الدين بين مفهوم الرشد وتطبيقات الفرض.


عباس علي العلي
2020 / 11 / 19 - 00:57     

متفق عليه عند دارسي الأديان عموما أن الدين بحد ذاته مصدر أخلاقي إرشادي يضيف للإنسان الطبيعي حالة من التوافق ما بين مجهول بحاجة لتفسير وبين ما هو مطلوب لتوظيف المعرفة به نحو حياة يظن أهل الدين أنها النموذج الحقيقي الكامل الذي يقترحه الرب علينا، وبالتالي كل محاولة لدراسة وفهم الدين هي بالنتيجة تقريب الإنسان من الصورة المثلى له وللوجود، ويدخل هنا القائم على المعرفة الدينية أبتداء من الأنبياء والرسل وصولا إلى أبسط مشتغل في هذا المجال وأفتراضا في المحاولة المنشودة كعامل مساعد ليتم الدين دوره في الحياة وكل حسب ما يستطيع ويتمكن وما يملك من أدوات، الهدف النهائي لهم ليس البحث عن مغرم أو مغنم بقدر ما يستشعره هو من واجب تجاه نفسه الإنسان المجتمع وعموم الحياة، هذا هو جوهر الصورة وهو المراد حتما من ضرورية الدين كفهم عقلاني أولا وقبل أن ندخل في العقائد والإيمانيات الشخصية.
إذا عندما نشاهد صورة مخالفة أو خارجة عن هذا المنطق علينا أن نتساءل لماذا وكيف ومتى ولأجل ماذا هذا التغيير وهذا التحول، في حياة الرسل وأثناء وجودهم كان الهدف هو ما في الصورة، ولم يدع أحدا منهم أنه جاء لسلطان أو مجد شخصي أو حتى قوة ما كي يفرض ما هو مرسل به، في حياتهم التي وصلتنا وفي المتيسر منها لم ولن نشاهد ولاية ولا سلطة لهم على المجتمع عدا ولاية الإنذار ومحاولة تجسيد الصورة التي جاءوا بها، وليس بإعتبارهم مشرعين أو لذواتهم بل لأن مصدر ما يتصرفون به وعلى أساسه هو النص الذي أمن به الجميع أو من أمن فعلا، فمصدر السلطة في التجسيد ليس شخص النبي أو الرسول بل هو في قوة إيمان الناس بالنص الذي توافقوا عليه وأختاروه ليكون دستور أو قاعدة أو نظام، وبالتالي فعزل الرسول وسلطته يكون لصالح النص والدين كما هو لصالح النبي أو الرسول، ولذلك عندما خاطب النص الناس في تعريف النبي والرسول (إنما أنا منذر ولكل قوم هاد).
بخلاف قاعدة التعريف الأنفة الذكر نشأ الخلاف الأزلي بين الدين والسلطة في قيادة الإنسان، والسلطة هنا هي القوة القادرة على المنافسة أيا كان شكلها أو حجمها أو طريقة رؤيتها لوجودها ووجود الدين والإنسان، فعادة القوة تتحرك وفق قوانين نشأتها التي تضمن لها القدرة على إثبات وجودها حتى لو كان ذلك خلافا للقانون الطبيعي، فالقوة لا تؤمن بالأخلاقيات والمثاليات بقدر ما تؤمن بنفسها، عكس رؤية الدين لنفسه من أنه مرشد ودليل أختياري يرمي بالنهاية وضع الإنسان في دائرة الصح والخير الذاتي حتى لو لم يعرف ذلك بنفسه أو بالواسطة، كذلك يعد الدين نفسه تجربة حسية للإنسان هو من يكتشف أميتها وهو من ينال النتيجة لوحده ولوحده.
في قصة موسى وفرعون لو نأخذها مثلا واضحا وصريحا لتناقض القوة ومن ورائها السلطة أو قبلها نجد الصراع هنا صراع السلطة والقوة على مصير الإنسان ومن بعده عموم الوجود، يقابله سلام الدين وسلميته وهو يدافع عن الإنسان، كان منطق فرعون (ما أريك إلا ما أرى) أنانية متضخمة متوحشة تستوعب الكل ولا يستوعبها الكل (وأنا ربكم الأعلى)، في حين كان منطق موسى يسير في الأتجاه الأخر تحرير الأنا من وهم القوة والسلطة والجبروت الذي يغذيه الإحساس بالعظمة المؤقتة (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، فالشعور بالتواضع وطلب الخير من مصدره الكلي ينم عن تحرير النفس الإنسانية من وهم القدرة على أستخدام القوة خارج نطاق التوافق بين الحقيقة كما هي وبين الحقيقة حينما نراها في عين ذاتنا.
كل هذه المقدمة الطويلة الهدف منها أن نقول أن كل وظائف المشتغلين في الدين لا يمكن أن يتوافق إن كانوا مؤمنين حقا برسائل السماء مع مفهوم السلطة والقوة والسيطرة حتى لو كانوا يفترضون أبتداء أنهم يفعلون ذلك لأجل الله، فمن يؤمن أن الله قوي وقادر وسلطان بذاته على موجوداته لا يمكن أن يتدخل لتعزيز هذه المفردات تحت أي مبرر، فمن يملك القوة والعزة والقدرة ولا يشاركه أحدا فيها محال عليه أن يطلب من المخلوق الضعيف المسكين الفاني المحدود المتوكل أصلا عليه أن يسنده وينصره ضد من هو فينفس محدداته وذاتياته، إنما يريد الله لنا جميعا أن نهتدي بالتي هي أحسن، هذه الأحسن لا تنصرف عن معنى ودلالة الإرشاد والنصح وحب الخير للأخر، ولو تدخل مع الإرشاد شيء بسيط من القوة أو القهر لفسد وفسدت العلاقة الأصلية المطلوبة وحضر مفعول الأنا وغاب وجود الدين في جوهر وروح المشروع الديني.
في كل التطبيقات البشرية خارج عصر الرسل والأنبياء لمفاهيم الدين عادة ما يخرج الناس عن الرؤية الرشدية والإرشادية له ليفرضوا ما يعرف بمفهوم الدعوة والطاعة المتسلحة بهاجس (ما أريكم إلا ما أرى) ويتحول الداعية إلى منطق فرعون (وأنا ربكم الأعلى) من خلال فرض قوة وسلطة الإيمان بالدين على الأخر بدل سلطة النص أو الحكم لذاته، هنا يتحول الداعية للدين إلى بديل عن الله وما تشرع باسمه وإن كان لا يؤمن بذلك ولا يريده شعوريا كحسن نية منا لوصف الحال، ولكن الواقع والتجربة والممارسة هي من تشرح ذلك من خلال الواقع الفعلي، هنا تحول الدعاة من خلفاء وملوك وفقهاء ومجتهدين ورجال كنيسة وأحبار وغيرهم إلى ألهة ذات قوة وسلطة قهرية لا تؤمن بالرشد والإرشاد ولكن تؤمن بالأنا التي ألبسوا أنفسهم ردائها، فصارت تتحكم بهم ولا يتحكمون بها، وتحول الدين إلى سيف والدعوة بالحسنى إلى جدال القوة والضعف والمنتصر فيه ليس الله بل فرعون ومنطقه.
في كل الأوقات كان الفقيه الديني الذي يملك لوحده حق التقديم ما بعد الرسل إلى صانع ومتصنع القوة والسلطة بفرض مفهوم ولايته على الدين ومن ثم على الناس، هذه الولاية الي يجب أن تميزه ويتميز بها عن كل البشر تمنحه القوة والقدرة القهرية لو أراد حتى تصل إلى إخراج الأخر المختلف عن الدين وحتى عن مفهوم ولاية الله ورسله وولاية الدين نفسه، كل رجال الدين من أول ما تبلور مفهوم الكهنوتية مرورا بكل التجارب الدينية حول رجل الدين وجوده إلى ولاية الفقيه والمجتهد والعارف، ليتحول بعدها إلى فقيه الولاية ومجتهدها وزعيمها الذي حل محل الله ورسله ليكون فرعون زمانه (لا نرى إلا ما رأى وهو ربنا الأعلى)، فطريق القوة والسلطة من خلال الدين أسهل بكثير من كل طريق أخر وأقل تكلفة عليه لأنه أرتدى جلباب القدسية وأعلن وكالته عن غائب غير حاضر معتقدا أنه يمارس الدعوة له برضاه، وإن كان توهما أو ذو حسن نيه تدفعه الأنا لذلك دون أن يدرك أن ذلك المنهج هو خارج روح الدين ولا يتوافق مع مفهوم الرشدية والإصلاح الذاتي للبشر.
الدين إذا كونه منهجا أخلاقيا إصلاحيا ذاتيا إرشاديا لا يتناسب مع مولوية الفرض (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) لحقيقة واحدة فقط أن أمر الإنسان كنتيجة ونهاية متعلق بالقلوب والضمائر من جهة وبين حكم الله وعلمه بما لا نعلم حتى عن أنفسنا نحن من جهة أخرى، وبما أن الولي أو الداعي أو العامل عليه لا يمكنه ولو تمتع بكامل الأسباب العلمية الممكنة والأفتراضية، فهو لا يصل إلى حقيقة هذه العناصر إلا ظاهرا وتقديرا أحتماليا ظنينا مبني على رؤية شخصية ذاتية فقط، فمن باب أولى أن لا يجزم بصحة ما يقول ولا يؤمن بالفرعونية الأنانية بأي حال كان هو عليه أو الأخر المؤمن أو الخارج عن الإيمان، فلا ولاية لفقيه إلا في حدود الإرشاد والنصح والتوسل بمفهوم الخير والأحسنية منهما، ولا يمكن بهذا الحال أن يعلن ولايته ولا سلطته التي لم يمنحها الله حتى للأنبياء والرسل (ما عليك من حسابهم من شيء).