النمط الياباني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)


عبدالله تركماني
2020 / 11 / 8 - 21:58     

(ج)- فوكوزاوا يوكيتشي Fukuzawa Yukichi (1835-1901)، تأثر بالنهضة التي عرفتها الولايات المتحدة الأميركية وبلدان أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر، وأدرك اختلال التوازن بين الغرب واليابان، فالتزم بالعقلانية وتوخّاها للبحث عن أسباب تقدم الغرب. وقد زار الولايات المتحدة الأميركية والعديد من البلدان الأوروبية، وسجّل كل مشاهداته وانطباعاته ومعارفه التي استقاها من الكتب الغربية في كتاب صدر سنة 1866 تحت عنوان " الأحوال في الغرب "، أكد فيه على مظاهر النهضة الحديثة، وعرّف بالمؤسسات الغربية . وكانت غايته من نشر الكتاب التعريف بالنهضة الغربية الحديثة، لتكون قدوة لليابانيين تعجّل في يقظتهم ليلتحقوا بركب الحضارة.
لقد اشتهر فوكوزاوا بفضل هذا الكتاب، مما وفّر له أسباب نجاح مؤلفاته اللاحقة، التي صدرت قبيل ثورة 1868 وبعدها، ومن أبرز هذه المؤلفات: " موجز نظرية الحضارة " و" إحياء المشاعر القومية " و" التشجيع على المعرفة " وغيرها من البحوث والدراسات المتنوعة.
لم تكن دعوة فوكوزاوا للتفتّح على الغرب دعوة للخضوع له، بل لكسب أسباب قوته بهدف مواجهة تحدياته والحفاظ على استقلال اليابان. ومن أجل ذلك ساهم بنجاعة في الحركة الليبرالية التي عرفتها اليابان في سبعينيات وثمانينات القرن التاسع عشر، وذلك في إطار النضال السياسي الذي خاضه في عهد المايجي، من أجل تركيز الدولة القومية والحكم الديمقراطي.
لقد راهن فوكوزاوا على التربية، باعتبارها أساس الثورة والقوة والتوعية والديمقراطية والحضارة بصفة عامة، لتغيير اليابان تغييراً جذرياً وشاملاً. وبذلك كله، كان فوكوزاوا رائد الفكر التنويري الياباني في عهد المايجي.
وهكذا، فقد كان لأفكار رجال الإصلاح اليابانيين الأثر الكبير في نجاح مشروع النهضة الحديثة ببلادهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ أضحت اليابان بلاداً قوية ومنيعة، استطاعت الإقلاع باقتصادها والنهوض بمجتمعها واسترجاع كامل استقلالها وسيادتها، وبدأت تتحول، بالتدريج، من دولة كانت خاضعة للهيمنة الغربية إلى دولة تعمل على فرض هيمنتها على بلدان أخرى، على غرار القوى الكبرى. وبصورة عامة، يمكن تحديد أسباب نجاح النهضة القومية اليابانية الحديثة بعدة عوامــــل، من أهمها (11):
(أ)- وجود أرضية سانحة للتغيير توفّرت قبل عهد المايجي، إذ عرفت اليابان، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، نمواً ملحوظاً في ميداني التعليم والمدن، أي في تنمية الموارد البشرية ووعيها.
(ب)- توفّر قاعدة اجتماعية للتغيير والنهضة، تمثلت في تحالف البورجوازية التجارية مع النبلاء الصناعيين والساموراي المثقفين.
(ج)- قناعة باعثي مشروع النهضة، وفي مقدمتهم الإمبراطور الشاب ميتسو هيتو، بضرورته وحتميته التاريخية، وقيام جهاز دولة يعمل على تنفيد متطلباته، ووجود قاعدة اجتماعية قادرة على دعمه والذود عنه.
(د)- عملت حكومة المايجي لتوفير كل شروط الإقلاع الاقتصادي، أي توفير رأس المال واليد العاملة والسوق.
(هـ)- توفير نظام تعليمي حديث، باعتبار أنّ تأهيل الشعب هو أساس الثروة والقوة والحضارة.
(و)- لم تكن الديانات السائدة باليابان (الشنتاوية والكونفوشيوسية والبوذية)، التي هي فلسفات دنيوية أكثر منها ديانات، عقبة أمام التفتّح على الغرب والأخذ بأسباب قوته لتحقيق النهضة الشاملة. فقد لعبت دوراً هاماً في غرس قيم الأمانة والوفاء للواجب والانضباط والشجاعة والصدق والتضحية في سبيل الإمبراطور والوطن.
وفي هذا السياق، لم تكن الدول الأوروبية موحَّدة في نهضاتها ولا في شروط كل نهضة، فبقدر ما كانت الدولة تسبق في الخارج كان لها السبق في الداخل. فبريطانيا سبقت القارة في التنافس على السوق الدولية، فكان لها السبق في توحيد سوقها وانطلاق ثورتها الصناعية والسياسية. وجاءت فرنسا بعد بريطانيا في سباق السيطرة على السوق الدولية، فاحتلت المرتبة الثانية قارياً، ونجحت قبل ألمانيا وإيطاليا في تحقيق وحدة سوقها ونهوض دولتها القومية. وتأخّرت ألمانيا في السباق على السوق الدولية فتأخّرت وحدتها ونهوض دولتها القومية، وهو أمر انتهى إلى تنافس شديد بينها وبين بريطانيا وفرنسا على السيطرة والتوسّع، ولم تُحسَم المسألة إلا بحرب عالمية أولى في مطلع القرن العشرين (1914-1918)، ثم جدّدها هتلر في محاولة أخرى لتعديل موازين القوى الدوليّة والقاريّة في الحرب العالمية الثانيـة (1939-1945)، وفشل كما هو معروف (12).
وبالرغم من الفرق الزمني بين الثورتين الإنكليزية والفرنسية (1688-1789) فإنّ ثمة تشابهاً واضحاً بين تاريخي البلدين، فيما يتعلق بمسألة الاندماج القومي. فقد تم إدماج قسري لشعب اسكتلندا لدرجة أنه نسي لغته وصار ينطق بالإنكليزية فقط. كما أنّ الثورة الإنكليزية قامت، هي الأخرى، على فكر الأنوار والقيم الديمقراطية وأيديولوجيا " العقد الاجتماعي ". فالفرق بين الثورتين إنما هو فرق من حيث الكم فقط وليس من حيث الكيف، فالثورة الإنكليزية سبقت الفرنسية، فحدثت قبل أن تنضج الظروف بالدرجة التي نجدها ناضجة في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر. لذلك، لم تكن " القطيعة " مع الماضي في إنكلترا بنفس القوة التي نجدها معلنة في الثورة الفرنسية، فالثورة الإنكليزية رست على حل وسط أنقذ الملكية والأرستقراطية، الأمر الذي كرّس بدوره ميثولوجيا التواصل التاريخي (13).
إنّ اختلاف المفاهيم القومية المتداولة هي التعبير الواقعي عن مسار تطور الأمم الأوروبية وتكوين دولها القومية، فالفرق بين التجربتين الفرنسية والألمانية هو الذي جعل تعريف الأمة ينطلق من " الإرادة المشتركة " لدى الفرنسيين، ومن مسألة " اللغة " لدى الألمان. لقد جاء تكوّن الأمة الفرنسية سابقاً على التنظير الفكري لمسألة الأمة، لأنّ التطور الاقتصادي - الاجتماعي فرض انتصار البورجوازية على الإقطاع، وتحققت الوحدة القومية الفرنسية كتعبير عن هذا الانتصار، دون تدخّل القوى الخارجية، حيث كانت السوق القومية هي مطمح البورجوازية الفرنسية. وهكذا، فقد وجد الفرنسي نفسه في دولة - أمة، فاعتبر أنّ الإرادة هي التي حققت ذلك، فأهمل فلسفة المسألة القومية.
أما في ألمانيا، فقد كانت أشلاء في منتصف القرن التاسع عشر، ذاب بعضها في أمم مجاورة (الإمبراطورية النمساوية - المجرية، وسويسرا، وفرنسا..)، وبالتالي لم تكن غير اللغة معيناً لتحديد حدودها، لهذا ارتفع صوت فيخته منذ أوائل القرن حول " اللغة الأم " الدالة على " العرق الصافي ". لم تكن الأمة الفرنسية ضائعة الحدود، بل كان ينقصها السوق، أما في ألمانيا المفكّكة فلم يكن هناك سوى اللغة معين للوحدة القومية.
كما أنّ مبدأ " العقد الاجتماعي " الذي أخذت به الثورتان الإنكليزية والفرنسية في بناء دولتيهما القوميتين، لم تعرفه دول أوروبا الوسطى والشرقية والجنوبية إبان بنائها دولها القومية، ففي حالة ألمانيا مثلاً، كان تكوين هذه الدولة ناتجاً مركّباً لاستخدام القوة العسكرية لمملكة بروسيا وانضمام أرستقراطيات الدويلات الألمانية إلى مشــروع بيسمارك التوحيدي، من دون تحقيق ثورة بورجوازية، ومن دون عقد اجتماعي.
وفي اليابان، اختلفت ثورة العام 1868 عن الثورتين الإنكليزية والفرنسية، حيث: " حصل تحالف اقتصادي ثم سياسي بين البورجوازية التجارية وبين شقٍّ من الطبقة الإقطاعية استطاع التأقلم في الإبّان مع الرأسمالية الصناعية ثم المصرفية ". حيــث: " أنّ الظروف الداخلية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لاندلاع ثورة بورجوازية على النمط الأوروبي لم تكن ناضجة آنذاك " (14).
وقد تأثر رجال الحكم اليابانيون، في الفترة الأولى، بالقوانين البريطانية والأميركية والفرنسية، ولكنّ التجربة الألمانية كان تأثيرها أعمق، بفعل التشابه بين تطور المجتمعين وفي التقاليد العسكرية، لذلك جاء دستور 11فبراير/شباط 1889 شبيهاً بدستور ألمانيا، كما جاءت قوانين سنة 1899 مستوحاة من القوانين الألمانية.
الهوامش
11 - د. المحجوبي، علي: النهضة الحديثة...، المرجع السابق، ص ص 223-228.
12 - نويهض، وليد: (شروط النهضة تاريخية وليست ايديولوجية) - عن: صحيفة الحياة، لندن -12 فبراير/شباط 1993.
13- د. أمين، سمير: (حول مفهوم القومية...)، المرجع السابق، ص 18.
14 - د. المحجوبي، علي: النهضة الحديثة...، المرجع السابق، ص 167.