الإرث النظري لإرنست ماندل


دانيال بنسعيد
2020 / 11 / 13 - 11:06     

لربما كان إرنست ماندل واحدا من آخر رموز التقليد الثقافي الكبير للحركة العمالية المعاصرة التي نشأت في بداية هذا القرن عند نقطة الالتقاء بين تراث عصر الأنوار والحركة الاشتراكية، وقد احتل إرنست مكانة مرموقة في تاريخ الماركسيات المعاصرة، وذلك بفضل سعة وأممية آفاقه، والتزاماته النضالية، كما بفضل إنتاجه النظري الغزير وروحه الخلاقة والمبدعة.
ولقد تغذى إرنست منذ سنوات تكوينه ـ وبفضل معرفته باللغة الألمانية قراءة وكتابة ـ بالمجادلات والمنازعات الأساسية في بداية هذا القرن، حيث كانت مكتبته العائلية مثلا تضم المجلدات الكاملة للمجلة ذائعة الصيت Neue Zeit.
أما العمل النظري لإرنست فلا يمكن أن يختزل في مجرد معارضته للستالينية التي لم تلن يوما، فهو يمثل همزة وصل وذاكرة للتعبيرات المتعددة والكوسموبوليتية لحركة اجتماعية حية وخلاقة.

خيوط موجهة

إن شروط التكوين الثقافي هذه تسمح بالإدراك أفضل للمكانة المرموقة لماندل في تاريخ الماركسيات المعاصرة، وبينما كانت الماركسولوجيا الفرنسية السائدة في الستينات تجهل جهلا مطبقا إسهامات حاسمة من بينها "كرندريسة" ماركس (Grundrisse) أو كتابات روبين (Roubine) وروسدولوفسكي (Rosdolovski) وبارفوس (Barvus) وكورش (Korsch) وكوندراتييف (Kondratief)، كان إرنست ماندل ينهل من كل هذه الآفاق بفضل إتقانه للغات والأفق الأممي لنظرته النضالية، وهو الأمر الذي يدل عليه بشكل بَيِّن كتابه في 1968 عن "تشكل فكر ماركس الاقتصادي" والذي جاء معاكسا تماما لتيار الأكاديموية البنيوية التي كانت وقتها موضة طاغية على الساحة.
ومع أن الإنتاج النظري لإرنست كان غزيرا ومتنوعا، فقد كان متمحورا حول موضوعات موجهة بعينها ومنها موضوعان أساسيان ظلا يؤرقان فكره وينعكسان في كل مقالاته منذ الحرب العالمية الثانية، أولهما: لماذا لم تؤد الحرب ـ خلافا للتوقعات المتفائلة للمعارضة اليسارية، ورغم تقدم الثورتين الصينية واليوغسلافية ـ إلى انبعاث حركة ثورية جماهيرية، وعززت بدل ذلك سيطرة البيروقراطيات الإصلاحية والستالينية على التنظيمات العمالية؟ وثانيهما: كيف تفسر الديناميكية المستجدة الملاحظة في "الرأسمالية الجديدة"؟
أما أجوبة ماندل على هذه المسائل فلم تكن أبدا تبسيطية أو قائمة على تعليل وحيد الجانب، وهو الذي يعرف جيدا أن العوامل السياسية (حروب، ثورات، بيروقراطية...) تلعب دورا حاسما ولكنها لا تعفي من إجراء دراسة صارمة بخصوص الميولات الاقتصادية التي قد يكون لها شأن كبير.
هكذا يمكن أن نعتبر أن جزءا أساسيا من عمل إرنست طوال نصف قرن تقريبا، بدءا ب"النظرية الاقتصادية الماركسية" (1962) ومرورا ب"الطور الثالث للرأسمالية" (1975) والكتابات حول "الأزمة" (1977)، و"الأمواج الطويلة للتطور الرأسمالي" (1980، غير منشور باللغة الفرنسية) كان مكرسا بالكامل لتحليل آليات وتناقضات الرأسمالية المعاصرة، أما الشق الثاني المكمل لهذا العمل فيتعلق بمسألة البيروقراطية وألغازها، وقد أعطى كتاب "حول البيروقراطية" و "الاتحاد السوفياتي على عهد غورباتشيف، إلى أين؟" (1989) و "السلطة المال" (1991).

مسائل مؤرقة

في وقت كان فيه الفكر الاقتصادي الجامعي المنتشي ببعض سنوات من النمو يعتقد في توسع أبدي، تشبث ماندل بفرضية الدورات الاقتصادية والأمواج الطويلة رغم أن عددا من المسائل لم تجد حلا لها في إطار تلك النظرية.
وإذا كان قانون الميل نحو انخفاض معدل الربح، الخاضع لإيقاع التحولات التكنولوجية (تجديد الرأسمال الثابت) وللتغييرات الداخلية على تنظيم العمل، يسمح بتحليل الدورية التقريبية للأمواج وعودتها للانخفاض، فإنه ليس ثمة أي "قانون" اقتصادي يستطيع تفسير تغيراتها المفاجئة وعودتها للصعود نحو توسيع جديد، إذ يلزم ـ حسب ماندل ـ إدخال عوامل سياسية "برانية" عن الدائرة الاقتصادية، وفوق ذلك، غير قابلة للضبط.
ولكن إذا كانت شروط مثل هذا التغير على هذا القدر كله من التقلب، فكيف نفهم الانتظام النسبي للإيقاعات الاقتصادية المتوالية على مدى قرنين مثلا (وهي فترة محدودة بالتأكيد) كما وضح ذلك كتاب Dockes و Rosier ؟.
هذه الأسئلة الملحة، سيبحث إرنست عن أجوبة لها في السنوات الأخيرة من حياته، في التمفصل بين الإيقاعات الاقتصادية والإيقاعات النوعية للصراعات والحركات الاجتماعية. وللأسف، لن يتحصل لنا من كل ذلك البحث الذي لم يكتب له الاكتمال سوى شذرات متفرقة على الأرجح.
وإذا كانت دار نشر (La Breche) تعد لإصدار الطبعة الفرنسية لكتاب Power and money (السلطة والمال)، فإن جزءا هاما من أعمال إرنست الذي كان يكتب بالإنجليزية والألمانية والفرنسية على السواء، ما يزال للأسف في غير متناول القارئ الفرنسي.
The long waves of capitalist developpemnt (الموجات الطويلة للتطور الرأسمالي)، وكتاب: El Capital : Cieu Anos de Controversias en Torno a la Obra de Marx. (الرأسمال: مائة عام من الجدال حول عمل ماركس) الذي يستعيد فيه المقدمات الثلاثة التي كان وضعها للأجزاء الثلاثة من كتاب الرأسمال لحساب الطبعة الإنجليزية الصادرة في 1981 (دار Vintage books). وكتاب: The meaning of the Second world war (دلالة الحرب العالمية الثانية)، ثم كتاب: (الماركسية الثورية اليوم).....
وقد ترك إرنست، بالإضافة إلى الكتب، عددا ضخما من المقالات المنشورة في جرائد أو مجلات عن موضوعات كالتخطيط والتسيير الذاتي، وبناء أوربا الموحدة، والأحداث الثورية للقرن، والتشكيلات الاجتماعية الأمريكية ـ اللاتينية، والثورة الثقافية الصينية، كما ترك إنتاجا بيداغوجيا رفيعا ك"المدخل للنظرية الاقتصادية الماركسية" و"المدخل للاشتراكية العلمية" و "مكانة الماركسية في التاريخ"...
ويبقى أن نسجل في نهاية هذه المقالة التركيبية المفارقة التالية: فبينما تنتشر أعمال ماندل ويتنامى إشعاعها وغيرها في ألمانيا كما في أمريكا اللاتينية والبلدان الأنجلوساكسونية، يلاحظ أن تلك الأعمال لم تقدر حق قدرها في فرنسا وبلجيكا على وجه الخصوص. وقد يرجع ذلك لأسباب منها أولا، أن الجدالات في الماركسية وحول الماركسية (الماركسولوجيا) في فرنسا، كانت مطبوعة مثلها في ذلك مثل الحياة الثقافية برمتها، بتضخم فلسفي إيديولوجي، وباستصغار الصرامة المميزة للبحث الإقتصادي، وقد سبق لبيري أندرسون Perry Anderson أن أكد على هذه الميزة في كتيبه الهام عن "الماركسية الغربية" كما يلي: "خلافا لأغلبية المنظرين من جيله لم يكتب تروتسكي نفسه شيئا ذا بال في مجال الاقتصاد. أما روسدولسكي Rosdolsky الذي لم يكن اقتصاديا من حيث تكوينه، فقد باشر عمله بدافع إحساس بالواجب تجاه الأجيال المقبلة. ولم يخب أمله، إذ سينشر إرنست ماندل، أربعين سنة بعد ذلك، دراسة مطولة في ألمانيا عن الحقبة الثالثة للرأسمالية (مهداة لروسدولسكي)، مثلت أول تحليل نظري للتطور الإجمالي لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ الحرب العالمية الثانية. وإذن فإن التقليد المنحدر من تروتسكي كان يتناقض من حيث الجوهر مع تقليد الماركسية الغربية، إذ كان متمحورا حول السياسة والاقتصاد لا على الفلسفة (...) واليوم، يمثل هذا الإرث السياسي ـ النظري واحدا من العناصر الحيوية لكل انبعاث للماركسية الثورية على "الصعيد العالمي" Considerations of western Marxism الطبعة الفرنسية. فرانسوا ماسبيرو 1977. ص 138).
أما السبب الثاني لهذا الجهل بإرنست ماندل في فرنسا، فقد يرجع إلى المفاعيل المتظافرة لوزن الحزب الشيوعي وأورثوذوكسيته من جهة، وللحمائية المفاهيمية التي فرضت عليه من طرف اللوبيات الجامعية التي كانت "ماركسية ماندل" مصدر إحراج وإزعاج كبيرين لها بسبب توحيدها وجمعها دائما وبشكل لا انفصام فيه بين العلم والنضال.
إن ميزة ماندل، أنه أعطى نموذجا للكيفية التي يمكن أن يتلازم فيها البحث النظري مع الالتزام العملي تلازما صميميا وعميقا، وهو بذلك، إنما يجسد استمرارية تقليد عظيم يمتد من ماركس إلى لينين وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي.... وذلك في وقت أصبحت فيه المسافة بين الاثنين، بين البحث النظري والالتزام العملي تتجه أكثر فأكثر لتصبح هوة سحيقة غير قابلة للعبور...

دانييل بنسعيد Daniel Bensaid.
25 آذار/مارس 1946 -12 كانون الثاني / يناير 2010

عضو قيادة العصبة الشيوعية الثورية (حُلت عام ٢٠٠٩)، الفرع الفرنسي للأممية الرابعة.
أحد مؤسسي الحزب المناهض للرأسمالية (٢٠٠٩) - فرنسا