الملّا حَمَد والورقة البيضاء


فلاح علوان
2020 / 11 / 20 - 21:36     

الملّا حَمَد هو من أواخر الملالي الكتاتيب في بغداد على ما أظن، ومن المحتمل إن بعض الملالي قد استمروا في عملهم في بعض القرى والقصبات بعده. كان هذا في أواخر الستينيات من القرن الماضي. وكان الملّا حَمَد يقيم في قطاع 41 في مدينة الثورة التي لم تكن قد تكامل بناء المدارس فيها لتستوعب جموع الطلاب الكبيرة.
يقسم الملّا ساحة بيته الى قسمين، أو سقيفتين من الـ"بواري" المصنوعة من القصب، إحداهما للبنات والثانية للأولاد، ويضع "حِب" لماء الشرب، غالباَ ما ينفذ قبل إنتهاء الدوام، وكان لكل طالب الحق مرة واحدة في شرب الماء، وإستثناء ذلك في حالات الإضطرار.
كان الملاّ وهو رجل طيب ومتواضع، صارما وجاداً جداً ولا تفارق الخيزرانة يده، ولكن قليلاً ما كان يضرب أحد الطلاب بها، أما الفلقة فلم اشاهد أحداً جرى تعليقه بها بل لم ارها في دار الملّا. ومن حسن الحظ أني لم اتعرض الى الضرب بالخيزرانة يوماً، ربما بسبب الأرومة التي تربط الملّا بوالدتي، وتوصياتها المتواصلة بي.
كان المنهج التعليمي هو القراءة والكتابة إعتماداً على تعليم القرآن، بدءاً بجزء عمّ ثم تبارك ثم يبدأ الدارس بقراءة القرآن لحين تخرجه، في ما يعرف بالختمة. وكانت تنظم للمتخرج، أي من يختم القرآن، زفة مسائية بوضع صينية ملأى بالشموع والجكليت على رأسه ويدور في بعض أزقة القطاع أو المحلة.
ساهم الملّا في تعليم العديد من الأطفال القراءة والكتابة، وحين دخلنا المدارس بعدها بسنة أو أكثر كنا متفوقين في القراءة الى حد بعيد.
كنا نترافق سيراً على الأقدام ثلاثة أو أربعة على ما أتذكر بيننا بنت تسير الى جانبنا طوال الطريق الذي يبعد نحو 1000 متر عن مساكننا، كان الشارع المبلط نادراً ما تمر به سيارة، وكنا في طريق العودة نتسابق سباقاً غريباً هو أن يتمدد كل منا على التوالي وسط الشارع، لحين قدوم سيارة لينهض مسرعاً، وكنا نعد له والفائز هو من نعد له أكثر قبل أن تأتي سيارة.
الملّا حَمَد رحل منذ أكثر من 40 عاماَ، ولم يعد هناك ملالي كتاتيب في بغداد، وانتشرت بعده المدارس، ثم التعليم الإلزامي، ثم جاء الحصار، وبدأ تراجع التعليم وبدأ ترك المدارس من قبل الأطفال الفقراء مضطرين للعمل، وأصبح المعلم يضع بسطية أو يشتغل "عمالّة" خميس وجمعة أو جمعة فقط. ثم جاء الاحتلال وتراجع التعليم بصورة أشد، واصبح الطلاب بل حتى بعض الناشرين يكتبون " هاكذا" أنتي" " لاكن" " شكرن" " عشائرين". وازدادت مدارس الطين بكثرة، وخاصة في الجنوب، وبعض تلك المدارس لا يرتقي الى سقيفة الملّا الراحل.
وإنتشر التعليم الخاص، الذي لا يدخله أبناء الفقراء لإرتفاع تكاليفه، وأصبحت المدارس الحكومية متدنية بصورة خطيرة، ومهملة يسودها التسيب ونقص أساسيات المدرسة. وأصبحت فرص الطلبة الفقراء في التفوق محدودة جداً. وأصبحت عائلات الفقراء تنفق على تدريس الأولاد أكثر من البنات، أملاَ في حصول
الولد على وظيفة في المستقبل. وأصبح حرمان البنات في عوائل الفقراء من التعليم الثانوي والجامعي سمة واضحة وغالبة.
إن هذا جزء من سياسة إعادة توزيع الثروة في المجتمع على المستوى البعيد، وتكريس المستوى التعليمي المتدني بين أوساط الفقراء، وحصر الشهادات والمستوى العلمي في أوساط "عليا"،
تقول الورقة البيضاء، وهي مشروع الإنقاذ الإقتصادي في العراق كما يروج الإقتصاديون العراقيون، في الصفحة 91 وضمن خططها الستراتيجية لحل مشاكل التعليم في العراق؛ - الشروع ببناء 1000 مدرسة في العراق. في حين تشير التقديرات السابقة الى الحاجة الفورية لإنشاء 12000 مدرسة كخطة طوارئ لمعالجة النقص الحاد في أعداد المدارس. إن الإعلان عن إنشاء 1000 مدرسة في عموم العراق، هو رسالة واضحة بأن مستقبل التعليم هو التعليم الخاص، وهذه الـ 1000 مدرسة هي عمل رمزي للاعلان عن إستمرار وجود وزارات تختص بالتربية والتعليم. ولكن التعليم الخاص ليس متاحاً للكل، بسبب تكاليفه. ولن يكون بمقدور الموظف والعامل، الذين سيجري تخفيض رواتبهم تدريجياً، حسب مخطط الورقة البيضاء، أن يجد مكاناً لأطفاله فيها. ربما ستسعى العوائل المتمسكة بتعليم الابناء، الى التقتير في العديد من المصاريف بما فيها التغذية، لتوفر فرصة تعليم لأحد الأبناء، وهنا علينا تخيل شدة العمل المنزلى الذي سيتضاعف على النساء بعد تنفيذ نصوص الورقة.
ربما سيفقد أكثر من نصف أبناء الفقراء فرصة التعليم وفق خطط الورقة، وربما سيكتفي القسم الأعظم بتعلم أساسيات القراءة والكتابة، دون التقدم في المراحل الدراسية. وهنا سيعود الكثير الى مستويات تعليم الملالي أو الكتاتيب. إن زمن الملّا – المعلم انقضى في مجال التعليم منذ عقود، ولكن زمن الملالي عاد في كل شيء. وأصبح الملالي وأبناء الملالي هم من يقرر، من يدرس ومن لا يدرس، من سيمتلك الشهادات ومن سيدفع العربانة ومن يبيع على الأرصفة، ومن يطارد السيارات المتوقفة في إشارات المرور بأكياس الكلينكس والعلكة.
عادوا بالمجتمع نحو 4 عقود أو أكثر في كثير من الميادين، فهل ستعيدنا الورقة البيضاء الى عهود الكتاتيب التي إنتهت منذ نصف قرن؟
20-11-2020