فُتوّة العقل


حسن مدن
2020 / 11 / 14 - 11:44     

حكى الراحل محمود العالم انطباعاته عن لقاءات جمعته وطه حسين، وسأكتفي هنا بالإشارة إلى لقاءين، الأول حين كان العَالِمُ لما يزل شاباً يافعاً شغوفاً بالتعلم، وكان اسم عميد الأدب العربي قد ذاع يومها، ما جعله منارة ملهمة للأدباء الشباب. أما اللقاء الآخر فقد جرى بعد أن بلغ العمر من طه حسين مبلغه، حيث زاره العالم في بيته للاطمئنان عليه.
اعتاد ثلاثة من الشباب الموهوبين الذين غدوا بعد حين من أهم رموز الثقافة في مصر كل في مجاله: مصطفى سويف عالم النفس الشهير الذي طعمه باهتمامه العميق بعلم الجمال، يوسف الشاروني أحد أعمدة القصة القصيرة في مصر والعالم العربي، ومحمود العالم نفسه الذي سيغدو بعد حين من أهم النقاد والمفكرين المصريين والعرب، على زيارة طه حسين في بيته بانتظام ليستزيدوا من علمه.
عن تلك اللقاءات كتب العًالِم يقول: «ذهبنا إلى المعلم الأديب نتحدث عن ملكوت الأدب والفن والجمال، فإذا به يأخذنا إلى ملكوت الفعل العقلاني الذي يغير ويجدد. وأدركنا حينها أن طه حسين ليس بالمفكر المحلق في آفاق النظريات وإنما هو المفكر العملي المشغول بهموم الواقع الحي لأمته».
أما اللقاء الأخير فقد أتى بعد أن طويت السنوات والسنوات. «كانت لحظة تقترب بنا من النهاية» على وصف العَالِم.
كان العمر قد تقدم بطه حسين، حتى أن العَالِم لم يكد يرى له جسداً اللهم إلا بقية شيء لم يعد يملكه، وإنما يحمله له غيره، لكن أما وأن الجسد قد ذوى، لكن ذلك العقل المتقد ظل متقداً: «كدت لا أرى أمامي غير رأس كبير وعقل متوهج بالحكمة».
في تلك الزيارة تحدث طه حسين لزائره عن قضية الشرق والغرب، وقضية التراث والعصر. لم يكن هناك التباس في فكره. كان يرى بوضوح غامر شفاف أننا نعيش حضارة واحدة وإن اختلفت في داخلها وتنوعت الخصوصيات القومية والثقافية، على أن لا حاضر لنا بدون أن نحسن إدراك عصرنا وأن نكون شركاء فاعلين في هذا العصر.
تلك كانت المرة الأخيرة التي التقى فيها العَالِم من يعده معلماً له.
بعدها أتت لحظة مهيبة. هي تلك التي خرج فيها جثمان طه حسين من جامعة القاهرة نحو مثواه الأخير. الجامعة التي رعى استنارتها العقلانية وحمى ديمقراطيتها وتقاليدها بقدر المستطاع. جثمانه لم يكن يتحرك بين أصحاب الياقات البيضاء من كبار رجال الدولة وأصحاب الحلل من المثقفين، وإنما بين جلابيب البسطاء من أبناء شعب مصر الذين ربما لم يقرأوا له شيئاً، ولكنهم بالفطرة يشعرون بأنه واحد منهم، كرس حياته كلها من أجل أن تكون حياتهم وبلدهم أفضل وأجمل.