سقوط ترامب.. الناخب الأسود حسم المعركة الانتخابية


يعقوب بن افرات
2020 / 11 / 13 - 18:59     

في أول خطاب له بعد الفوز بانتخابات الرئاسة الأمريكية، أقرّ المرشح الديمقراطي جو بايدن بدور الناخبين السود المحوري في انتصاره الانتخابي. وجاء في خطاب النصر الذي ألقاه يوم السبت في السابع من الشهر الجاري، "الناخبون السود الذين نهضوا مرة أخرى من أجلي. كنتم تساندونني دوماً، وسأساندكم". كان لهذه الكلمات صدى عميق باعتباره اعترافاً بحقيقة لا غبار عليها، ويجمع عليها المحللون، مفادها بأنه لولا دعم المواطنين السود لما أصبح بايدن رئيساً ولو لا أصواتهم لما كان بإمكانه التغلب على دونالد ترامب.
بدوره، الرئيس المهزوم يرفض حتى هذه اللحظة الاعتراف بنتائج الانتخابات بذريعة "التزييف واسع الانتشار" بحسب قوله تعليقاً على نتائج الانتخابات في الولايات "المتأرجحة" مثل بنسيلفانيا وميشيغان ووسكنسن، التي منحت لبايدن الأصوات الكافية لحسم المعركة الانتخابية لصالحه. ويذكر أن الولايات الثلاث هي نفس الولايات التي كانت سبباً لانتصار ترامب قبل أربع سنوات على منافسته الديمقراطية آنذاك السيدة هيلاري كلينتون.
في الواقع بدأت مسيرة بايدن الانتخابية قبل ثمان شهور، عندما فاز بالانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي في ولاية كارولينا الجنوبية مما منحه الدفعة الأولى التي انتهت اليوم بانتصاره التاريخي على ترامب. في تلك الولاية ارتسمت ملامح تحالف وثيق بينه وبين الناخبين السود وكان هذا التحالف شرطاً جوهرياً لا بد منه لفوز الديمقراطيين بالانتخابات الرئاسية.
كليبورن.. وكفة كارولينا الجنوبية
الدعم الذي حصل عليه بايدن في كارولينا الجنوبية من النائب الأسود جيمس كليبورن كان، حينها، بمثابة الاوكسجين لحملته الموشكة على الفشل أمام منافسه اليساري المعروف، عضو مجلس الشيوخ برني ساندرز، الذي تقدم على بايدن حتى تمت الانتخابات التمهيدية في كارولينا الجنوبية. فدعم كليبورن (80 سنة) لترشيح بايدن كان حاسما هناك. ويمثل كليبورن الجيل القديم للحركة السوداء الذي ناضل في سنوات الستينيات مع الخوري المشهور مارتن لوثر كينغ من أجل الحقوق المدنية في حركة جماهيرية عظيمة نجحت آنذاك بانتزاع مرسوم حقوق السود بالتصويت أعلنه الرئيس ليندن جونسون سنة 1965. فوز بايدن في الانتخابات التمهيدية في كارولينا الجنوبية كان من دون شك إشارة واضحة لأعضاء الحزب الديمقراطي بأن السود اختاروا بايدن وأدى ذلك إلى حسم المعركة لصالحه وجعله مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة من دون منافس.
ولم تبق حركة السود حبيسة داخل جدران الانتخابات الحزبية، بل انتقلت منذ شهر أيار/مايو الماضي إلى الشوارع والميادين في أكبر موجة احتجاجية عرفتها أمريكا منذ عقود على خلفية اغتيال عدد من المواطنين السود على يد الشرطة، وجاء مقتل المواطن الأسود جورج فلويد خنقاً تحت ركبة شرطي أمام أبصار العالم كله ليعطي الشرارة التي أدت إلى إشعال النار في شوارع أمريكا، وظهور حركة "حياة السود لها قيمة" التي تحولت إلى المحرك الرئيسي للحملة المناهضة لإعادة انتخاب ترامب الذي تهجم وبشدة على مناصري الحركة من ممثلين وفنانين وحتى رياضيين ممن توحدوا وراء هذه الحركة وتبنوا شعار بسيط جداً "صوّت"، مدركين بأن لا قيمة للنشاط الجماهيري إذا لم يترجم لمكسب سياسي وعلى رأسه الإطاحة بترامب من منصب الرئيس.
وقد تبنى بايدن في حملته الانتخابية بشكل لا يقبل التأويل شعار "حياة السود لها قيمة" واعترف بالتمييز السافر الذي يعاني منه المواطنون السود وتحديداً داخل الجهاز القضائي، واعداً بتصحيح هذه السياسة العنصرية. وكان للحركة الجماهيرية دوراً أساسياً في التجنيد والحشد لقاعدة من الناخبين للديمقراطي وخلق الزخم الضروري لقلب الساحة السياسية في يوم الانتخابات لصالح بايدن.
أبرامز.. بطلة جورجيا
أما شعار "صوّت" (Vote) لم يكن من باب الصدفة وإنما بمثابة نداء لكل المواطنين السود المهمشين للمشاركة في التصويت الذي من دونه لا يمكن إحداث تغيير سياسي. وإذا كان للنائب جيمس كليبورن الفضل في إنجاح بايدن في الانتخابات التمهيدية، فبطلة الانتخابات الرئاسية هي من دون شك هي القائدة السوداء من ولاية جورجيا السيدة ستايسي أبرامز، التي أسست جمعية "مشروع جورجيا الجديد" بهدف رفع نسبة التصويت لدى السود. وقد تمكنت الجمعية في ولاية جورجيا لوحدها من تسجيل 800 ألف مواطن أسود في لوائح الاقتراع وبالتالي إضافة عدد كبير جداً من المصوتين لبايدن. وإذا كان كليبورن يمثل جيل المناضلين القدامى فيمكننا أن نعتبر السيدة أبرامز (46 سنة) ممثلة الجيل الشاب الذي انضم إلى صفوف الحزب الديمقراطي وتشكل مع أعضاء كونغرس مثل الكساندرا أوكاسيو كورتيز ورشيدة طليب وإلهان عمر، جزء من الكتلة التقدمية في الكونغرس. وكان للسيدة أبرامز دوراً محورياً بقلب الصورة في ولاية جورجيا وسحبها لصالح بايدن بعدما كانت تحت قبضة الحزب الجمهوري على مدار ثلاثين عاماً. في نهاية الأمر كان الصوت الأسود عاملاً حاسماً في انتصار بايدن على ترامب في ولاية جورجيا، وكما أسلفنا في البلاد برمتها.
ويحتسب لبايدن خطوة جريئة بل استثنائية عندما اختار "كاملا هاريس" مرشحة لمنصب نائب الرئيس. السيدة هاريس ابنة لوالدين مهاجرين فوالدها من أصل جمايكي ووالدتها من أصل هندي. وكانت هذه الخطوة بمثابة الاعتراف بدور المرأة السوداء، التي تقف في طليعة الحركة السياسية الداعمة للحزب الديمقراطي، والتي من دون تأييدها لا يمكن لأي مرشح ديمقراطي أن ينجح أمام المنافس الجمهوري.
وللمفارقات العجيبة، تجدر الإشارة إلى أنه في أمريكا 2020 التي تفتخر بديمقراطيتها حق التصويت ليس أمراً مفروغاً منه. ففي كثير من الولايات، وتحديداً الولايات الجنوبية المشهورة بقوانينها العنصرية، تقوم السلطات في سن قوانين وتعليمات لتقييد عدد المصوتين في الأقلية السوداء بهدف منعهم عن حسم الانتخابات لصالح الديمقراطيين. وقد نظم ناشطو الحزب الديمقراطي في ولايتي جورجيا وأريزونا وبقية المدن ذات الكثافة السكانية من السود واللاتين (هيسبانيك – من أصل أمريكي جنوبي) بحملة تسجيل لتشجيع السكان الفقراء والمهمشين لممارسة حقهم في الاقتراع من أجل تغيير حياتهم بل والإطاحة بعدوهم العنصري دونالد ترامب.
ما الجديد الذي وعد به بايدين؟
ومن هنا وعلى إثر ظهور هذه الحركة الجماهيرية الهامة نرى أنه من الخطأ الحكم على عهد بايدن القادم بأنه سيكون استمرارية لعهد أوباما الذي انتهى بخيبة أمل سمحت لترامب أن يركب الموجة ويفوز في الرئاسة. وقد دفع الشعب الأمريكي وشعوب العالم ثمناً غالٍ لانتخاب ترامب، وقد أصبحت تجربة أوباما عبرة سلبية لا بد من استدراكها إذا أراد الحزب الديمقراطي أن يمنع صعود ترامب أو من يشبهه في عام 2024. وفي حال خيب بايدن آمال المواطنين السود والحركة الواسعة التي منحته النجاح وهي تشمل مثلما ذكر بايدن نفسه في خطاب النصر، السود والنساء والشباب البيض والسكان الأصليين واللاتينيين والمثليين، فمصيره سيكون مثل مصير هيلاري كلينتون. لا بل يتوجب على بايدن أن يأخذ بعين الاعتبار الجناح اليساري في الحزب الذي اذ امتنع عن دعم كلينتون سنة 2016 وكان أحد أسباب فشلها، لذلك نرى هذا الجناح تجنّد في الانتخابات الأخيرة، قلباً وقالباً، لإنجاح بايدن وساهم مساهمة مهمة جداً في الانتصار على ترامب.
نلاحظ أن برنامج بايدن الانتخابي كان متقدماً مقارنة ببرنامج الحزب الديمقراطي في الانتخابات السابقة، إذ شمل الالتزام بموقف العلماء في المعركة ضد وباء كورونا، بعد أن أودى الوباء بحياة 230 ألف مواطن أمريكي وتجاوز عدد المصابين بالفيروس الـ 10 ملايين. كما التزم بايدن بزيادة الضرائب على الأغنياء وكل من يربح أكثر من 400 ألف دولار سنوياً، وينوي توسيع التأمين الصحي والاستثمار في البنية التحتية وتقليص تكرير النفط وتشجيع الطاقة المتجددة للوصول إلى صفر انبعاثات كربونية في عام 2050. إن برنامج بايدن يشكل تغييراً جذرياً عن سياسة ترامب لاعتماده على إصلاح الجهاز القضائي العنصري ورعاية مصالح المواطنين السود وتغيير سياسة الهجرة ومنح الجنسية لملايين المهاجرين غير الشرعيين وانتهاج سياسة اقتصادية أكثر عدالة لصالح العمال على حساب رأس المال الكبير، وإعطاء موضوع الاحتباس الحراري أولوية. ويدل هذا البرنامج على النفوذ الكبير للجناح اليساري في الحزب بدعوته إلى تبني "النيو ديل الأخضر" (سياسة لإنعاش الاقتصاد أكثر عدالة) الذي يعارض النهج النيو ليبرالي المسيطر حالياً على الحياة السياسية في أمريكا وعلى الاقتصاد منذ أيام رونالد ريغان قبل 40 عام.
هذا التطور الكبير يحمل في طياته بارقة أمل للحركة الديمقراطية في العالم وتحديداً في العالم العربي التي يرفع نفس الشعارات المنادية بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فإذا كان ترامب من مناصري الطغاة والديكتاتوريين في العالم، من بوتين إلى محمد بن سلمان وعبد الفتاح السيسي وصولاً إلى بيبي نتنياهو، فإن نجاح الحركة الديمقراطية في أمريكا والإطاحة بترامب تدل على أن لا مستقبل لهؤلاء.
ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية ليس شأناً داخلياً أمريكياً فحسب، بل له انعكاسات بعيدة المدى على الإنسانية ككل. إن نتائج الانتخابات في أمريكا وتحديداً دور السود والنساء فيها تشكل رسالة واضحة ضد كل أنواع القهر والانغلاق القومي والتمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس، وهي بالأساس رسالة أممية. إن إنقاذ المناخ مهمة عالمية ولا يمكن أن تنجح من دون مشاركة الإنسانية جمعاء. ولا يمكن إنقاذ المعمورة إذا لم يتم إنقاذ الإنسان واحترام أبسط حقوقه في الحياة الكريمة والحرية.