مغامرة الإبحار فى عالم محمود أمين العَالِمْ و ”فلسفة المصادفة“( 1 - 2)


عمرو إمام عمر
2020 / 11 / 15 - 14:49     

”بعد أن بدأ تراثنا العلمى فى العصر الذهبى للحضارة الإسلامية بداية قوية ناضجة سبقنا بها النهضة الأوروبية الحديثة بقرون عديدة ، مازلنا اليوم نتجادل حول أبسط مبادئ التفكير العلمى و بديهياته الأساسية ، لو كان خط التقدم ظل متصلا منذ نهضتنا العلمية القديمة حتى اليوم ، لكنا قد سبقنا العالم كله فى هذا المضمار إلى حد يستحيل أن يلحق بنا الآخرون ؛ و مع ذلك فى الوقت الذى يصعدون فيه إلى القمر ، نتجادل نحن عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة ، و للطبيعة قوانينها الثابتة أم العكس ... “

د. فؤاد زكريا



مدخل
واحدة من أكبر المشكلات التى تواجه مجتمعنا اليوم - المصرى بوجه خاص و العربى فى العموم - هو الخطر الذى يهددنا من خلال نظامنا التعليمى القائم على التلقين و الحفظ ، كذلك أفتقاد الكليات العلمية فى معظمها الاهتمام الفلسفى الفكرى ، فالاهتمام بالدراسة العلمية و تطبيقتها التقنية بات معزولا عن الجانب الفكرى و الفلسفى للعلم و لا غرابة إذا وجدت غالبية حاملى الشهادات العلمية فى مجال الهندسة و الفيزياء مثلا لا يعرف أسهامات الفلسفة فى تحويل مسار العلم من المثالية إلى المادية و تأثير هذا على مسار التقدم الفكرى و العلمى للبشرية ، و يقول ”فليب فرانك“ فى كتابه ”فلسفة العلم“ «غالبا ما يظل العلماء محتفظين بفلسفة طفولتهم بالرغم من التغير الذى يطرأ على تفكيرهم العلمى ، و لهذا فكثيرا ما يحدث أن يكون عرضهم للعلم منطويا على بقايا فلسفات عفا عنها الدهر ، و قد أوضح آرنست ماسن هذه النقطة بجلاء شديد ، مثله فى ذلك مثل هوايتهُد الذى يعد له فى العلم و فى الفلسفة ، بالرغم من أنه حبذ وجهات نظر مختلفة تماما ، و قد أتفق كلاهما على التأكيد على أنه بدون فلسفة سوف يصبح العلم مطية للفلسفات التى عفا عنها الدهر»(1)؛ و يقول الدكتور ”صلاح قنصوة“ فى كتابه المعنون بـ ”فلسفة العلم“ أيضاً «لعل عزوف البعض عن الفلسفة راجع الظن بأنها مجرد وعاء قديم لشتات من المعرفة المتنوعة لم يبقى تخصص العلوم فيه شيئا ، فإذا ما خطر للفلسفة أن تقدم شيئا من المعرفة ، فلن يكون حظها أوفر مما يكسبه العطار فى منافسته للصيدلى ، و لن يكون موقفها أفضل من موقف حلاق الصحة من الطبيب»(2) …

من المؤسف إننا اليوم نجد أن كثيرين من المنضمين و المتأثرين لجماعات التطرف الدينى مثل الأخوان و السلفين و أشباههم من خريجى كليات علمية مثل الطب و الهندسة و حتى من دارسى الفيزياء أو البيولوجيا لأفتقادهم الدراسة الفكرية الفلسفية ، حيث لا يتعلم خريجوا تلك الكليات سوى ثنائية التفكير _ صح أو خطأ ، حق أو باطل – التى تفرط فى تبسيط الأمور و تلغى تنمية التفكير النقدى ؛ كثيرا ما نقرأ من بعض المحللين تكرار هراء قاتل إن الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية هى العامل الأساسى وراء سهولة تجنيد هؤلاء الشباب ، إلا أن الحقيقة عكس ذلك فهذا العامل ثانويا فى حالات كثر فالدراسات و التقارير الحديثة التى تطرقت لظاهرة الأرهاب الدينى أشارت أن هناك ليس بالقليل من المجندين فى داعش كمثال من ميسورى الحال و لم تعترضهم مشاكل فى البحث عن وظيفة أو عمل و لم يعش الكثير منهم حالة من البؤس فى حياته ، بل إن أكثرية هؤلاء من خريجى الكليات العلمية ، إذا فالمشكلة الأساسية هى نمط التفكير الذى تؤسسه العملية التعليمية الفاسدة ...

إن الصلة التى تربط بين الفلسفة و العلوم التطبيقية وثيقة ، فالعلم وحده يعجز عن تقديم أجابات واضحة حول كثير من الموضوعات لفهم طبيعة الكون و تحليله ، كذلك كثير من الحقائق العلمية المستمدة من العلوم الطبيعية و التطبيقية مثل الفيزياء و الكيمياء أو البيولوجيا لا تستطيع تقديم صورة شاملة و واضحة حول النظريات و المبادئ التى تبحث فيها و إلا ستتحول إلى ما يشبه الآلة المتحركة بلا عقل و هنا يأتى دور الفلسفة التى تعطى للأشياء قيمتها الفكرية من خلال تقديم برهان فلسفى للأسئلة التى لا تستطيع العلوم الإجابة عنها لتشكل لنا التصورات الشاملة للحل ، فالعلاقة بين الفلسفة و العلم علاقة جدلية تكاملية مما يجعل الفلسفة أمراً لا يمكن تجنبه من قبل العلماء ، و تاريخيا اثرت الفلسفة و تأثرت بالاكتشافات العلمية ؛ فتاريخ و سوسيولوجية العلم و مناهجه و إنجازاته يُمْكنناَ أن نتعرف على ماهية هذا التأثير فإذا أخذنا كمثال أعمال أقليدس الهندسية ”علم المكان“ اساساً إنشقت عن الفلسفة و كانت تدرس بواسطة الفلاسفة ، ثم جاء كل من كوبرنيكوس و جاليليو ثم نيوتن الذين حرروا الفيزياء من هراء الميتافيزيقيا و أعطوا لها بعدا فكريا ماديا فلسفياً ، و اليوم فى كثير من الجامعات أقسام الفيزياء بها تحمل أسم ”فلسفة الطبيعة“ ، و برغم إننا سنجد إنفصال بعض العلوم عن الفلسفة مثل البيولوجيا و علم النفس و الاجتماع … الخ ، إلا أنها لازالت العلم الوحيد الذى يملك الأجابات حيث لا تستطيع فروع المعرفة الأخرى الأجابة عنها ، فمثلا الناس العاديين يجدون صعوبة فى تحديد ماهية الزمن او أن يعطونا تعريفا له ، و قد يحاول بعضهم تعريف الزمن بمدلول الساعات و الدقائق و الثوانى ، لكن هذا خلط خاطىء بين وحدات القياس الزمنية و الزمن فى حد ذاته …

”العَالِم“ بين المادية و المثالية
يفاجئنا فيلسوفنا ”العَالِم“ فى مقدمة بحثه بقوله ”لم تكن المصادفة موضوعا لبحثى منذ البداية ، بل كان الموضوع شيئا غامضاً ، يقف أمام قواى العارفة كأنه حائط كثيف معتم ، استشعر بجلاله ، و إن لم أتبين له فى نفسى دلالة محددة“ ، من خلال مقدمة البحث نتعرف على رغبة سيطرة على فكر الباحث ، فقد كان يحلم بمغامرة فكرية لإقامة ميتافيزياء تجريبية مرتكزة على افكار الفيلسوف الألمانى ”كانط“ ، أو كما قال تأسيس مذهب كانطى جديد معتمدا على نتائج العلم الحديث متأثراً بالباحثة البريطانية D. M. Emmet(3) و كتابها ”طبيعة التفكير الميتافيزيائى“(4) ، التى أشارت فيه إلى حاجتنا إلى كانطية جديدة تحدد طبيعة التفكير الفيزيائى و الرياضى بالنسبة للتصورات العلمية الجديدة قائلة «سأحاول فى هذا الكتاب الخوض بأكثر من محاولة مقلقة لفحص طبيعة التفكير الميتافيزيقى ؛ و مع ذلك أعتقد أن هذا الانشغال بمشكلة المنهج هو مهمة ضرورية فى عصرنا ، نحن بحاجة إلى كانط جديد بدلاً من هيجل جديد ؛ شخص يمكنه تحديد الطبيعة المميزة للتفكير الميتافيزيقى فيما يتعلق بالأنواع الجديدة من المفاهيم العلمية ، كما فعل كانط بما يتعلق بالأنواع الجديدة من المفاهيم العلمية و كما فعل فيما يتعلق بالفيزياء نيوتن. هذا ما قد يكون أكثر أهمية فى الفن و الأدب و الفكر الدينى فى عصرنا … »(5) ، كان كاتبنا متاثراً فى تلك المرحلة بكانط و مذهبه الفلسفى الذى ارتكز على أطروحات نيوتن و قوانينه المشكلة للميكانيكا الكلاسيكية(6) ، و فى نفس الوقت كان شديد الشغف بالفلسفة المثالية ، يأمل فى هدم المادية العلمية ، و يقول ”رحت اتسلح بالمعرفة العلمية ، و بنتائجها الحديثة بنوع خاص لكى أتخذ منها معول لتقويض العلم نفسه“(7) ، إلا أنه وقف عاجزاً عن التوفيق بين محاولاته الكانطية و بين نتائج العلم الحديثة ؛ يقول ”العَالِم“ فى تلك اللحظة أحسست فى سذاجة و غرور أنى فى مهمة تاريخية لوضع مذهبا كانطياً جديداً ، إلا أنه اصطدم بعدم علمية الطريق الذى أنتهجه حتى انه وصف نفسه بأنه كان دون كيشوتياً ، فقد أنطلق متحمسا فى طريقه بدون أن يملك درعا معرفيا صلداً ، من هنا شعر أنه بات مأزوماً يتحرك عبر تيارات فكرية غير علمية ، متأثرا بنيتشه و برجسون و مايرسون ، و التى وصفها بأنها ”جعلت من العقل أطارا محدوداً قاصراً ، و من الحياة حبلاً منصوبا فوق الهاوية“(8) ، ليتصدع أمامه البناء الذى كان يحاول بناءه و يكتشف مدى هشاشته ، ثم تأتى وقفته الطويلة مع ”برتراند راسل“ خاصة كتابيه ”التصوف و المنطق“ و ”معرفتنا بالعالم الخارجى“ إلا إنه لم يسترح إلى منهجه ، فقد رفض مفكرنا الكبير أن يقتصر دور الفلسفة على التوضيح و التحليل كذلك أحساسه بقصور المنهج التجريبى و تأويلات الوضعيين المنطقيين حيث تمثل الملاحظة و المشاهدة بالنسبة إليهم هى الضمان الوحيد للحقيقة ، و برغم أنهم وقفوا موقف العداء للميتافيزيقيا بناء على مبدأ التحقق و أن كل قضية لا يمكن التحقق منها فى ضوء التجربة الحسية هى قضية زائفة خيالية و يجب استبعادها ؛ إلا أنه سخر من فهمهم القاصر للنظرية الذرية و الحدود الحسية الأسمية المتأثرة بالفيزياء الكلاسيكية التى أرتكزت على مبادئ السببية و الحتمية - Causality and Determinism - ، و التى رأت انه يمكن تحديد مسار كل جسيم ذرى تحديد كامل و دقيق ، على أساس السببية الميكانيكية - Mechanical Causality – و التى ثبت عدم جدواها فى دراسة طبيعة الذرة و ما دونها ...

كانت نقطة التحول حين قادته ”المصادفة“ إلى كتاب فلاديمير لينين ”المادية و المذهب النقدى التجريبى“ ، الذى قاده بدوره إلى كتاب فريدريك أنجلز ”جدل الطبيعة“ ، لينقلب رأساً على عقب و بدلا من أن يمسك بالمعول ليهدم المادية ، أمسك نفس هذا المعول ليقوض الفكر المثالى ، ليشق ”العَالِم“ طريقه إلى ”الماركسية“ من خلال الفيزياء ، و يجد نفسه مدافعاً متشدداً عن الموضعية العلمية ، فلقد تبين له إن المسألة الأساسية التى يستعر حولها الخلاف لتحديد القيمة الحقيقية للعلم هى ”المصادفة“ ، فهى متعلقة بالمنهج الاحتمالى للعلم من ناحية ، و بقوانينه و ظواهره من ناحية أخرى ؛ أنطلق فيلسوفنا بعد أن تضعضع أمامه البناء الكانطى الذى حاول بناءه إلى دراسة المصادفة فى تاريخ الفلسفة و الفيزياء مستبصراً بما طرحه كل من ماكس بورن(9) و ريشنباخ(10) ، كما تعلق بالمفكر الفرنسى كورنو(11) الذى كشف أمامه العناصر الأساسية التى أقام عليها تصوراته للمصادفة الموضوعية و نقده للتصورات الأخرى الغير موضوعية ، ليستقر إلى البحث فى ”المصادفة الموضوعية و دلالتها فى فلسفة الفيزياء الحديثة“ ...

المصادفة و دلالتها الشائعة
فى الباب الأول من الفصل الأول للكتاب يأخذنا ”العَالِم“ فى جولة تعريفية لمفهوم المصادفة و دلالتها ، و يقول ”إن كلمة المصادفة كلمة قديمة توارثتها الأجيال و الاسماع و الملابسات و التجارب و حشيت بالدلالات المختلفة المتباينة“(12) ، و تلك حقيقة نحن نستخدم تلك الكلمة بمدلولات متنوعة و أحيانا متضاربة إلا انه يفاجئنا بقوله أنها ”لا تلبث أن تصبح الأساس الذى يقوم عليه العلم الإنسانى بكافة صوره فى القرن العشرين ..“(13) ؛ و يستطرد كاتبنا شارحاً إن المصادفة اصبحت تتميز بدلالات مغايرة لكل الدلالات الشائعة السابقة ، فإذا صح القول إذا كان ”القدر“ سيطر على فكر عصور ما قبل العلم لكنه استبدل منذ القرن السابع عشر بالقوانين العلمية الحاسمة ، إلا إن مفهوم حتمية القدر القديم لا تزال لها وجودها حتى اليوم و لم تستطع الإنسانية التخلص منها رغم التقدم العلمى الكبير الذى نشهده ، فلا يزال الكثير يؤمنون بالحتمية القدرية و إن الحياة لها مسارا محددا سلفا غير قابلة للتغيير فهى خاضعة لتسلسل منطقى سببى ، و هناك من يعولون ذلك إما على قوانين الطبيعة بناء على الملاحظة و الرصد و التجربة العلمية و البعض يؤمنون بالغائية(14) الإلهية ”القـدر و المقدر“ ، و هؤلاء يستبعدون أى معنى للمصادفة من أساسه ، و أخيرا من يؤمنون بعشوائية المصادفة و فوضويتها التى تستبعد حتمية القدر ألألهى أو حتمية قوانين الطبيعة ، إن تلك الثنائية سببا أساسياً فى تسميم العقول ، فالعقول القاصرة تتكئ على الحتمية الإلهية فى محاولة للخلاص من متاهتها الفكرية أو لتبرير أفعال الطبيعة مثل البراكين و الزلازل مثلا إلى غضب الآلهة أو عبثهم لتتمزق من خلالهم الحقائق العلمية و الإنسانية ؛ تجنب العلم دائما المصادفة على أساس إن ”ما يمكن ان يخضع للقوانين العامة يعد ضروريا ، و ما لا يمكن إخضاعه يعد مصادفة“(15) ، من هنا يضعنا ”العَالِم“ أمام ثنائية أخرى بين المصادفة و الضرورة ، فالمصادفة لا تحملها قوانين هى فقط الحجة التى نلجأ إليها لكل ما خفيت ضرورته ، فهى كما وصفها ”ليست إلا علة وهمية أبتدعها جهلنا“(16) ، و يشرح لنا أنه بسبب جهلنا بالعلل الحقيقية فهى تأخذ صفة ذاتية باطنية مرتبطة بالخبرات المكتسبة للشخص ، و لكنه فى العادة جهل مؤقت فهى تختفى و تتراجع كلما زادت معرفة الفرد ، لذا كان هدف كاتبنا مناقضة البحث الذاتى القاصر للمصادفة و تحديد دلالتها الموضوعية من حيث أنها تعبير عن الموقف الراهن للعلم الحديث و إن اقتصر بحثه على الفيزياء ...

يأخذنا كاتبنا بعد ذلك إلى شرح الحدود العامة للمصادفة الموضوعية من خلال تكوينها التاريخى لفكر الإنسان بشكل عام و النفسى بالنسبة للفرد ، فيقول إن المصادفة تكاد تكون مجهولة عند البدائيين ، فالإنسان البدائى أعطى للكون تفسيرا لا منطقيا فى محاولته لفهم الظواهر الطبيعية أو الحيوية فأعطى لكل شئ رمز لقوى خفية أو سحرية ، ففى تصوره لا شئ يحدث بطريقة عشوائية ، فالحوادث و الأمراض تحدث من خلال تدخل قوى غير منظورة ، و هذا ما نراه أيضا فى الطفل ، فهو يشبه الإنسان البدائى فى نظرته للحياة من حوله ، ففى سنواته الأولى لا يدرك ”المصادفة“ ، فهو يستبعدها و يحاول دائما البحث عن مبرر و على حد تعبير بياجيه(17) إننا سنجده فى إصرار الطفل الدائم على أن يسال ”لماذا“ ، فالطفل يظل غير مدرك لمعنى المصادفة طالما لا يجد تفسيراً ، إلا إن ذلك يختلف مع التطور العمرى للطفل ، و ازدياد الخبرات من خلال الاختلاط و التراكم المعرفى ، ففى سن السابعة و الثامنة(18) و هو سن يزداد فيه النمو اللغوى عند الطفل و استخدام الرموز اللغوية ليبدأ فى تكوين المفاهيم و تصنيف الأشياء إلا أن الأدراك البصرى يتقدم على التفكير المنطقى فى تلك المرحلة العمرية الذى يتسيدها تمركزه حول الذات ؛ لننتقل إلى مرحلة سنية اخرى ما بين الحادية عشر و الثانية عشر(19) ، و هى مرحلة بداية المراهقة حيث يزداد الإدراك لدى الطفل ليظهر الاستدلال المجرد و الرمزى فى تفكيره ، و معظم الأطفال فى هذا السن يستطيعون وضع فرضيات و أختبارها ، كما ينمو التفكير المجرد فى محاولة للوصول إلى نتائج منطقية من خلال التفكير الاستدلالى الفرضى ، كما تتطور قدراته على تخيل الاحتمالات قبل تقديم الحلول العملية ، كذلك يزداد تركيز تفكيره على العلاقات أكثر من المحتوى ، حيث ينتقل من مرحلة التمركز حول الذات إلى التفكير فى العلاقات الاجتماعية المتبادلة ، و فى تلك المرحلة يبدأ تشكيل اسلوب تفكير الطفل من خلال العلاقات الاجتماعية و تأثره بالثقافة الشائعة حوله ، و يتشكل لديه مدى إدراكه بالمصادفة كعملية ترابطية ، التى تكون إما ذات طابع ذاتى من خلال الصفات الوجدانية المتبقية من مرحلة سنوات الطفولة الأولى أو صورة أرتدادية مادية بسيطة بقدر تطور مداركه فينتقل من النتائج النهائية إلى المسلمات الأولية للحدث فيدرك صعوبة او استحالة العودة إلى بدايات الحدث ليدرك بعد ذلك طبيعته الترابطية لتتحول إلى طابع موضوعى ، و يذكر الكاتب أكثر من مثال طرحه بياجيه لشرح تلك النظرية أخترت منها هذا المثال ”لو أحضرنا عشرين قطعة ذات وجهين ، و على وجه منها صليب و على الوجه الآخر دائرة صغيرة ؛ لو رمينا هذه القطع جميعاً فى كيس ، ثم قمنا بهز الكيس جيداً ، بعد ذلك أفراغنا محتويات هذا الكيس على مائدة ، فخرجت كافة القطع على الوجه الذى يحمل صورة الصليب ، لو تحقق ذلك لما رأى الطفل الصغير فى مرحلة سن السابعة أو الثامنة أى غرابة ، بينما فى السن الأكبر الحادية عشر أو الثانية عشر سيعرف مدى صعوبة تحقيق ذلك لأنه سيدرك أن هناك عملية ترابطية بين الوجهين المختلفين للعملة و هز الكيس و حركة سقوط العملات على المائدة ، لتتشكل لديه صورة ذات طابع موضوعى ...“(20)

ليصل بنا الكاتب إلى أن ”المصادفة ليست مجرد أسم نخفى به جهلنا الإنسانى او مجرد غائية غير مقصودة ، و إنما هى قمة الفهم الإنسانى و غاية نضجه فى مواجهته للواقع الموضوعى“(21) ، و على هذا تتشكل أهمية البحث فى المصادفة لتحديد قيمتها كأساس للعلم …

المصادفة فى العهد القديم
فى الفصل الثانى من الباب الأول للكتاب يتتبع كاتبنا فكرة المصادفة تاريخيا ، فيشير أن أول محاولة لفهم طبيعة المصادفة كانت عند أمبادوقليس(22) و ديمقريطس(23) ، و محاولة أكتشافهم للمعنى الموضوعى للمصادفة باستبعادهم للغائية و التدخلات اللاهوتية من خلال نقد ارسطو(24) لهما فى كتابه الشهير الفيزياء(25) ، حيث يقول أرسطو أن هناك من أنكر وجود المصادفة على أساس أن كل فعل أو حدث له علة محددة ، و هناك من أشار إليها بغموض على أساس أن بعض الأشياء قد تنشأ مصادفة و بعضها لا ، فأرسطو وجد إن المصادفة هى الحدث العارض الدال على اثر ما فى سلسلة من العلل الاتفاقية ، و من غير أن يكون هذا الأثر قد حصل عن فكر و روية ، من هنا نرى إن ارسطو قد ميز المصادفة على اساس أن ما لا يحدث دائما فهو حدث عارض ، أما أمبادوقليس فقد أعزا التغيرات العارضة إلى العناصر الأرسطية الأربعة ”التراب و الماء و الهواء و النار“ ، حيث تُنشأ الأشياء و الأشكال من خلال تمازجهم بمقادير مختلفة ، و أن القوى المحركة لهذا التمازج هما ”قوة المحبة و قوة الكراهية“، فأحيانا تكون السيادة للمحبة و تارة تكون للكراهية ، و فى طور تأتى حالة بين بين ، و يشير هنا كاتبنا إلى أن أمبادوقليس بهذا أعطى لهتان الصفتان الأخيرتان تأويلاً فيزيائياً ، و إن الصورة التى يقدمها تعد تقدما ملموسا نحو فكرة القانون العلمى او التحديد المادى ، فهو لم يخضع لسيطرتها كمبادئ إنسانية و إنما عدها جزء من التركيب الفيزيائى قائلا ”أننا لا نستطيع أن نلومه على هذا كما فعل أفلاطون و أرسطو بل ندركها على حقيقتها عندما نلتمس الحس العلمى عند أمبادقل و هو يتطور تطوره الحقيقى عند ديمقريطس ، فسوف نجد أن ذلك الوضع الغريب للمصادفة طبيعى بل ضرورى“(26)

ينتقل كاتبنا ”محمود العَالِم“ بعد ذلك إلى نقد ارسطو لديمقريطس الذى رأى إن المادة تتكون من ذرات –Atomos- متناهية الصغر لا ترى بالعين المجردة ، غير قابلة للانقسام أو الانحلال أو الفناء فهى خالدة(27) ، و أنها توجد على نحو مستقل ، و الذرات تختلف من حيث الشكل و الخاصية و الثقل ، تتحرك بشكل متسق و مستمر بحيث تصطدم ببعضها البعض من خلال حركة الدوامة(28) فى الفراغ اللا متناهى ، لتتجمع الذرات المتشابهة معاً لتتشكل الكائنات و الأحياء و المواد المختلفة لتضفى على المادة تنوعا هائلاً كما نراه فى الطبيعة ، حتى الروح أعطى لها ديمقريطس تأويلاً فيزيائيا حيث وصفها بأنها تتكون من ذرات خفيفة تتحلل بفناء الجسد ، و بالتالى فأن حركة الذرات الذاتية هى التى شكلت الكون ؛ رفض ارسطو تلك النظرية و لم يستطع أن يتقبلها ، على أساس أن ديمقريطس لم يفسر أو يعطى تعليلاً لحركة المادة ، فالذرات تتحرك من تلقاء نفسها ، فالوجود الحقيقى لدى أرسطو هو الوجود المتحرك محسوساً و مرئياً ، حيث الحركة ضرورة أساسية ، و هى تعبير عن التغيير من حال القوة إلى الفعل ، لذا فقد اشار ارسطو إلى أنها تحتاج إلى علل أربعة لتحقيق ذلك ”العلة الصورية ، العلة المادية ، العلة الغائية ، العلة الفاعلة“ - تذكر ما أشرنا إليه عن العناصر الأرسطية الأربعة التى تشكل المادة - و المادة عند أرسطو تنتظم فى الكون بحسب ثقلها ، فالتراب أثقلها فيكون فى الأسفل – حيث مركز الكون - و من هنا تشكلت مركزية الكون حيث تقع الكرة الأرضية و ان ما يربط الأفلاك و الكواكب و النجوم هى مادة ”الأثير“ ، لذا فلا وجود للخلاء أو الفراغ ، بينما ديمقريطس أعطى للفراغ وجود من خلال ضرورة حركة الذرات من خلاله ، و هذا ما رفضه أرسطو بشدة الذى أسس نظريته على إستحالة الفراغ ، فما طرحه ديمقريطس سيؤدى إلى أن سرعة الجسم فى الخلاء أو الفراغ ستصبح لا متناهية لعدم وجود مقاومة و لأرسطو فى تلك النقطة حجتان شهيرتان – و إن ثبت خطأهما بسبب جهل أرسطو بقوانين الكتلة و الجاذبية - الحجة الأولى إن الأجسام تتحرك بحسب ثقلها ، فالاجسام الثقيلة تسقط اسرع من الأجسام الخفيفة ، و ذلك لإن السرعة تتوقف على المقاومة التى تُبدى للشئ من جانب الكون الوجود فيه ، فإذا كان الخلاء خاليا من المقاومة ، فمعنى هذا أن سرعة الأجسام الثقيلة منها أو الخفيفة ستصبح واحدة ، أما الحجة الثانية فتقول إذا كانت السرعة تتوقف على المقاومة و كانت المقاومة فى الخلاء معدومة ، فيجب أن يقال فى هذه الحالة أن الجسم يهبط أو يسير بسرعة لا متناهية ، و بما إن السرعة اللامتناهية مستحيلة فالشرط الذى تقوم عليه الحركة مستحيل ، كذلك أرسطو كما اوضحنا من قبل يرى أن الوجود المتحرك يجب أن يكون محسوسا و مرئيا ؛ كذلك الفراغ أو الخلاء الذى تتحرك فيه الذرات لا متناهى عند ديمقريطس و هذا ضد فرضية ارسطو من الأساس التى وصفت أن الكون محدود حيث مركزه الأرض و نهايته فلك الأفلاك الأخير – يتشكل الكون عند أرسطو من خمسة و خمسين فلكا - و أن الكون يستمد حركته من الإله فهو المحرك الأول ثم تنتقل الحركة إلى الأفلاك واحدا تلو الآخر ، فالطبقات التى تفصل بينها لا فراغ فيها حيث يملئها الأثير ، فيحرك الأعلى منها ما أسفله حتى نصل إلى فلك القمر ، فعالم ما فوق القمر هو عالم الأثير الخالد الذى تحكمه الآلهة و تقوم بتحريكه على نحو ما تحرك الروح الإنسان ، أما عالم ما دون القمر فهو عالم الفساد و الإنسان و هو بهذا لم يخرج عن ما طرحه فيثاغورث من قبل فى نظرته للكون الذى وصفه و كأنه مخلوق حى يتنفس ؛ و يقول كاتبنا ”محمود العَالِم“ فى ذلك ”ارسطو معذور لهذه الدهشة التى يبديها ، ذلك لأن نظرية ديمقريطس فى حركة الدوامات نظرية من الصعب أن يتقبلها عقل ارسطو ؛ فعقلية ارسطو تتحرك داخل إطار من الغائية أما ديمقريطس فمادى موغل فى ماديته ، يجعل للـضرورة السيادة المطلقة على كل ما حدث“(29) …

يشرح لنا كاتبنا بإسهاب الفارق بين غائية أرسطو و مفهوم الضرورة عند ديمقريطس ؛ فالضرورة عند أرسطو داخل أطارها الغائى الخارجى مرتبطة بماهية الشئ متحدة معه ؛ أما عند ديمقريطس فهى علة خارجية و إن لم تكن لديه دلالة مادية واقعية ، فكل شىء مقدر من قبل بالضرورة و إن رفض فى نفس الوقت فكرة العلة الغائية التى أرتكز عليها فكر ارسطو ، لهذا كان نقد أرسطو للذريين عموما و منهم ديمقريطس فى غاية الحدة قائلا ”إن هذا لأمر عجيب من هؤلاء الناس أن يقولوا هذا الكلام ، فى حين إنه ليس الحيوان و لا البناء بكائنين أو حادثين عن الصدفة ، بل عن أسباب إما طبيعية و إما العقل ، و ما غير ذلك ، فإنه ليس يتولد أى شئ أتفق من المنى و البزر ، لكن من هذا البزر يتكون الزيتون ، و من هذا المنى يكون الإنسان ، فضلا عن السماء و الموجودات الإلهية التى يكتشفها بصرنا إنما كانت من تلقاء ذاتها“(30) ، فأرسطو يرى أن للطبيعة علة و أن العلة غائية موجهة لا تقبل النقاش مرتبطة بالقوى المحركة لها – الحب و الكراهية فى حركتها الجزئية و المحرك الأول أو الأله فى الحركة الكلية للكون - ، أما عند ديمقريطس فإن العالم كما تصوره لم يكن يتطلب حب أو كراهية أو محرك أول و لكن هو وجود مادى فيزيائى فى جملته ، و حركته ميكانيكية يسيطر عليه قانون وجوده نفسه ، ليستبعد بذلك مخلفات التقاليد الدينية و ما طرحه أرسطو من قبل و هى فرضية العلة الغائية و بالتالى تتعدد العلل لديه و تنعدم إمكانية تحديدها ، فنشأة الكون لم تكن من خلال أى قوى دخيلة ، فالذرة التى تؤلفه تتحرك فى المكان و الزمان و تولد بترتيبها المظاهر المتنوعة فى الكون المحسوس ، فالدوامة هى علته فلا يوجد قصد من حركة الذرات فهى تقع فيها عرضاً و لا يوجد قصد من أى قوى خارجية دخيلة ”فالكون إذا لا يسير بخطة معينة أو يوجد قصد من الخلق ، أى أن الذرات فى حركتها فى المكان و الزمان اللانهائيين و ما يصدر عن تجمعاتها لتكوين الأشياء تخضع لضرورتها الشاملة ، إلا أن هذا الخضوع لا يتم فى شكل محدد و متجانس و إنما فى شكل من التعقيد و التداخل و الاختلاط و التعدد لدرجة تعجزنا عن التنبؤ بما سوف يحدث لها ، و عدم قدرتنا على تحديد مكانها و زمنها ، و لهذا نعزو تلك الظاهرة إلى «المصادفة» التى هى مجموعة من الحوادث تتداخل معا تساهم فى صياغته و تكوينه و نشأته عوامل تخضع للضرورة و العلية“(31) …

ينتقل بنا كاتبنا بعد ذلك إلى بحث ارسطو فى ما بين المصادفة و التلقائية(32) نستخلص منه أن ”المصادفة إذا علة عرضية و إن تكن فى مجال تلك الأفعال التى تتحقق بغرض معين ، و تتضمن القصد ، و هكذا تتضح أمامنا المصادفة عند أرسطو بمسحة غائية بارزة“ (33) ، و بهذا فإذا كانت المصادفة فى ذاتها كعلة إلا أن ما ينتج عنها من آثار حادث بالأتفاق ، و هنا يطرح الكاتب تساؤلا و إن أجاب عليه ”إذا كانت المصادفة علة عارضة ، فهل العلة العارضة مصادفة كذلك عند أرسطو ؟ … الحق لا ...“(34) ، فأرسطو وصل بنظريته إلى أن المصادفة ليست محققة بالضرورة ، و إنما تتحقق فى شكل مقصود بطريقة عرضية لتحقيق غرض ما ، ”فالمصادفة و التلقائية هما علتان عرضيتان لمعلولات يمكن أن تنجم عن القصد و التدبير“(35) ، فالعارض عند أرسطو لا يخرج عن خمسة حالات : -

1- التقاء عشوائى بين حادثين
2- حضور متواقت لصفتين مستقلتين فى موضوع واحد
3- أنتساب ممكن لصفة إلى الموضوع
4- أن يكون البرهان جزء من الضرورة ، لأنه لو برهن على النتيجة فإنها لا يمكن أن تكون شيئا غير ما كانت عليه
5- أن بعض الأشياء عند أرسطو لها علتها الداخلية و آخرى علتها بالضرورة خارجية

فأرسطو خصص الضرورة المطلقة لعالم ما فوق القمر و هو عالم الآلهة ، أما عالم ما أسفله هو عالم الجواهر المتكونة حيث الإنسان و الحيوانات و ما شابه ، و هو عالم الضرورة فيه قد تكون أو لا تكون فهى ليست شرطا أساسيا ، و بالتالى فإن هناك رابط بين المصـادفة و الشئ العارض و التلقائى على اساس أن المادة هى شئ ما بين الوجود و اللاوجود ، و فى نفس الوقت هى علة عارضة - أى ما لا يحدث دائما - ، الذى هو علة المصادفة و إن تأخذ حوادثها صفة القصد أو الضرورة ، و كان أرسطو قد قصر المصادفة على كل ما هو عاقل ، أما الحيوان فتنتسب إليه التلقائية ، و يستخلص كاتبنا ”العَالِم“ من هذا أن ارسطو أعطى للمصادفة دلالة سلوكية من خلال قصرها على كل ما هو عاقل أى الإنسان بهذا باتت مشروطة بحرية الإرداة الإنسانية ؛ أما إذا أنتقلنا إلى ديمقريطس سنجد أيضاً أن المصادفة لديه لها دلالتها السلوكية فى الجانب الأخلاقى من مذهبه ، فنجده قد وضعها فى مقابل الإرادة و التدبير ، و هذا لا يتعارض مع ماديته أى لا يتعارض مع فهمه للضرورة باعتبارها علة خارجية ، و يعارض ”العَالِم“ بعض المؤرخين اللذين أتهموا مذهب ديمقريطس بالتناقض قائلاً ”لا سند لما يذهب إليه بعض المؤرخين من القول بالتناقض بين مذهب ديمقريطس الفيزيائى و مذهبه الأخلاقى من هذه الناحية ، فالمصادفة فى حدود السلوك الإنسانى عنده هى الثمرة المواتية بلا جهد مبذول. فهى ليست نتيجة لإرادة الإنسان الحرة و حكمته“(36) ، إذا لا يوجد تعارض بين مذهبه الأخلاقى و الفيزيائى ، و يؤكد كاتبنا إن الصلة بين حرية الإرادة و المصادفة سواء عند أرسطو أو ديمقريطس لم تكن جوهرية بل عابرة و بالتالى لم تشكل إشكالية لمذهبهما ...

أما ابيقور(37) الذى يعتبر إمتداد لديمقريطس بالرغم من إنه أستبعد كل الأساطير الدينية كما فعل الذريين من قبله إلا أنه فى المقابل لم ينكر وجود الآلهة بل على العكس فيقول ”الآلهة موجودة ، بلا شك ، و نحن على يقين من وجودها ، غير إنها لا توجد على النحو الذى يتصوره الجمهور ، إذ ليس لهذا الأخير صورة ثابتة عنها ، و ليس الكافر من لا يؤمن بآلهة الجمهور ، بل هو من ينسب إليها صفات وهمية“(38) ، فأبيقور حاول الحفاظ على حرية الإرادة الإنسانية من خلال نقضه للحتمية الطبيعية و الحتمية المنطقية ، فهو بهذا رفض رأى ديموقريطس بأن كل الأشياء تتعاقب فى الطبيعة وفقا لحتمية مطلقة ، فهو وجد أن الإنسان فى الحالتين يصبح فى حالة مهينة من العجز و الضعف سواء أمام آلهة جبارة تسن أحكامها بلا قيد أو شرط ، أو قوانين ضرورية حتمية رسمتها الطبيعة ، و بالتالى فأن التصديق بالخرافات الشائعة حول الآلهة افضل للإنسان و أقل خطورة من الخضوع لقوة الطبيعة قائلاً ”و لعله من الأفضل حقا أن نصدق بالأساطير المتعلقة بالآلهة على أن نخضع للقدر الذى يقول به الطبيعيون ، ذلك أن الأسطورة لا تجعلنا نفقد الأمل فى إمكانية أستعطاف الآلهة بإجلالنا لها ، فى حين أن القدر يتصف بالحتمية المطلقة التى لا يمكن ردها.“(39) ...

اعتقد أننا يجب هنا أن نتعرف بدقة على تفسيرات ابيقور لحركة الذرات و الكون ، فقد خالف استاذه ديمقريطس و مذهبه الآلى فى تفسير الأشياء ، فقال إن الذرات تتحرك إلى أسفل بأستمرار ، على أساس أن كل ما له ثقل يسقط إلى الأسفل ، و هو هنا يقع فى إشكالية فالذرات تتحرك فى الخلاء ، ليفرض علنا تساؤل ”أين هو الأسفل ؟ !“ ، ففى عالم الخلاء لا يوجد اسفل أو اعلى ، هذا التناقض لم يستطع أبيقور أن يجد له حل أو تفسير ؛ هناك إشكالية أخرى لعملية سقوط الذرات فى الخلاء ، فالذرات تسقط فى خطوط مستقيمة لعدم وجود مؤثر فى الخلاء يؤدى إلى تغيير مسارها لتتجمع او تتلاقى ، فأضطر أبيقور إلى إدخال فكرة الإنحراف Clinamen ، فهو لكى يفسر إمكانية تلاقى الذرات بعضها مع بعض لأجل تكوين الأجسام ، أفترض ان للذرات قدرة ذاتية على الانحراف عن مسقطها الطبيعى ، و من خلال هذا الانحراف تصطدم كل الذرات بعضها ببعض و من إنتشار كل هذه الاصطدامات و الاحتكاكات تتوالد الدوامة التى تعطى القدرة للذرات على الترابط فى مركبات لتشكيل الأجسام ، يبرر أبيقور ذلك أنه اراد أعطاء مجالاً من الحرية فى الكون بدلا من ان يكون مدفوعا للحتمية من خلال افتراضه حرية الحركة المادية للذرات – أى اعطى للذرات إرادة حرة - لتشكل اساس حرية الإرادة لدى الإنسان و الكائنات الحية بالعموم ، كذلك إن حركة الذرات الدوامية فى الخلاء تشكل العوالم ، فأبيقور أفترض أن الكون يتشكل من مجموعة عوالم (أكوان) لا محدودة(40) ، و إننا لا ندركها من خلال حواسنا و لكن بواسطة العقل – البرهان القياسى - …

و من هنا يمكننا أختصار المذهب الأبيقورى انه حاول تحرير الإنسان من عالم الخوف من الآلهة و الموت ، فالإنسان ليس أمامه سوى ان يعيش سعيدا بقدر ما تطيق له حياته القصيرة على الأرض ، لذا فقد تخلص من عقاب الآلهة فى عالم ما بعد الموت و شرع فى التخلص من تدخل الآلهة فى الحياة الوجودية بحثا عن سعادته ...

أنتقد أستاذنا ”العَالِم“ أبيقور فى فكرة أنحراف الذرات و رأى إنها لم تكن سوى إقحاماً على بنائه الفيزيائى بدون أن يضع تفسيرا أو يحدد علته ؛ فمن الواضح أن أبيقور لم يكن مهتما بأن يعرف العلل الجزئية المحددة للظاهرة و أكتفى بأن الذى يحددها ككل هى العلل الآلية مع استبعاد العوامل التى تتجاوز الطبيعة ، و هذا ما أعتبره كاتبنا خرقاً للمبدأ الأول فى قوانين الطبيعة و هو ضرورة إيضاح العلة و المعلول بقوله ”أما بالنسبة لأبيقور فإنه يقدم ظاهرة غير معلولة لعلة ، غير قابلة للتفسير اللهم إلا تفسيرا غائيا أى بحسب نتائجها من حيث إنها مصادرة لتفسير ظاهرة الحرية الإنسانية ، ذلك لأن حرية الإرادة ليست إلا نتيجة لميل الذرات الرهيفة و انحرافها التى تكون المخ الإنسانى“(41) ، على العكس من ذلك ديمقريطس عندما أقر بمصادفة و تلقائية حركة الدوامة الناتجة عن تصادم و أحتكاك الذرات و بالتالى لم يقدم ظاهرة غير مفسرة أو ان هناك مثلا قوة دخيلة مؤثرة عليها ، و لكنها كإمتداد طبيعى لإقصائه الغائية عن قوانين مذهبه الفيزيائى ، فحركة الذرات ذاتية آلية تنبع من داخلها ، أما أبيقور أراد أن يجد فى الذرة وحدها مبدأ الحركة و حريتها لذا جاء تفسيره لإنحراف الذرات عن مسارها أنه ضرورى للحفاظ على حرية الإرادة لدى الإنسان المستمدة من حرية الحركة لدى الذرة و هذا الإنحراف لا يناقض ماديته فحسب بل أنه يضيف تفسيراً غائياً لحرية الإرادة لدى الإنسان بحسب نتائجها مما يضيف ظلا اسطوريا دينيا لهذا الإنحراف الغير مسبب …

يرصد كاتبنا ما كتبه المفكر و الشاعر لوكرتيس(42) ، و يعرض لنا الصورة التى رسمها للكون من خلال مذهب أبيقور ، أعتبر العالم إن الصورة التى قدمها هذا الشاعر هى الأقرب للفهم العلمى الحديث ، و إننا نكاد نعثر على الفهم الموضوعى للمصادفة بين ثناياها ، و أن الحرية ليست كالفعل العشوائى ”و إنما هى مواجهة واعية مدركة لإمكانيات الضرورة و المصادفة التى تكشف عنها أنواع الالتقاء و الترابط و التعدد و التنوع و التغيير التى يتحقق بها الوجودان الأصغر و الأكبر“(43) ...

فى المقال الثانى سنتعرض للمصادفة فى الفكر الحديث ، و العلاقة بينها و بين الرياضيات و الفيزياء


____________________________________
الهوامش

1- فليب فرانك – فلسفة العلم صـ 16
2 - صلاح قنصوة – فلسفة العلم صـ 4
3- دوروثى مارى إيميت ولدت فى 29 سبتمبر 1904 بحى كينسينجتون فى لندن ، مفكرة بريطانية تولت رئاسة قسم الفلسفة بجامعة مانشستر لأكثر من عشرين عاماً ، كما كانت عضواً مؤسساً فى Epiphany Philosophers ، توفيت فى20 سبتمبر2000 بحى كامبريدج
4- Dorothy Mary Emmet - The Nature of Metaphysical Thinking - Publisher Macmillan 1 Jan. 1946
5- D. M. Emmet - The Nature of Metaphysical Thinking - page 22
6- عندما نشير هنا إلى كلاسيكية أطروحات نيوتن ، هذا يعنى أننا لا نناقش الظواهر التى تحدث على مستوى الذرة أو ما دونها و لا نناقش الحالات التى تتحرك فيها الأجسام بسرعة عالية تقارب سرعة الضوء ، فذلك يتطلب الاستعانة بقوانين ميكانيكا الكم و النظرية النسبية الخاصة لآينشتين.
7- فلسفة المصادفة صـ 12
8- المصدر السابق صـ 12
9- ماكس بورن : عالم رياضيات و فيزيائى ألمانى، حاز على جائزة نوبل عام 1954 لبحوثه المتعلقة بميكانيك الكم ، ولد ماكس بورن في 11 ديسمبر 1882، فى فروتسواف بولندا ، درس فى جامعتى فروتسواف و جوتينجن و حاز على درجة الدكتوراه فى الرياضيات من جوتينجن عام 1906، و فى عام 1915 شارك فى كتابة نظرية ديناميكا مشابك الكريستال (Dynamical Theory of Crystal Lattices) مع الفيزيائى هوانج كون Kun Huang ، وضع هذا الكتاب الأساس لعلم المعادن و البلورات ، كما نال وسام Stokes Medal of Cambridge عام 1934 ، و هى جائزة تمنح للمساهمة الهامة فى مجال الكيمياء التحليلية ؛ كان هذا الوسام أولى الجوائز التى نالها ماكس ، و منذ تلك اللحظة أصبح اسماً بارزاً فى الجمعيات العلمية فى إنجلترا ، و منحته الجمعية الملكية فى إدنبرة عام 1945 وسام MacDougall–Brisbane Medal ، كما تم تكريم العالم الرائد بجائزة نوبل فى الفيزياء عام 1954 لعمله فى ميكانيكا الكم و لتفسيره الإحصائى للدالة الموجية wave ---function--- ، توفى ماكس بورن فى 5 يناير عام 1970، و دفن فى مدينة جوتينجن.
10- هانز ريشنباخ : فيلسوف و فيزيائى ألمانى ، و أحد المنادين بالتجريبية المنطقية – Logical Empiricism من اشهر كتبه "نشأة الفلسفة العلمية"
11- الفريد كورنو : فيزيائى و مفكر فرنسى ولد فى 6 مارس 1841 ، له اسهامات عديدة خاصة فى حساب شدة الضوء و صمم أول جهاز لحساب شدة الضوء الذى عرف بأسم حلزون أولر ، تولى رئاسة الرابطة الفرنسية للنهوض ، كما حصل على عضوية الأكاديمية الفرنسية للعلوم ، و الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم و العديد من الجمعيات و الأكاديميات فى بريطانيا و أمريكا و روسيا و إيطاليا ، توفى فى 12 إبريل 1902 بباريس.
12- فلسفة المصادفة صـ 31
13- المصدر السابق صـ 31
14- الغائية أو التفسير الغائى Teleological Explanationهو تفسير حدث أو واقعة من خلال الهدف الذى تستهدفه ، و بما إن تحقيق الهدف يأتى كأمر لاحق فضلا عن إنه قد لا يتحقق فى بعض الأحيان فإن تلك التفسيرات لا تبدوا إنها سببية و بهذا تصبح موضع شك.
15- فلسفة المصادفة صـ 33
16- المصدر السابق صـ 33
17- جان بياجيه : عالم نفس سويسرى الجنسية ولد فى أغسطس 1898 و توفى فى ستبمبر 1980 ، واضع نظرية التطور المعرفى التى تعتبر نظرية شاملة عن طبيعة الذكاء البشرى و تطوره ، أعتمدت نظرية بياجيه على إن مرحلة الطفولة تلعب دورا حيويا و فعالا فى تنمية الشخص ، فقد أوضح إن الأطفال يؤسسون فهما و إدراكا حول العالم المحيط بهم ، كما يؤسسون خبرات متباينة بين ما يعرفونه أصلا و ما يكتشفونه فى بيئتهم ، من هنا يتطور إدارك الطفل من خلال تطوره المعرفى ، مما دعاه لتشجيع أولياء الأمور لتوفير بيئة داعمة غنية لنمو وتعلم أطفالهم
18- أطلق بياجيه عليها مرحلة العمليات المادية Concerts Operational
19- أطلق بياجيه عليها مرحلة التفكير المجرد Formal Operational Stage
20- فلسفة المصادفة صـ 47
21- المصدر السابق صـ 48
22- أمبادقليس Empedocles فيلسوف يونانى من مدينة أكراجاس بجزية صقلية لا يعرف بالتحديد تاريخ ميلاده أو وفاته ، لكنه من السابقين لأرسطو عبر عن فلسفته فى قصائد شعرية ، تأثر بالفلسفة الأيونية خاصة بهرقليدس ، إلا أنه يؤخذ عليه القول بمبدأين لتفسير الحركة مع أنه لم تكن هناك ضرورة منطقية تحمله على هذه الثنائية
23- ديمقريطس Democritus شاعر و فيلسوف يونانى غير معلوم عنه الكثير سوى أنه ولد ببلدة اسمها أبدرا Abdera ، و ينتسب إلى المذهب الذرى الذى اسسه ليوسبس Leucippus ، عرف عنه شغفه الدائم للمعرفة و الرغبة فى التحصيل ، سافر إلى بلدان كثيرة للمعرفة منها مصر و بابل ، ويقال أنه توفى فى سن التسعين ، يعتبره الكثير من المهتمين بفلسفة العلم بأنه من أهم الفلاسفة الطبيعيين السابقين على أرسطو بطرحه المميز لنظرية الذرة
24- أرسطو Aristoteles يعتبر أعظم فيلسوف جامع لكل فروع المعرفة الإنسانية فى تاريخ الإنسانية يمتاز بدقة المنهج و استقامة البرهان ، و هو واضع علم المنطق لذا لقب بالمعلم الأول ، و لد فى مدينة اسطاغيرا و هى مستعمرة أيونية سنة 384 ق. م. ، و توفى سنة 322 ق. م. وهو فى سن الثانية و الستين
25- الكتاب نشر بالعربية بعنوان "الفيزياء - السماع الطبيعى" المترجم عن النسخة الاجليزية التى صدرت عن جامعتى كامبريدج و هارفرد الأمريكتين و أعتمدت فى مراجعتى تلك على النسختين العربية و الانجليزية المذكورين ، بينما النسخة التى اعتمد عليها الاستاذ محمود امين العالم هى طبعة جامعة أكسفورد البريطانية لسنة1930 لم أوفق فى الحصول على نسخة منها
26- فلسفة المصادفة صـ 53
27- علينا الا نخلط ما بين نظرية أبيقور للذرة و نظرية ديمقريطس فلكل منها خصائصها و إن كان يعتبر ابيقور إمتداد لديمقريطس و لكن بشخصية متميزة لها رؤيتها الخاصة ، و هذا ما أكده كارل ماركس من قبل فى بحثه للحصول على درجة الدكتوراة حول "الفلسفة المادية عند ديمقريطس و ابيقور" ، و ايضا سنراه عند أمين العالم فى سطور قادمة
28- الدوامة عند ديمقريطس تعبير عن الحركة حيث أنها لا تنفصل عن المادة التى هى متحركة بذاتها ، فحركة الذرات لا بداية لها ، فالعالم عنده قديم أزلى لا بداية له
29- فلسفة المصادفة صـ 53
30- الفيزياء الترجمة العربية فقرة أ196 (24) ، صـ 55
31- فلسفة المصادفة صـ 60
32- راجع ما طرحه ارسطو فى كتاب الفيزياء – الفصول من الخامس إلى التاسع من المقالة الثانية (الترجمة العربية)
33- المصدر السابق صـ 63
34- المصدر السابق صـ 65
35- المصدر السابق صـ 65
36- المصدر السابق صـ 73
37- ابيقور Epicure فيلسوف يونانى ولد بمدينة ساموس عام 342 ق. م. ، من المعروف أنه ثقف نفسه ذاتيا ، درس الكثير من المذاهب الفلسفية السابقة عليه ، ثم أنتقل إلى أثينا و أسس مدرسته التى عرفت بأسم حديقة أبيقور ، سمى اتباعه بالأبيقوريين كان اشهرهم الشاعر لوكورتيس ، ظل يُدرس فى مدرسته طيلة ستة و ثلاثين عاما و أخيرا توفى عام 270 ق. م.
38- أبيقور (الرسائل و الحكم) ، من رسالة ابيقور إلى مينيسى فقرة 123 صـ 204
39- أبيقور (الرسائل و الحكم) ، من رسالة ابيقور إلى مينيسى فقرة 134 صـ 207 ، أقتبس كاتبنا محمود العالم نفس الفقرة و لكن بمفردات مختلفة عن ترجمة بالفرنسية
40- راجع نظرية الأكوان المتعددة و أطروحات الفيزيائى الأمريكى هيو أفيرتHugh Evertt أول من اقترح تفسير العوالم المتعددة فى ميكانيكا الكم
41- فلسلفة المصادفة صـ 76
42- لوكريتس Titus Lucretius Carus شاعر و مفكر من اتباع أبيقور ولد سنة 99 ق. م. ، و توفى سنة 55 ق. م. ، لا توجد لدينا معلومات كافية عنه لكن بعض المؤرخين يستنتجون من شعره إنه كان رومانيا ، أنحصر إنتاجه الفكرى فى قصيدة طويلة تتكون من 7400 بيت مقسمة فى ستة كتب بعنوان "فى طبيعة الأشياء" ، يعرض فيها مذهب أبيقور ، و الهدف الرئيسى منها تحرير الناس من الخرافات ، و تعويدهم على قبول إن فكرة الموت فناء تام للإنسان ، و تخليصهم من فكرة تدخل الآلهة فى شئون الناس ، و هو مثل أبيقور لم ينكر الآلهة.



المصـادر

• برتراند راسل ”النظرة العلمية“ – ترجمة عثمان نويه – دار مدى للثقافة – الطبعة الأولى 2008
• أليكس روزنبرج ”فلسفة العلم (مقدمة معاصرة)“ – ترجمة أحمد عبد الله السماحى ، فتح الله الشيخ – المركز القومى للترجمة وزارة الثقافة المصرية – الطبعة الأولى 2011
• د. فؤاد زكريا ”التفكير العلمى“ – المجلس الوطنى للثقافة و الفنون و الآداب (الكويت) – سلسلة عالم المعرفة – عدد مارس 1978
• توماس كون ”بُنيَة الثورات العلمية“ – ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل – المنظمة العربية للترجمة – الطبعة الأولى 2007
• د. صلاح قنصوة ”فلسفة العلم“ – دار الثقافة للطباعة و النشر - الطبعة الأولى 1981
• فليب فرانك ”فلسفة العلم (الصلة بين العلم و الفلسفة)“ – ترجمة د. على على ناصف – المؤسسة العربية للدراسات و النشر – الطبعة الأولى 1983
• هانز ريشنباخ ”نشأة الفلسفة العلمية“ – ترجمة د. فؤاد زكريا – مؤسسة هنداوى للتعليم و الثقافة (نسخة اليكترونية) 2020
• يورجن هايرماس ، جوزيف راتسنجر ”جدلية العلمنة (العقل و الدين)“ – ترجمة حميد لشهب – جداول للنشر و الترجمة و التوزيع – الطبعة الأولى 2013
• د. عبد الرحمن بدوى ”موسوعة الفلسفة“ الجزء الأول – المؤسسة العربية للدراسات و النشر – الطبعة الأولى 1984
• أرسطو ”الفيزياء (السماع الطبيعى)“ – ترجمة عبد القادر قينينى – أفريقيا للنشر – الطبعة الأولى 1998
• أبيقور ” الرسائل و الحكم“ – ترجمة جلال الدين سعيد – الدار العربية للكتاب – غير مذكور السنة أو رقم الطبعة
• كامل محمد محمد عويضة ”أبيقور مؤسس المدرسة الأبيقورية“ – دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى 1994
• Dorothy Mary Emmet “The Nature of Metaphysical Thinking” - Publisher Macmillan 1 Jan. 1946
• Aristotle’s “Physics” – Translation By Philip H. Wicksteed – Harvard University Press & Cambridge, Massachusetts 1935