الخروج المدروس من مكة ليثرب وبداية عصر الدعوة ج1


عباس علي العلي
2020 / 11 / 20 - 01:39     

فيما تقدم من دراسة الحالة التي كان عليها فتى قريش بعد عودته من يثرب التي أضاعت فرصتها التأريخية بأن تكون المدينة التجربة وحلم الدعوة القادمة، ومع إدراك النبي محمد أن مكة لا يمكن أن تفرط بذاتها وظروفها ومنزلتها لأن ذلك كما ظن القادة فيها إعلان الهزيمة المبكرة لها، رأى ومن خلال ما تعلنه وما تمارسه من حد وحدود ضده أن قرار الخروج هو الحل الأمثل للتحرر من سطوة العزلة والمنع وفتح أفاق التواصل مع من هم على صلة أو قرب مع مفاهيم الرسالة والدين الجديد.
السؤال هنا هل فكر النبي محمد أن يحصل له نفس ما حصل من تجربة الطائف السابقة؟ وهل كان بالإمكان الأعتماد على المقدمات والأسباب التي جعلته يختار يثرب دون غيرها من المدن التي له فيها أنصار ومؤيدين؟ فإن كانت مكة والطائف تربطهما علاقات وأواصر قوية من تجارة ورؤية دينية، فيثرب لا تقل قسوة منهما لا سيما وأن غالبية سكانها كانوا على دين أخر والبقية من القبائل وهم الأوس والخزرج كانوا على دين الوثنية ربما والقليل منهم على ديانات أخرى، فضلا عن حالة العداء المستعر بينهما لأسباب وعلل لا نود أن نذكرها فهي من عادة القبائل العربية المتنازعة في كل شيء وعلى كل شيء.
من المؤكد أن خيارا استراتيجيا بهذا المستوى من الخطورة والمجهولية في نتائجه لا يمكن أتخاذه لمجرد رغبة البعض من أفراد القبائل الذين أبدوا أستعدادهم للتحالف والنصرة وليس فيهم زعماء ولا قادة يمكن الركون إلى قوتهم أو سطوتهم لفرض أمر واقع، إذا الأمر ليس كما تورده سير التاريخ ولا روايات القوم الذين أشاعوا الفكرة هذه وكأن الرسول لميكن يملك بعد نظر أستراتيجي مدعوم بتعزيز فوقي، وربما كان لدرس الطائف وتحليلاته هي من قادت لهذا الخيار وشجعت عليه، من العوامل النفسية والواقعية التي يمكن أن تكون سببا وجيها بأختيار يثرب دون غيرها هي طبيعة المجتمع فيها الذي اولا يخلو من رمزية مشخصنة في رمز ديني مثل وجود الكعبة في مكة، وكون المجتمع اليثربي كان قائما على علاقات أقتصادية عمادها الزراعة والفلاحة التي تجعل من الشخصية الأجتماعية فيها أقل قسوة من الفرد المكي الذي يتعامل مع طبيعة قاسية وعوامل أقتصادية أشد قسوة.
كما أن وجود دين سماوي في يثرب له دور في التهيئة لتقبل أهلها فكرة النبوة والرسالة الجديدة وإن كان الأمر لا يخلو من معارضة اليهود ومحاولة صده عن نشر الدعوة والتبشير به، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون التمييز الديني الذي سينشأ بين مجموعة تملك إرثا ضخما من الأفكار الدينية والعقائد المتأصلة فيه، وبين رغبة جيرانهم وشركائهم في الواقع أن يمتلكوا هم أيضا دين سماوي يميزهم ويعطيهم شخصية حضارية وأعتبارية قد تمنحهم قوة ووجود منافس أخر.
إذا ما تجمع من أسباب ومبررات تعبويه وواقعية مع وجود الكثير من الأنصار الذين سبق وأن بايعوا النبي الجديد في مناسبات عدة شجع على أتخاذ قرار الخروج والهجرة حيث يمكن أن تشكل هذه الرحلة في نجاحها المتوقع بداية لعهد يتحرر فيه النبي وأتباع وأنصاره من طوق القهر والعداء اللا مبرر يستطيع من خلال هذه الفسحة من الحرية أن ينجح في تحشيد أنصار وأتباع جدد وربما إنشاء أول تجربة للدين هذا في مجتمع مغاير له خصوصياته وله أسبابه في الرغبة بتكوينه، ليمثل لأهل يثرب أمل في المنافسة مع مكة وجلب الحركة الأقتصادية والأجتماعية الديناميكية لأهلها، وهذا ما أثبتته الوقائع لاحقا عندما تحولت يثرب الفقيرة قياسا إلى مكة من مدينة منعزلة إلى بوابة للعالم الجديد وبذلك كتبت لنفسها رقما مميزا يقارن بقوة مع مكة وينافسها بالتأثير والأثر.
لقد خطط النبي محمد لفكرة الخروج والهجرة كقائد عسكري محنك وهو يعلم أن قريش تتابعه وقادة مكة لا يمكنهم السماح له بالخروج دون خسائر جسيمة تصيبه وتصيب أتباعه وأنصاره الذين سيخرجون خاصة، وأن مفهوم حماية الخواصر الضعيفة التي تساهم في إنهيار الحالة المعنوية لا بد له من معالجة جذرية، وليس هناك من عقوبة أشد من العقوبة الأقتصادية والمالية برغم أن جل أنصاره من الفقراء والمساكين، ولكن هذا لا يمنع أن تقدم على نهب ما تركوه وإن كان بسيطا وإهدار أية حقوق لهم ليجردونهم من ميزة النصرة من قبائلهم ومجتمعهم، حتى هو شخصيا يعرف أن هذا السلاح قد يثني البعض من الهجرة والخروج خاصة للذين يملكون أو لهم منزلة خاصة، والدليل أن من لا يملك ولا يتمتع بأية أمتيازات هم الذين خرجوا باكرا لأنهم لا يخشون الخسارة ولأنهم لا يملكون ما يجعلهم يفكرون طويلا بين خيارات عدة، وما تبقى منهم كانوا في خيار حقيقي بين إيمانهم وواقعهم، المتأخرون كانوا في القافلة الأخيرة بعدما علموا من الأخبار الواردة أن يثرب لم تواجه المهاجرين بما كانوا يخشونه، وهذا ما شجعهم وأضاف لهم حافز أخر للخروج، فحتى خروج بعض الرموز منهم لم يكن قرارا أوليا بقدر ما كان قرار اللحظة الأخيرة وحفظ ماء الوجه.
الأمر الأخر الذي يمكن متابعته في قرار الخروج والهجرة هو بقاء النبي وخاصته المقربة أخر الخارجين لأسباب عدة، منها ما يتعلق بتصفية وتمحيص من يبقى ويتأخر ليشكل عليهم أداة ضغط نفسي تدفعهم للخروج، وثانيا التأكد من سلامة الضعفاء والمساكين والفقراء ولاطمئنان على سلامة الخروج للجميع، وثالثا لدفع مقولات أعداءه من أنه هرب وترك أصحابه تحت رحمة قوة قريش وغطرستها، لكن الأهم من كل ذلك كان قرار الخروج من غير أن تعرف قريش الوقت والطريق لما في الأمر من مخاطرة الكبرى والحقيقية تطيح بالرسالة وصاحبها لو علم القوم بذلك، هنا كانت عوامل التخطيط لها الدور الحاسم في النجاح وتنفيذ المخطط بروح المباغتة.
حيكت الكثير من الروايات ورسم الكثير من الصور التي صاغها المخيال التاريخي الخصب لولع العرب بالقصص والروايات التي لا تصمد في الحقيقة أمام العقل المنطقي، منها أن قريش أختارت من كل قبيلة رجل لقتل النبي حتى تتوزع دماءه على القبائل وبذلك يستحيل الأمر على بني هاشم للمطالبة بدمه، ومنها حكاية مبيت الإمام علي في فراشه ليلة الهجرة وما جرى فيها، العلة أن الحكاية بذاتها يعتريها الضعف والهوان والإهانة لشخصية الرسول أولا، فلقد خطط ونفذ الخروج والهجرة أستجابة لظروف كانت هي من تدفع به لأجل التخلص منه، وكان النبي يعمل بصمت ووفق مراحل وبسرية تامة، فكيف لمثل هذا الحال أن تعرف قريش موعد خروجه وتحديدا تلك الليلة التي خرج بها دون أن يترك أثر أو علامة عليها، مجمل القصة والتي رويت بهذا الشكل كان الهدف منها إظهار النبي كونه خائفا ومترددا في أمر الخروج والمغادرة مع أحتمالية أن يكون عليا هو القربان الذي يفتدى به، وهذا لم يكن ورادا لا في الحقيقة ولا في الإشارة التي وردت بخصوص الهجرة في القرآن وهو الذي خاطب صاحبة (أن لا تخاف ولا تحزن أن الله معنا).
حدث بهذه المفصلية وهذه الخطورة يمر مرور الكرام في الإشارات النصية دون أن يبين لنا النص شيئا منها إلا لمحة بسيطة وإشارة عابرة لا بد أنه كان بصورة أخرى غير ما ورد في النصوص التأريخية، وربما كان الأمر عكس ذلك تماما ولم يجري مثلما وردنا عبر السيرة والحكايات التي رويت من بعد من غير شاهد أو دليل يثبت أو ينفي ما حدث بأي صورة كانت، الرأي الراجح عندي أن قريش كانت تتمنى خروجه من مكة على الأقل لتضع حدا للمشاكل التي مست حياتها وتجارتها والطعن بدينها ومقدساتها مما أضعف موقفها أمام القبائل التي كانت تتعامل معها بمنطق الدين أو التجارة أو السيادة.