هكذا يرحل العظماء/ في رثاء المناضل السوري المحامي جريس الهامس


بلقيس حميد حسن
2020 / 11 / 17 - 14:53     

هكذا يرحل العظماء
في رثاء المناضل السوري المحامي جريس الهامس

الفجيعة لاتترك القلب سريعا، إنها تستوطن فيه وتأكله شيئا فشيئا، وها فجائعنا تزداد يوما بعد آخر، وقد نكون على حق لو أسمينا زمننا هذا زمن الفجائع بامتياز .
في كل مرة كنت أرى راحلنا العزيز المناضل جريس الهامس ( أبو حنين)، كنت أستمع منه لأحداث التأريخ البعيد والقريب. كان يتذكر كل شيء بحرقة الغياب وفراق الوطن، وهو الذي لايغادر من التأريخ صغيرة ولا كبيرة إلا دونها في عمق ذاكرته المتقدة، الوضاءة أكثر من ذاكرة الشباب.
في كل مرة أخاف عليه وأتمنى له العمر المديد وكم أخشى من يوم أفجع به فنفقد هذا النور الذي يبزغ على غربتنا ويجمعنا على المحبة أصدقاء وأخوة في بيتهم الذي أسميناه نحن أصدقائهم بيت العز فرغم ضيق الحال كان هذا البيت مفتوحا للجميع بكل محبة وكرم نفس.
كان حبي للراحل كأب ومعلم يجعلني أستبعد عنه أي شيء يمت للموت بصلة ، وأراه بمنظار روحي التي تبعده عن الرحيل مهما طال عمره، فمثله لايمكن أن لايفجع به المرء وإن كان عمره قرونا من السنين.
كم الدنيا سريعة الزوال، وكم هي خادعة، إذ تجعلنا لانضع من نحبهم ونعتز بهم في خانة الراحلين يوما ونرى غيابهم بعيدا فنؤجل يومهم برؤوسنا ولا نعرف كم أن وجودهم كان فرصة لنا لنتعلم منهم أكثر وأكثر..
الراحل الغالي الاستاذ جريس الهامس، كان مدرسة، وجامعة للفكر والمواقف الوطنية والانسانية الشجاعة، فكم ضحى وأعطى للثورة الفلسطينية وحق شعبها المغتصب الكثير من جهده وسني عمره مواقفا ً مشرفة يذكرها القاصي والداني.. كان لا يعرف المداهنة والإلتواء في المبدأ وهو المحامي الذي دافع عن الفقراء والمظلومين بلا مقابل ورحل وهو لايملك من الحياة شروى نقير . رحل خفيفا، جليلا، ملائكيا، لايملك شبر أرض ولا مال ولا تركة يتخاصم عليها أحد، لكنه ملك كل شيء وترك لنا كتبا ومقالات لاتحصى بعطائها وقيمتها الانسانية والروحية فنعدها أغنى من كل أموال الأثرياء.

هكذا يرحل العظماء
هكذا يسكنون القلوب ويشغلون الدنيا بفقدانهم الموجع.
هكذا نشعر أننا فقدنا معه كل شيء حتى أننا دهشنا بأنه كان محورا غير مرئي لحياتنا الباردة في المنفى، وبأنه كان من يذكي في أرواحنا محبة الأوطان كل يوم، يشعلها في كل لقاء، وكأنه الحارس الأمين على وطنيتنا التي يخشى عليها أن تخبو ، فيغذيها بفكره، ويذكرنا كي لا نتيه في الغربة وننسى.
برغم من أوجاعه وكبر سنّه، كان يفرح باللقاء بنا كأصدقاء وأبناء ويبتهج منطلقا بما جادت به ذاكرته من سني النضال، وهو الذي إذا انتبهنا لكلامه نجده في كل جملة يذكر كلمة وطن، في كل جملة نشعر بحنين هائل كما الغصة أو الدمع العصي .. يبقى شوقه للوطن نازفا في أعماقه ، يوجعه حتى لو ابتسم أو جامل الأخرين.
كلما يكون في وعكة صحية، كان يتمسك بالحياة ولا يريد الرحيل قائلا:
لا أريد ان أموت إلا بأرض سورية الحبيبة
وهكذا كانت روحه تتوائم مع مشتهاه الوطني وحبه النبيل لأرض أجداده، تلك الأرض الحبيبة والمزكاة بدماء من أعطوا لها أرواحهم وجهدهم كله..
كانت مواقفه المبدأية التي لاتقبل أي مهادنة تزعج بعض مدّعي المبادئ، وكان يواجه أي موقف بصدق وشجاعة رافضا المواربة والمجاملة على حساب المبدأ، في كل مجالات الحياة.
ومن طرائف مواقفه المبدأية الحادة، أتذكر ولا أنسى، يوم اتصلت به قناة تلفزيونية شهيرة، يتهافت الكثير من الكتاب والسياسيين عليها، متمنين الظهور بها وإبداء مواقفهم على شاشتها، اتصلت تلك القناة به لسؤاله عن رأيه بموقف سياسي معين ، فرفع السماعة لكنه سمع المذيع يقول :
جاءنا اتصال من المحامي والكاتب جريس الهامس.. فماكان من الراحل إلا أن قال بغضب :
أنتم من اتصل بي فلماذا تكذبون، أنا لا أحتاج قناتكم ولم أتصل بكم، ولا أريد الحديث مع قناة تكذب ، ثم أغلق السماعة.
يومها كنت في بيتي وبالصدفة رأيت ذلك المشهد الذي لن أنساه، وكم شعرت بالفخر والفرح، لأن الدنيا مازالت بخير، فبها من يقف بجرأة بوجه الكاذبين، والممررين كل أساليب الإعلام الملتوية ، والمشوهة، على الشاشات الماضية في غسيل الأدمغة، وصنع عقول ترضى بكل الزيف وخراب الأخلاق..
زهد فقيدنا بكل مايغري سواه، فلم يحلم بأي شيء من متاع الدنيا مطلقا، حتى كتبه التي نشرها بالغربة، كم عانى لتخرج الى النور ، في زمن اشتهر بجشع الناشرين والطابعين والمحولين الكتب الى تجارة رابحة ، لذا لم تنشر كتبه من خلال دور نشر كبيرة ومعروفة لضيق الحال وجرأة الطرح ، وهو المناضل الذي تنقل من منفى الى آخر بكل ما تحمله المنافي من آلام الفقد حيث تشتت عائلته الوطنية بين بلدان العالم..
هكذا هم العظماء
يعانون في حياتهم، يألمون من أجل الآخرين، ثم يتذكرونهم بعد الرحيل، إذ تبقى كلماتهم النبيلة وحكمتهم، وأعمالهم الجليلة جرساً فقدَ مفتاحه ولم يستطع أحد إيقافه، يبقى يدق ويدق في ضمائر وعقول الذين غفلوا عن الحق، أو الذين يطمحون للمعرفة وانتهاج دروب النضال من أجل الخير والعدالة..
اليوم بعد أن ودعنا راحلنا الكبير ، لانملك غير الكلمات وحرقتنا عليه، فهما قدرتنا الوحيدة في التعبير عن ذكراه التي حملتها رفيقة دربه وحبيبته السيدة المربية الفاضلة، القديسة مريم نجمة في روحها وجعا تهتز له الجبال، حيث سنوات والحياة والنضال المشترك بسجونها ورعبها، وتفاصيلها الثقيلة، لكنها جعلت المستحيل يركع، فترفع النجمة شمسا تدفئ المرتجف في برد الغربة، وتعطي السلام الروحي للجميع..
كل العزاء والصبر لقديسة المحبة المربية الفاضلة والأديبة الوطنية الغالية مريم نجمة
العزاء لأبناء الفقيد وبناته في منافي الأرض ولمحبيه واقربائه جميعا.
الخلود للراحل والمحبة لذكره ولتأريخه المشرف الناصع الذي نفتخر به..