ديموقراطية .. غير شعبية - نص شبه أدبي

إبراهيم إستنبولي
2006 / 7 / 14 - 10:21     

ببطء رحت اقطع الشارع الرئيسي لقريتنا . من وقت لآخر كنت أصطدم بالمارة ، الذين كانوا يسرعون إلى حيث كنت متجهاً ... لم يكن البعض منهم قد استعاد نشاطه بعد يوم أمس . و قد كان ممكناً أن ترى في الشارع جميع أهالي قريتنا الصغيرة . مع أنه لا أعرف كيف يمكن اعتبارها صغيرة طالما أنه لم يسبق لأحد منا أن رأى طيلة حياته قرى أخرى . لذلك يمكنني القول : إن قريتنا كبيرة . كان يعيش فيها حوالي خمسمائة نسمة . و لكن هذا العدد ليس نهائياً و لا دقيقاً ، لأنه لم يسبق أن قام أحد و لا في أي وقت بإحصاء سكان القرية . و إنما ببساطة اعتدنا أن نحسب عدد أهالي القرية يساوي خمسمائة بالضبط . و قد تآلفنا جميعاً مع هذه الفكرة .
و اليوم بالتحديد خرج جميع سكان القرية من منازلهم و .. انطلقوا . و ما كان ليرى أحد في ذلك أمراً غريباً .. إلا في حالة قريتنا . فهذه أول مرة يحدث ذلك عندنا . و قد يسأل أحدكم : لماذا ؟ . لماذا اليوم بالتحديد خرج الجميع و راحوا يغذون السير .. علماً أنهم ، لاحظوا ، راحوا يسيرون في اتجاهين مختلفين . في اتجاهين بالضبط . فما الذي أجبرهم على مغادرة بيوتهم . نعم ، لقد جمعوا أغراضهم ، هجروا منازلهم و انطلقوا في الدرب . و كل أولئك الخمسمائة من الناس يسيرون بصمت . و هم اليوم صامتون لأنهم قالوا كل ما أرادوا قوله في الأمس . أما اليوم فهم ببساطة يغذون السير .
و لكن كيف بدأ كل هذا ، ما الذي دفع هؤلاء الناس الراشدين لأن يجمعوا أشياءهم و أن يغادروا منازلهم ؟ لذلك لا بد قبل كل شيء أن تعرفوا عنا أكثر قليلاً .
تقف قريتنا على هذه التلال منذ قرون . سكان قريتنا يحبون العمل . و لدينا آلهتنا الخاصة . نعم ، آلهة بالتحديد . و كانت توجد عندنا كما ، بالمناسبة ، عند أي شعب يملك آلهة ، مجموعة من الأعياد التي نحتفل فيها على شرف تلك الآلهة . و بالفعل ، كان لدينا عدد كبير من الأعياد . و قد كنا فيما مضى من الأعوام السابقة ننجز أعمالنا و نحتفل بكل الأعياد . و لكن هذا العام صادف أن كان الشتاء قاسياً جداً ، ربما كان الشتاء الأكثر قسوة في تاريخ قريتنا ، و لذلك لم يكن بمقدورنا أن نحتفل بجميع الأعياد ، و إلا لكنا هلكنا من الجوع . فقررنا أن نتخلى عن بعض الأعياد . و لكن كيف السبيل إلى اختيار الأعياد ، التي يجب التخلي عنها ! لقد كان القرار صعباً . إلا أنه لا توجد مسائل غير قابلة للحل . و نحن نحلّ جميع مشاكلنا دائماً عن طريق التصويت . ففي قريتنا توجد ساحة كبيرة . و في وسط الساحة يوجد ميزان ضخم مع وعائين في كفتيه . كنا كلما نشأ خلاف ما نلجأ إلى التصويت على الموضوع بأن يأتي كل مواطن إلى الساحة و يرمي في أحد الوعائين حبة حنطة واحدة . و من ثم ، بعد أن ننتهي جميعاً من الاختيار ، كانوا يزيلون الدعامة من تحت الأوزان و على الفور تتضح الجهة التي يميل إليها الميزان . بهذه الطريقة كان جميع أهالي القرية يشاركون في عملية الاختيار . ، نعم جميع الأهالي بالضبط ، لأن حق التصويت كان مكفولاً للجميع ، باستثناء أولئك ، الذين لا يستطيعون الوصول إلى الوعائين . و هذا ما كان في هذه المرة أيضاً .
بداية قررنا أنه لا يجوز أن نتخلى عن جميع الأعياد . كان يجب علينا أن نختار واحداً من الآلهة لكي لا نحتفل بعيده في هذا العام . و لكن أياً منها نختار . إذ كان كل فرد يؤمن بإله محدد فقط . فكيف يمكنه أن يتخلى عنه ، و أن يسمح للآخرين أن يحتفلوا بأعياد آلهتهم دون أن يفعل هو الشيء ذاته . لم يكن ممكناً أن يتخيل أحد إمكانية حدوث ذلك . في البداية أراد الجميع أن يبقوا الأمور على حالها كما هي ، بشرط أن يحتفل في يوم العيد فقط أولئك الذين يؤمنون في ذلك الإله المقصود بالتحديد . لكن تبين أن هذا مستحيل . إذ كان كل شيء في القرية مدروس و مقرر ، بحيث أنه من أجل بقاء الإله كان لا بد أن يعمل الجميع معاً أو أن لا يعملوا كلهم بتاتاً . في النتيجة اتفقنا أن نبقي إلهاً واحداً . لم يكن يرغب أحد بذلك ، و لكن كل واحد كان يتمنى في سرّه أن يكون إلهه هو الذي سيبقى . و قمنا بالاختيار . بعد انتهاء التصويت خرج الجميع إلى الساحة لكي يروا النتيجة . أحد المواطنين اقترب من الأوزان و أزاح الدعامة من تحتها ، فتقلقلت الأوزان ، لكنها سرعان ما عادت إلى وضعها السابق : انقسمت الأصوات بالتساوي .
و بدأت الفوضى . و الصراخ . و الشتائم . كل شخص راح يؤكد أن إلهه هو الأفضل . قبل ذلك اليوم لم يكن أهالي القرية يكترثون لمثل هذه الأمور ، إلا أن كلاً منهم كان يعتبر ذلك متعلقاً بالشرف . إذ أنهم حاولوا انتزاع ما هو أثمن و أقدس ما عنده – عقيدته . و ما هي العقيدة ؟ إنها كالحلم أو كالمنام . الأحلام ، الأفكار ، العقيدة –هذا موجود عند كل إنسان ، لكن لكل إنسان ما يخصه من ذلك . و هذا الشيء هو الأكثر خصوصية من بين ما لديه . إنه يحيا لأجله . و عندئذ ، في ذلك اليوم أرادوا انتزاعه منه . لم تكن لدينا رغبة في أن ننتزع العقيدة من بعضنا البعض ، بل أردنا أن نستمر في إيماننا .
كان من الممكن لهذا الجدل أن يستمر للأبد ، و لكن آدم التقط المبادرة و بدأ الحديث . لقد كان أكبرنا سناً و أكثرنا حكمة . قال لنا آدم أن جدالنا لا طائل منه و لا فائدة . و لا بد لنا من أن ننقسم بكل بساطة . ارتعب الجميع . فقد أصابت هذه الفكرة الجميع في الصميم . لكنه تابع : " إذا قررتم البقاء سوية فلن تصلوا إلى أي حل ، و بالتالي سوف تموتون من الجوع . أما إذا انقسمتم فستكون أمامكم فرصة لأن تبدؤوا العيش سوية من جديد . ببساطة عليكم أن تغادروا هذا المكان . و إذا ما كان يوجد بينكم أناس مستعدين للتخلي عن تلك الآلهة ، فبإمكانهم البقاء هنا و الاستمرار بالعيش سوية كما عاشوا من قبل " .
صمت العجوز . فهم الناس أنه كان على حق . إذا كانوا يريدون الإيمان و أن يستمروا بالعيش كما عاشوا من قبل ، فعليهم أن يغادروا إلى حيث يمكنهم العيش هكذا . نهض الجميع و تفرقوا في منازلهم .
و ها نحن اليوم نسير إلى مكان ما . نحن نغادر لكي لا ننغص العيش على أولئك الذي ظلوا صامتين طوال الوقت ، أولئك الذين لا يؤمنون بالآلهة . و كما تبين الآن ، إن عددهم كبير . لقد بقوا في منازلهم و قرروا كيف لهم أن يعيشوا لاحقاً ، حيث لن يعودوا و يهدروا الوقت في تلك الأعياد الغبية . بينما خرج الآخرون كلهم . و كان بإمكان الواقف على أحد التلال القريبة ، أن يرى سلسلتين طويلتين من البشر . بعضهم كان يمشي للقاء الشروق البرتقالي المضيء ، بينما آخرون يتجهون نحو الجبال ، حيث الأنهار و الوديان . إنهم يسيرون إلى هناك لكي يعيشوا . لكي يعيشوا كما هم أحبوا ، و لكي لا يشكل إيمانهم عائقاً لأحد .
و في هذا الحين كانت القرية قد بدأت دورة حياة جديدة .
لقد اجتازت الأمراض و الحروب . و سوف تتجاوز ذلك .
___________________
ثمة سؤال يؤرقني باستمرار : في ظلّ الاصطفاف الطائفي و المذهبي الغبي ، الذي يجري على قدم و ساق في هذه المنطقة ، أين سيجد أنفسهم أمثالي – مَن " لا دين له لأن له عقل " ؟ في أي معسكر سيصنفون ؟ و هل يمكن أن نبقى بلا وطن ؟؟ إذا كان دساتير الدول الطائفية أمثال لبنان ( و على منواله يسير العراق ) تحدد كفوتا معينة لأبناء كل طائفة : لهؤلاء رئيس الجمهورية و كم وزير و كم نائب ، و لهؤلاء رئيس الحكومة و كم وزير .. و لأولئك شوية وزراء .. و هلم جرا ، فلماذا لا يكون للعلمانيين حصة ؟ و هل استقصى أحد ما عدد هؤلاء العلمانيين و ما إذا كانوا يشكلون غالبية المجتمع أم لا ؟ و لماذا يجب علينا أن نقبل بأن يحكمنا الأغبياء ؟ ألم يقل فيلسوف المعرة بما معناه : أهل الأرض اثنان - واحد ذو عقل بلا دين و آخر ديّنٌ لا عقل لـه ؟ فالمشكلة أنهم صاروا يحشرون الدين و الانتماء الديني في كل شيء و بشكل خبيث للغاية .. إذ منذ أيام كنا في مناسبة اجتماعية – عرس .. و جاءت فرقة السيوف ( أعتقد هكذا تسمى ) و راح الشباب يرددون على وقع الأهازيج عبارات و كلمات ذات عنوان مذهبي و طائفي صريح و بدون أية مواربة ( شيء ما مثل : .. إسلام و مسيحية .. سنية و علوية .. !!! و تقولوا لي خليك عاقل ؟؟) و دمتم بعقولكم .. " طبعاً بإذن الله " .