ديستوفسكي في مرآة فرويد


حسن مدن
2020 / 11 / 12 - 12:54     

كان على فرويد لكي يكون فرويد الذي يعرفه العالم اليوم كمحلل نفسي أن يقرأ روايات فيودر ديستوفسكي، لا لكي يستمتع فقط بقراءة أدب عظيم ،كما يفعل قراء ديستوفسكي في العالم وبمختلف اللغات، وإنما لكي يتعلم منها علم النفس الذي يشتغل عليه.
ديستوفسكي روائي وليس عالم نفس، لكنه سبق فرويد في كثير من أفكاره التي بلغ بها علم النفس مرتبة غير مسبوقة. لا يتصل الأمر بالنبوءات هنا. لم يكن ديستوفسكي في «الأخوة كرامازوف» و«المقامر» وسواهما من رواياته المهمة، يتنبأ بأمر قادم، كما فعل جورج أورويل مثلاً في روايته «1984»، وكما يفعل كتاب الخيال العلمي، الذين تقرأ مخيلتهم المستقبل.
ما فعله ديستوفسكي هو الغوص في أعماق النفس الإنسانية، وقراءة ما يعتمل داخلها من تناقضات وصراعات وهواجس وأحلام وأوهام، وصنع من ذلك أدباً، نقرأه أو نشاهده على الشاشة وقد أصبح أفلاماً، فتصيبنا الدهشة، لكن دون أن ننتبه إلى أن ما نقرأ أو نشاهد، هو ضرب من «علم النفس»، قبل أن يأتي فرويد وسواه من عمالقة هذا العلم، ليقولوا لنا ذلك.
بعض من كتبوا عن أدب ديستوفسكي من النقاد رأوا أن نوبات الصرع التي كان الكاتب يعانيها لها من الأثر الشيء الكثير في إثراء معالجاته الروائية لدواخل النفس الإنسانية، فتلك النوبات تجعله يرى ما لا نراه، وهو أمر أقرّ به هو نفسه، حين قال إن نوبات الصرع تلقيه في ملذات رهيبة، معانياً الموت حياً، متصلاً بعالم آخر غير العالم الذي نعيشه.
تاريخ الأدب الإنساني عرف كتاباً وفنانين آخرين عانوا اضطرابات نفسية، تركت أثرها في إبداعهم. حسبنا هنا الإشارة إلى الكاتبة فرجينيا وولف مثلاً التي أنهت حياتها بالانتحار في لحظة يأس، حين قذفت بنفسها في النهر بعد أن عبأت جيوب ثوبها بالحجارة، كي تدفع بها إلى القاع، وفي الفن يمكن أن نشير إلى فان جوخ مثلاً، الذي اختار أن ينهي حياته بطلقة مسدس.
لا حياة هؤلاء ونظرائهم هي وحدها الجديرة بمعاينتها من باب علم النفس، وإنما أيضاً إبداعاتهم سواء أكانت كتباً أم لوحات.
هذا ما فطن إليه فرويد، الذي لم يكتف بدراسة محطات حياة ديستوفسكي، وإنما درس رواياته، متوقفاً بشكل خاص عند شخصية المحقق في «الأخوة كرامازوف» التي جعل منها مرجعاً لدراساته، مثلها مثل روايات أخرى للكاتب بينها «المقامر» و«الجريمة والعقاب»، لأنه رأى في شخصياتها نماذج حية للتشخيص الإكلينكي، تفصح عن معاناتها بحرية وصدق.