من اجل قيم حضارية انسانية


جاسم ألصفار
2020 / 11 / 17 - 22:22     

من أجل قيم حضارية إنسانية
د. جاسم الصفار
17/11/2020
إثر حادثة قطع رأس المدرس الفرنسي الذي عرض الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، كجزء من محاضرة أمام طلابه، أدانت معظم النخب ألأوربية السياسية اليسارية واليمينية الحادث، واصفة إياه على أنه عمل بربري يستهدف حرية الرأي والقيم الحضارية ألأوربية. بالطبع ليس هنالك انسان عاقل على الأرض، في زمننا الحالي، لا يدين قطع رأس انسان، تحت أي ذريعة كانت. أما بالنسبة لحرية الرأي التي استهدفها ذلك العمل البربري البشع، فان لي رأي اخر، أزعم أنه يشاركني به الكثيرون، سواء في بلادنا أو في البلدان ألأوربية.
مهما كان الأمر، فإن سياسة تشجيع التجديف، وتدنيس المقدسات، وانتهاك المعايير الأخلاقية والدينية بذريعة الدفاع عن الحريات العامة والشخصية، لا علاقة لها بالتحضر، فحرية الرأي والتصرف والمعتقد عند البعض، حتى وان خالفت المعايير ألأخلاقية العامة، يجب أن لا تسيء لمقدسات الاخرين أو تجرح مشاعرهم. فحرية التعبير العدوانية المتطرفة في تجاوزها على معتقدات الاخرين، لابد لها من أن تشجع ردَات فعل لا تقل تطرفا، في أي مجتمع كان. وهذا لا يعني، بالتأكيد، مصادرة حق كائن من كان في أن يبشر برأيه أو معتقده الخاص، دون تجاوز أو تجريح.
أما بالنسبة لما يثار عن التحدي الهمجي لقيم الحضارة ألأوربية، فهنا لابد من بعض التفصيل بالعودة الى الجذور التاريخية للصراع الحضاري وآثاره المدمرة في المجتمعات الغربية المعاصرة. معلوم إن صراع الحضارات، على العكس من تلاقحها، هو دائمًا صراع عقول غير قادرة أو غير راغبة في فهم الأشخاص الذين نشأوا في مختلف الأعراف والتقاليد التاريخية والثقافية والدينية والأخلاقية. ودائما في مثل هذا الصراع يكون العامل المادي حاضرا أو حتى مهيمنا. أما الدوافع العقائدية فهي مطلوبة فقط لتبرير التطلعات المادية.
في العصور الوسطى، كانت الاختلافات الحضارية (الدينية) هي السبب الرئيسي وراء الحروب الصليبية التي حرضت عليها واججت نارها، النخب الاوربية في ذلك الوقت. كان من بين الصليبيين، بالطبع، مؤمنون، بدرجات مختلفة من التعصب، لكنهم أيضًا ساهموا بنشاط في تلك الحملات سعيا وراء الربح. ومع أن الحروب الصليبية تسترت بالعقيدة الدينية في حروبها العدوانية، الا انها، بتقديري، لم تكن المصدر التاريخي الاهم لعدم تسامح المسلمين تجاه "الكفار"، كما في الكثير من الكتابات الغربية اليوم. كما أنها لم تكن وراء انبعاث التطرف الإسلامي الحديث.
الا أن حروب القرون الوسطى تلك، أرست فيما بعد، أسس الحضارة الأوروبية القائمة على التوسع الجغرافي واحتقار الثقافات غير الاوربية في البلدان المستعمرة. وترافقت أهم التحولات التاريخية في أوروبا منذ العصور الوسطى بشكل أو بآخر مع حروب أو صراعات حضارية. على سبيل المثال، الحروب بين البروتستانت والكاثوليك، ومحاكم التفتيش والفتوحات الاستعمارية في آسيا، وإفريقيا، وغزو القارة الأمريكية، وأخيراً الحربين العالميتين.
تعتبر الصراعات الحضارية الحادة سمة مميزة للعالم الحديث. إنها نذير التغيرات العاصفة القادمة وترمز من نواح كثيرة إلى التدهور التدريجي للحضارة الغربية. هذه الظاهرة هي نتيجة الانحطاط الفكري للنخب السياسية الغربية، الغير قادرة على توليد أفكار جديدة ضرورية لتنمية المجتمع. إنهم يبحثون عن حلول بسيطة عندما يواجهون عمليات اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة في بلدانهم وعلى المستوى الدولي. وأزعم أن وراء ذلك، كان غالبا، تشبث الأوروبيون "بالمزايا" الفكرية والثقافية والاقتصادية للحضارة الأوروبية على بقية العالم.
فعندما احتاجت أوربا لسد النقص في اليد العاملة اللازمة لتطوير الصناعة والزراعة والقطاع الخدمي الاجتماعي، فتحت المجال لتدفق هجرة جماعية من دول العالم الثالث. علما بأن اللجوء لسد النقص في اليد العاملة الاوربية بفتح أبواب الهجرة من تلك الدول التي يعتبرها الاوربيون متخلفة جاء، إلى حد كبير، متناغما مع العقيدة ألأوربية التي تفترض التفوق الفكري على بقية العالم. فالعمالة الأجنبية كانت مطلوبة، حصرا، في مجالات لا يرغب الاوربيون في اشغالها.
لا شك في أن العامل الاقتصادي، كما أشرت أعلاه، هو الذي بلور سياسة الهجرة في الدول الاوربية. فالمهاجرين يحصلون على أجور اقل عن عمل يتطلب جهد لا يتحمس الاوربيون لبذله، سواء في مجال الخدمات الصناعية او الزراعية او الاجتماعية. على أن ما كان سلسا على الورق عند رسم سياسة الهجرة، لم يكن كذلك في الواقع. لأن الفارق الحضاري الذي كرسه الاوربيون، منذ أفول مرحلة الاستعمار وحتى وقتنا هذا، حال دون اندماج المهاجرين في المجتمعات الاوربية، وتحول الى معول تفكيك لتلك المجتمعات التي يتخندق فيها الاحتقار من جهة والكراهية من جهة أخرى.
أضف إلى ذلك تزايد شعبية وتأثير الأحزاب السياسية النازية الجديدة، الامر الذي يجعل صورة الدولة الحضارية للدول الأوروبية أكثر انكشافا. فصعود التيارات الفاشية والنازية وشعبية أفكارها وسط السكان الأصليين يفضح مقومات الحضارة الأوروبية، ويعكس التأليه القديم لشعور الأوروبيين بالتفوق على الشعوب الأخرى.
وتبعا لذلك، تكرس واقع اجتماعي وحضاري مأزوم في أوربا منح أعدائها و"أصدقائها" كذلك، فرصة استغلاله لتمرير مشاريعهم الجيوسياسية. وفي هذا الصدد يشار الى أنه كانت هناك تقارير في وسائل الإعلام مؤخرًا تفيد بأن صحيفة شارلي إيبدو الاستفزازية، التي نشرت رسومًا كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد، يتم الإشراف عليها عبر المحيط. وهذا يدل على استغلال الازمة الحضارية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في أوربا من قبل اجهزة الاستخبارات الأمريكية لزعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي من أجل اضعافه كمنافس سياسي واقتصادي للولايات المتحدة ألأمريكية.
وتجدر الإشارة كذلك الى الدور التخريبي الذي تلعبه تركيا في أوربا، بخلق أسباب العزلة بين الجالية المسلمة والسكان الأصليين. خاصة بوجود أسباب موضوعية للتضارب في المصالح بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في شرق البحر المتوسط: محاولات أردوغان للسيطرة على إمدادات الهيدروكربونات إلى أوروبا واستغلاله لموضوع الهجرة من أجل ابتزاز الاتحاد الأوربي، إضافة الى الطموح التركي لمراجعة شروط معاهدة لوزان، المبرمة في عام 1923، والتي بموجبها تم التنازل عن الجزر الواقعة في بحر إيجه لليونان. ولتتمكن تركيا من تحقيق مآربها في صراع المصالح مع الاتحاد الأوربي، فإنها لن تتردد عن استخدام سلاح جربته في صراعات دولية أخرى، وهو التطرف الديني الإسلامي.
إضافة الى تركيا، نجحت دول عربية واسلامية في تسويف مخططات ومساعي الدول الاوربية لدمج المهاجرين في مجتمعاتها، معتمدة على ثغرات تلك المخططات المبنية على ايمان راسخ بالتفوق الحضاري ألأوربي الذي يعميها عن تبني أي أفكار بناءة تجعل من الاندماج في المجتمعات ألغربية نتيجة للتلاقح بين الحضارات المختلفة للمهاجرين والسكان ألأصليين.
في جميع الأحوال، فان أوربا تعاني اليوم من حالة تفكك وانقسام اجتماعي وحضاري، الدين فيها هو العامل الأبرز. وتجدر الإشارة الى ان الراديكالية الدينية لم يخترعها المسلمون. فتوجد حركات راديكالية في أي دين تقريبًا. ولكن اللاجئون الذين تدفقوا على أوروبا اليوم هم في الغالب من المسلمين. ومن هنا تأتي الصراعات الدورية مع الإسلاميين الراديكاليين.
ختاما، أتمنى ألا يتبلور استنتاج عند القارئ بأني ألقي اللوم كاملا على الدول الغربية، فالديانات جميعها، ومن بينها الإسلام، تحتاج اليوم الى اصلاح بنيوي وعقائدي يخلصها مما علق بها، عبر عصور التوحش، من تعاليم وأفكار لا علاقة لها بأصول التدين الحقيقي الساعي لزرع بذور الطمأنينة في الروح البشرية ونشر مبادئ المحبة والعدالة والمساواة على الأرض.