمكُنها من احتوائه بسرعة قياسيّة وفي أضيَق نِطاقٍ مُمكن، لتُقدِّم دليلاً قويّاً على جاهزيّة منظومتها الاقتصاديّة - الاجتماعيّة في التعامُل مع التحدّيات، التي كان "كوفيد - 19" نموذجاً لها، فيما لا زالت القوّة الدوليّة الأكبر في العالَم، الولايات المتّحدة، تتخبّط في المُعالَجة، وتنمّ التصريحات المُتناقضة لرئيسها عمّا هي عليه إدارته من ارتباك.
لا يقلّ دلالة تفاقُم مَظاهر التناقُض الأميركي - الأوروبي الذي يتجلّى في طريقة إدارة الرئيس الأميركي لملفّ العلاقات مع أوروبا. فـ"الأخّ الأكبر" الأميركي لم يعُد يُظهر ما هو مطلوب من رعايةٍ للأشقّاء الأصغر في أوروبا، وكان بعض الباحثين الغربيّين، وبينهم سوسان جورج في كِتابه: "أنا والعَولمة - عالَم بديل مُمكن"، تمنّى، وهو ينطلق من التسليم ببداية أفول الدَّور الأميركي، أن تكون أوروبا الموحّدة هي البديل، فلا بديل لعالَم آخر مُمكن من دون أوروبا الواعية لجذورها وثقافتها. بل إنّه يذهب حدّ القول إنّه إذا لم ننجح في إقامة مثل هذا الوعي الأوروبي، بضرورة نشوء أنموذج مُختلف تماماً عن الأنموذج الأميركي، كأساسٍ للعالَم البديل، فإنّ هذا العالَم لن يُصبح مُمكناً، بل إنّ أوروبا نفسها قد تتحوّل إلى مجرّد قارّة فيها كنائس وقصور جميلة، ولكنّها فاقِدة للدَّور.
وكشفت الجائحة أنّ أوروبا أبعد ما تكون عن هذا الدَّور، وها هو اتّحادها يترنّح، ليس لأنّ بريطانيا، بكلّ ما لها من ثقل، قد خرجت منه فحسب، وإنّما أيضاً لأنّ كبير الدول وصغيرها فيه فشلت في إظهار أيّ تضامُنٍ مُتبادَل في مُواجَهة الكارثة، ما جعل إيطاليا تُعبِّر عن مَظاهِر الامتنان، لا إلى الصين وروسيا وحدهما، لمدّهما يد العون إليها، إنّما أيضاً إلى كوبا، الجزيرة الفقيرة المعزولة والمُحاصَرة، لكنّها برهنت على امتلاكها لواحد من أكثر الأنظمة الصحيّة كفاءة في العالَم. لقد كشف "الاتّحاد الأوروربي" عن نفسه، فإذا به أبعد ما يكون عن الاتّحاد، وأنّه في الحقيقة مجموعة من الدول - الأُمم التي باتت تفكِّر في مصلحتها، لا في مصلحة مجموع القارّة. وبالتالي لم يعُد ترامب وحيداً في رفْعه شعار "أميركا أوّلاً، فها نحن إزاء "بريطانيا أوّلاً"، و"ألمانيا أوّلاً"، و"فرنسا أوّلاً"... إلخ.
المؤكّد أنّ إدارة مُختلفة للتناقضات القائمة ستُصبح ضرورة لا مناصّ منها، لكنّ السؤال يبقى: هل ستُغادر البشريّة أوهامها هذه بعد أن ينجح العِلم في قهْر الجائحة؟ أشكّ في ذلك كثيراً، بدليل أنّ الرئيس ترامب لم يجد ما يفعله، وهو يتخبّط في إدارة الأزمة، سوى التهديد بقطْع المُساعدة عن منظّمة الصحّة العالَميّة!