من غربل الناس نخلوه


عبدالرزاق دحنون
2020 / 11 / 16 - 13:08     

ملاحظة مهمة لاحظتها وأنا أتأمل صورة ملتقطة حديثاً للأمناء العامين وأعضاء من المكاتب السياسية واللجان المركزية لاجتماع مشترك بين الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية. تُلاحظ رأساً أن الجميع في سن الشيخوخة أغلب أمناء الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية فوق الستين عاماً. وتسأل ما السر في هذا الغياب الكبير للنساء والشباب في قيادات هذه الأحزاب؟ هل "ختيرت" الأحزاب الشيوعية إلى هذه الدرجة وها هي تسير في طريق التشرذم والتفكك لتُطوى صفحتها من كتاب التاريخ؟ أم لا علاقة لهذه الأحزاب الشيوعية بالشيوعية كفكر ونضال سياسي؟ وهل فشلت الأحزاب الشيوعية في حمل الراية الحمراء إلى ذُرى الجبال الشاهقات كما يقول النشيد الأممي؟

شراذم شيوعيَّة توزَّعَت منصات التواصل الاجتماعي وراحت تنفثُ سُمَّا ناقعاً في وجوه بعضها بعضاً. وكل شرذمة من هذه الشراذم تدعي امتلاك الحقيقية المطلقة. وكلمة شراذم هُنا ليست شتيمة على كل حال، هي جمع شرذمة. والشرذمة في المعجمات القليل من الناس، وفي القرآن: "إنَ هؤلاء لَشِرذِمَةٌ قَلِيِلُون" وتشرذم الناس تفرقوا بشكل فوضويّ، تشرذمت الأُمَّة فصارت ضعيفة مستباحة. وتشرذمت الأحزاب الشيوعيَّة فصارت مزقاً.

هذه الشراذم تخوَّن بعضها بعضاً وتتهم الواحدة الأخرى بالعمالة والانحراف عن الماركسية -كما نفعل نحن في مقالنا هذا- والشطط يصل بهذه الشراذم في بعض الأحيان إلى العراك العقائدي الفاضح. فأنت لن تكون شيوعياً حقيقياً، بل ستكون شيوعياً مُفلساً، خائناً، منبطحاً، عميلاً، زئبقياً، محرِّفاً أو منحرفاً -يا لطيف ألطف يا رب- إن انتقدت تصرفات الرفيق ستالين مثلاً في تطبيقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بناء الاشتراكية. والويل لك إن لم تعترف بأن الرفيق ستالين يقف في صفٍّ واحد مع ماركس وأنجلز ولينين، ويمكن أن تُطرد من "جنة الشيوعيَّة" لهذا الذنب العظيم.

تقول مُدافعاً عن رأيك كان الرفيق ستالين ابن يومه، وكان يعرف من أين تؤكل الكتف، وكان عظيماً في تلك الأيام، ولكنني قرأتُ وشاهدتُ في الأفلام الوثائقية أنه كان بلطجياً في شبابه فكيف يمكننا وضعه في صفِّ الفلاسفة الأخيار؟ لا شك بأنه كان زعيماً فولاذياً صلباً قاسياً ولكن... لا تكمل حديثك يا رفيق، بلا لكن بلا ماكن، لا خيار أمامك لأن لينين أمر الرفيق ستالين أن يكون بلطجياً لصالح الحزب والرفيق ستالين نفَّذ الأمر فكان قائداً بلطجياً. وفيما بعد أرسل بلطجياً اسمه الرفيق رامون ميركادير ليقتل بالفأس أو البلطة أو الساطور الرفيق ليون تروتسكي في المكسيك حيث كان يُقيم منفياً من الاتحاد السوفييتي. كان الرفيق تروتسكي خائناً وعميلاً للمخابرات المركزية الأمريكية من وجهة نظر العديد من الشراذم الشيوعيَّة، فهل نقف مع قاتله ونعطيه وسام الشرف -سلوكٌ مَشين- والرجل تجاوز الستين من عمره وهو من رفاق لينين المخلصين؟ هذه بلطجة في عرف هذه الأيام، وبطولة في عرف تلك الأيام.


لاحظتُ أن الشراذم الشيوعيَّة تتنوَّع وتتبدَّى بأشكال وألوان غاية في التنافر والغرابة. شرذمة هُناك تتبع الخط الرسمي للأحزاب الشيوعيَّة العربية والعالمية وأُخرى تُغرِّد خارج السرب، ومنها من يُحلِّق بعيداً جداً، ومنها من ينتظم خارج التصنيف الماركسي-اللينيني. والتصنيفات كثيرة -ونعيب الملل والنحل الدينية- هل الشيوعيَّة دين؟ تسأل ما علّة هذا التشرذم هل له أصل في "العقيدة الشيوعيَّة" أم هو بدعة، أم اختلاف في المراجع والأئمة والمذاهب أم اختلاف في مشارب الناس الذين يحملون هذه العقيدة وكل إناء بما فيه ينضح؟ ام أننا في آخر زمان الشيوعيَّة؟ أم أن الأمر برمته يتعلق بالتوزع الجغرافي للبشر على الكرة الأرضية؟

تقول لهم يا رفاق سأضرب لكم مثلاً، والضرب هُنا بمعنى عِبْرة، عِظة، مش بلطجة، وأسأل فقط ولا أُجيب: هل يُعقل شرعاً، ومهما كان الشخص عظيماً، أن يكون أميناً عاماً للحزب الشيوعي حتى وفاته، ومن ثمَّ تُصبح هذه الحكاية "سُنَّة" متبعة، عرفاً شائعاً في الأحزاب الشيوعيَّة تحميه وتُكرسه الديمقراطية المركزية. الرفيق ماو تسي تونغ في الصين، الرفيق كيم إيل سونغ وعائلته في كوريا الشمالية الابن الرفيق كيم جون إيل ومن ثمَّ الحفيد الحالي الرفيق كيم جون أون-في كوريا الجنوبية 12 رئيساً مُنتخباً من عام 1948حتى اليوم- الرفيق فيدل كاسترو في كوبا "بطَّل، ترك، قبل موته بقليل" وسلَّم الراية لأخيه الرفيق راؤول كاسترو، الرفيق يوري زيوغانوف أمين عام الحزب الشيوعي الروسي، والقائمة تطول ومنها عموم أُمناء الأحزاب الشيوعيَّة العربية والعالمية -دعك من زعماء الجمهوريات الاشتراكية في أوروبا الشرقية- ما القصَّة، ما هذه الحكاية الكابوسية، ما سبب ذلك، أين العلَّة، ما الفائدة التي ستجنيها الجماهير العريضة من بقاء الحاكم في الحكم أو أميناً عاماً -في دولة تبني الشيوعية- حتى وفاته. ظاهرة غريبة أليس كذلك؟

هل يمكننا الحديث عن الشيوعية من غير تجلياتها في الأحزاب الشيوعية وقادتها؟ ما المنطق السليم والفائدة المخفيَّة التي تستعصي على الفهم في أن يكون الرفيق "خالد بكداش" أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوري من عام 1937 حتى وفاته عام 1995 -غاية الطول-مع احترامنا وتقديرنا لجهوده النبيلة في خدمة الشيوعيَّة، ولكنه كان تلميذاً نجيباً للرفيق ستالين و كان يُمارس البلطجة الحزبية على رفاقه، وقد شهدتُ بعضاً من فصول هذه البلطجة في حينها -رحمه الله- ومن ثمَّ تسلَّمتْ راية الأمانة العامة للحزب زوجته السيدة الرفيقة "وصال فرحة بكداش" وبعد وفاتها تسلَّم الراية ابنهما السيد الرفيق "عمَّار بكداش"-وهذه بلطجة حقيقية واضحة لا لبس فيها أن يتسلم الراية أفراد الأسرة بالتتابع كابر عن كابر- وقد مارس هو الآخر البلطجة على أعضاء حزبه فانفضوا من حوله. وهو اليوم الأمين العام للحزب الشيوعي السوري-والذي بلغ عدد ركابه عدد ركاب باص نقل داخلي- حَكَمَتْ هذه العائلة الحزب الشيوعي السوري أكثر من ثمانين عاماً ولم تسأم. "دق ع الخشب يا رفيق" لإيش زعلان؟ عجبك أهلاً وسهلاً، ما عجبك دع الحزب لأهله واختر حزباً آخر -الأحزاب اليسارية على قفا مين يشيل- معكم حق أنا لإيش زعلان ومعصِّب. بس ماني معصِّب. لأ معصِّب، يظهر ذلك في وجهك. على كل حال القصة تافهة لا تستحق الزعل يا رفيق.

أحاول من أربعين عاماً من عملي في الحزب الشيوعي أن أفهم كيف يكون الإنسان شيوعياً جيداً، لم أُفلح في ذلك، ولم أصل حتى اليوم إلى نتيجة مرضية. ما السر يا ترى؟ الشيوعيَّة كفكرة متاحة للجميع، مشاع، يمكن فهمها نظرياً من الكتب. فقط اقرأ "البيان الشيوعي" وستفهم. ولكن عندما "زُرعتْ" في أرض "الواقع" كانت نتيجة الحصاد خليطة فيها القمح والشعير والزيوان والتبن والحصى والتراب والعدس والجلبان. غربل إن كنت تستطيع الغربلة، وفي المثل: "من غربل الناس نخلوه".

هل الشيوعيَّة هي أحد أنماط اقتصاد مستقبل العالم والتي ستصل إليه المجتمعات البشرية شاء من شاء وأبى من أبى؟ هل هي قانون ديالكتيك الطبيعة كما تزعم شرذمة من الرفاق، وكما يؤكد ذلك بعض أصحاب الفكر الشيوعي؟ أم هي فكرة تتبع الفلسفية الماركسية وتتجسد في كفاح الشعوب وفق منهج محدد في "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" وتجلياتهما؟ وهل هناك فرق بين الفكرة الشيوعيَّة والفلسفة الماركسية؟ وهل الشيوعية تنتمي في المجمل إلى الأفكار؟ أم هي حركة كفاح ونضال في سبيل حرية الإنسان وكرامته؟ أم هي من أحلام البشر في العدل الاجتماعي والدولة البسيطة الخالية من أجهزة القمع والتي يُدير فيها الناس شؤونهم بأنفسهم؟ وما الفرق بين ما تتبناه الأحزاب الشيوعيَّة العالمية من أفكار والشيوعيَّة كنظرية كما اكتشفها أو طورها ماركس - أنجلز؟ أم يجب أن نقول: ستالين- لينين - أنجلز - ماركس. كما هي الصورة التي ترفعها بعض الأحزاب الشيوعيَّة العربية في مؤتمراتها وهي التي - أي الأحزاب الشيوعيَّة - تحارب الشيوعيَّة. هل فعلاً بعض الأحزاب الشيوعيَّة تحارب الشيوعيَّة؟ وهل الفساد ملَّة واحدة كما أكد المفكر العراقي هادي العلوي في مقاله الذي رفضت الصحف العربية نشره وجاء تحت عنوان" الفساد ملَّة واحدة: اسلاميون يحاربون الإسلام وشيوعيون يحاربون الشيوعيَّة" تجده منشوراً في كتابه المهم "المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة" الصادر عن دار المدى في طبعته الأولى عام 1998.

هل كي أكون شيوعياً جيداً عليَّ أن أكون أولاً وأخيراً معادياً للغرب ونمط إنتاجه الرأسمالي وحياته الاجتماعية. وما الرابط بينهما؟ هل يمكن أن أكون شيوعياً جيداً ولا أعادي مفاهيم الغرب الرأسمالي والذي يوصف اليوم بالمتوحش من قبل الأحزاب الشيوعية؟ أم أن الأمر يتلخص بالتالي: أنت شيوعي فأنت معادي لأصحاب رأس المال وطرق عيشهم. أو أترك الشيوعيَّة لأهلها.

طيب، أنا معك، ولكن ماذا أفعل بأهلي ورفاقي الذين يعيشون اليوم في الدول الرأسمالية المتوحشة ويأخذون جنسيتها ويأكلون من خيراتها، هل أتبرأ منهم وأشتمهم في مثلث أمهم المتساوي الساقين؟ كيف أحارب هذه الرأسمالية المتوحشة يا رفيق؟ هل عندك وصفة لذلك؟ ولا تُصعِّب عليَّ الأمر، فأسرتي تأكل خبز يومها من عملي في معمل جينز في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة تابع لأصحاب رأس المال المتوحش الهولندي.

في الأمس القريب ناقشت رفيقاً شيوعياً مخضرماً في الحزب الشيوعي السوري فأكد لي أن النظام القائم في كوريا الشمالية يسير نحو الشيوعيَّة "بنكهة" كورية وقد أسس لهذه الشيوعيَّة الرفيق كيم إيل سونغ وعائلته الابن الرفيق كيم جون إيل ومن ثمَّ الحفيد الحالي الرفيق العظيم كيم جون أون. والناس يعيشون في ظلها أفضل مما يعيشون في ظل نظام الاقتصاد الرأسمالي المتوحش في كوريا الجنوبية.
قلتُ له:
بتحكي عن جد يا رفيق؟
قال:
عن جد بكل تأكيد، لأن أغلب الأحزاب الشيوعيَّة العربية والعالمية تقيم علاقات طيبة مع قيادة كوريا الشمالية فهل تعتقد أن الجميع على خطأ وأنت على صواب؟ جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية تسير في النهج المعادي للإمبريالية والرأسمالية المتوحشة وتبني الشيوعيَّة.
قلتُ:
هم على خطأ بكل تأكيد، الناس في كوريا الجنوبية في الواقع يعيشون حياة أفضل بأشواط من حياة الناس في كوريا الشمالية. ولا مقارنة بين الشطرين، الفروقات هائلة، تكاد تكون جنة ونار وعندي أصدقاء عمال من حارتنا في مدينة إدلب في الشمال السوري يعملون في كوريا الجنوبية من سنوات والحياة جيدة هُناك.
أنت شيوعي وتقول ذلك، خاطرك، نلتقي فيما بعد.
كأن أفعى لدغته، استأذن، وانصرف، رحل على عجل، وهذا وجه الضيف، لم أره بعدها مطلقاً. وفي المثل الدارج "نحصد ما نزرع" فأنت لن تحصد قمحاً إذا زرعت شعيراً. ولن تحصد سلاماً إن زرعت إرهاباً. ولكن هيهات أن يُرضيه هذا الكلام.

أنا لا افهم الأمر، هل تحولت الشيوعيَّة في مفهومات الأحزاب الشيوعيَّة إلى أيديولوجية، وبالتالي أصبحت عقيدة لا يُقْبل الجدل فيها مع أنها أم الديالكتيك وأخته، هل أمست عقيدة دينية، تعتمد الاعتقاد لا العمل. وهذا يُخالف "أسس الشيوعيَّة" وفي اعتقادي حتى الله يُحاسب البشر على أعمالهم لا على عقيدتهم ونواياهم. العقيدة هي شر ما يملكه أهل الشيوعيَّة، يؤكد هادي العلوي: "العقيدة هي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حرية الضمير والوجدان. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخي معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليومي لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء"

في حادثة حقيقية رواها لي أحد الرفاق في الحزب الشيوعي السوري في مدينة إدلب، تُجسد العقيدة بأبشع صورها، مع انه كان يراها مثالاً فذاً لصلابة الشيوعي وبطولته وتفانيه في خدمة حزبه وأيديولوجيته. يقول بفخر واعتزاز:

كانت الأيام برداً زمهريراً، وكنتُ أسكن مع زوجتي في "بيت على قدنا" يتألف من غرفة واحدة وشبه مطبخ وحمام. وفي مساء ذلك اليوم أوقدنا المدفأة وجلسنا حولها نشرب الشاي. بعد قليل سمعت صوت نداء أحد الرفاق في الشارع، فتحت الباب فإذا أربعة رفاق في الخلية الحزبية التي أنتمي إليها قد نقلوا الاجتماع الحزبي إلى بيتي لضرورات أمنية. دخلت البيت وقلت لزوجتي أين سأضعك الآن؟ بعد مشاورات رضيت أن تدخل في خزانة الثياب وتنتظر هُناك إلى حين انتهاء "اجتماع الخلية الحزبية السري" حول المدفأة. وفعلاً بقيت محبوسة في خزانة الثياب لساعات عديدة دون حركة ولا صوت، هذا هو الشيوعي الحقيقي. قلتُ في سري الله لا يعطيك العافية على هذا العمل المشين.

رويتُ هذه الحكاية في دبي للأديب السوري الساخر حسيب كيالي-كان محسوباً على الحزب الشيوعي السوري وسجن أيام الوحدة بين سورية ومصر بسبب ذلك- فقال بعد أن ضحك كثيراً- أضحك الله سنكم-: والله لو كنت مكان تلك المرأة المسكينة لأخرجت "الخيزرانة" من خلف الخزانة وبدأتُ ضرب هؤلاء الرفاق بما فيهم الزوج ولحقت بهم وهم يصيحون أمامي ويركضون ولا اتركهم حتى حدود تركيا.

المأزق الذي نحن فيه، أقصد أصحاب الفكر الشيوعي، يتلخص في التناقض بين جوهر الشيوعيَّة وبين ظاهر الشيوعية، الشكل، المظهر، البرستيج، والذي يتبدى في الأحزاب الشيوعية الرسمية التي تحتكر هذا المدى الفسيح للفكر الشيوعي وتجعل منه عقيدة، شريعة أيقونة "مطرقة ومنجل" لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها، شعارات، أيقونات، معبودات. ومن ثمَّ يغيب جوهر الفكر الشيوعي، ويصبح المتخيل أكثر حضوراً من الواقعي، وبذلك يتوقف قلب الشيوعية عن الخفقان، بوصفها حركة ثورية، وتتحول إلى شبح مهجن، كسول، لا يُرعب أحداً، ويمسي الشيوعي متجهم الفكر والوجه، سوداوي، كئيب، عابس، لا يضحك، يميل إلى الانطواء، والخوف من الآخر، ورفضه، ويتمترس هذا الشيوعي خلف أوهامه، ويتحجر فكره، ويفقد صفة العطاء، ويطرح الجدل من حياته، ويعيش في عزلة، فينفض الخلق من حوله، فلا يطال عنب الشام ولا بلح اليمن. وهذا عملياً حال الأحزاب الشيوعية في أغلب دول العالم. ما العمل؟

قلتُ سابقاً، وأعيد القول: إن التصريح الخطير الذي جاء في مقدمة كتاب المفكر العراقي هادي العلوي مدارات صوفية - تراث الثورة المشاعيَّة في الشرق والذي يقول فيه: كي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي. هو الأساس في الكفاح اليومي للشيوعي، وأعتقد من وجه نظري أن الهادي فهم الشيوعية على حقيقتها وطبقها على نفسه حتى آخر يوم من حياته.

الشيوعيَّة-المشاعيَّة تجنح نحو تحقيق سيرورة إنهاض تحتاجها طبقة عاملة كادحة في الحقل والمصنع وتضم على هامشها فئات واسعة من المعدمين والمهمشين والمساكين وأصحاب السبيل الذين أعيتهم لقمة العيش. هؤلاء وغيرهم في حاجة إلى باب الرفق والرحمة والحنان البشري مع حق الدفاع عن النفس في وجه جبروت الثروة وطاغوت القوة بعدما عانوا مما يزيد عن الكفاية من القهر والذُّل. وهل يمكنني القول مثلاً أن المرء يمكن أن يكون ماركسياً ولا يكون شيوعياً؟ فأنا أعتبر أن عنترة العبسي اقترب من أن يكون شيوعياً-وهو ليس ماركسياً بالتأكيد- لأنه قال:

يُخْبِـركِ مَنْ شَهَدَ الوَقيعَةَ أنَّنِـي
أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ

أما رفيقنا عروة بن الورد فقد كان شيوعياً حقيقياً بكل تأكيد وهو القائل:

إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنتَ امرؤ عافي إنائِكَ واحدُ
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى
بوجهي شحوبَ الحقِّ، والحقُّ جاهد
أُقسّمُ جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد

الشيوعية أو المشاعية على العموم ليست بدعة من بدع الغرب، وهي بالتأكيد لها شروش ضاربة في الشرق. هؤلاء وغيرهم من أصحاب خط ما تحت الفقر-الصعاليك إن شئت وهي البروليتاريا الرثة في الغرب- يحتاجون إلى شيوعيين من نسيجهم يملكون قلوباً حارَّة شجاعة تستطيع-بلا مِنَّة من أحد- الوقوف معهم في الشدائد والمحن. هل نستنطق الأمل في أن هذه الفئة من الخلق ستُعيد اكتشاف نفسها ليس فقط من خلال معاناتها، بل وأيضاً من خلال هاجس إخراجها من ورطات الذُّل والفقر وتمليكها ما تستغني به عن التعب والكد، مما لا يتم دون إعادة توزيع الثروة الاجتماعية؟

وأختم بنصِّ من كتاب "ديوان الوجد" حيث يقول الهادي الشيوعي:

ليس ذا زمنَ العقلِ بل زمنُ الجوعِ، والعصرُ عصرُ الجنونِ الذي بشرونا بهِ وقالوا هو الكلُّ والعالمُ الأكملُ، وفي زمنِ الجوعِ كلُّ حنينٍ لغيرِ السلاحِ جفاء. فكيفَ يحنُ الترابُ إلى الماءِ والنخيلُ إلى الشمسِ والقمحُ للسنبلِ بل كيفَ أحنُّ إليكَ وما بي حنينٌ إلى رايةٍ يستظلُ الجياعُ بها ليقتحموا شاهقاتِ القصورِ والقلاعَ الحصينةَ بالجندِ والمالِ فيمضي الجنودُ إلى أهلهم وتعودُ القلاعُ إلى أهلِها ويفرحُ بالعدل أهلُ السماء! سلامٌ عليكَ فإنّا احترقنا جميعًا لكي يحكمَ الموتُ أرضَ العماءِ فتنبثقُ المعصراتُ بحارًا من الوجدِ تغنى الألوفُ بها ويمطرُ توقُ الجياعِ، سلامًا وفيضَ مسرة.