هل للدماغ هوية؟


حسن مدن
2020 / 11 / 6 - 19:00     

للمعتز بيت من الشعر يقول: "وحلاوة الدنيا لجاهلها / ومرارة الدنيا لمن عقلا"، ما يذكرنا ببيت الشعر الشهير للمتنبي والقائل: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم"، وكان الحسن البصري يقول: "لما رأيت الدهر دهر الجاهل/ لم أرَ المغبون غير العاقل" .
لكن هذا الذم للعقل، هو مدح في صورة الذم، فهو اعتراف بقيمة العقل وضرورته، وللباحث سالم القمودي كتاب سماه: "الإنسان ليس عقلاً"، وهو عنوان يستفز ما استقر في أذهاننا من أن ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات هو عقله، فإذا جاء أحدهم ليفند هذه الأطروحة، فذلك ليس للتقليل من أهمية العقل، وإنما للقول بأنه ليس به وحده يحيا الإنسان.
يلفتنا الباحث إلى أن الصراع بين النفس والقلب يشتد بين الحين والآخر، خاصة إذا ما كانت النفس قلقة وتتمتع بذكاء حاد متوقد لا يهدأ، مما يزين لها أمر الهروب من قيوده أو الانفلات من هديه وحججه وبراهينه، ويوفر لها، تبريراً لكل سلوك ومخرجاً لكل مأزق.
الحكمة ليست الذكاء، فالحكمة تكمن في السلوك أكثر من تمثلها في المعرفة، لأن الإنسان قد يكبو ويتعثر ضحية طغيان ذكائه على حكمته ورشاده وعلى فعله وسلوكه.
إن أشكال الجنون التي يعرفها علم النفس جيداً، كجنون العقل وجنون الذكاء وجنون العظمة وجنون الطغيان، وهي أمراض متفشية في ثنايا حياتنا: في السياسة والثقافة والسلوك قادتنا إلى الخراب.
ولا يتصل الأمر بدرجة أعلى من الذكاء، بقدر ما يدور عن نرجسية مَرضية تُبرر لأصحابها، خاصةً حين يكونون في موقع القرار أو السلطة، اقتراف الجرائم، لأنهم لا يرون في ذلك سوى أداء لواجبٍ منوط بهم، وسيّان إن كان هو في قرارة أنفسهم موقنين من ذلك أم لا، فإنهم يوظفون آلة دعائية معقدة لإقناع الجمهور بصواب ما يفعلون.
يمكن للعقل أن يكون بنّاءً ودليل خير وصواب، ويمكن أن يكون هادماً ومدمراً لصاحبه وللمحيط الذي يؤثر فيه، فالعقل يتأثر بالبيئة التي يعيشها صاحبه، وإذ نشهد اليوم مظاهر التعصب التي يظهرها أصحاب الملل والعقائد لما يؤمنون به، حدّ تكفير وتخوين واستباحة دم سواهم من الملل، يجدر بنا التساؤل ماذا سيكون عليه هؤلاء أنفسهم لو ولدوا ونشأوا في بيئة من ينبذونهم، وتشربوا بأفكارها ومعتقداتها، أما كانت الحال ستكون معكوسة، رغم أن العقل واحد؟
ترى هل خطر في بال أحدنا أن يتصوّر بأن للدماغ هوّية، وليكن السؤال أكثر دقة: هل الدماغ هو المسؤول عن تحديد الهوية الثقافية أو الفكرية أو الدينية لأحدنا؟
لو أننا بحثنا عن تعريف للدماغ، فسنجد تعريفاً تشريحيا، طبياً إن صحّ القول، فهو يتكوّن من المخ، والمخيخ والجذع الدماغي، ويوجد داخل الجمجمة، على ما تقوله المصادر، وأنه المعني بالتحكم في معالجة وتنسيق المعلومات التي يتلقاها من الأجهزة الحسية، ويرسل التعليمات المختلفة إلى أجزاء الجسم الأخرى.
طبعاً هناك شروحات وإضافات على هذا التعريف ليس هنا محلها، حول تكوين المخ ووظائفه، تحملنا على الاعتقاد بأن المخ، على أهميته، ليس سوى جزء من الجسد، يتولى وظائف، كما تفعل بقية أجزاء هذا الجسد، وعليه ليس بوسعنا تخيّل أن يكون دماغ شخص ذي ميول ليبرالية أو تقدّمية مختلف، حين يتصل الأمر بهذه الوظائف، عن مخ شخص آخر ذي ميول محافظة أو متزمتة.
لكن دراسة حديثة أجرتها أربع جامعات أمريكية، كاليفورنيا وبيركيلي وستانفورد وجونز هوبكنز، تخلص إلى أن استجابة كل من الليبراليين والمحافظين للمادة الواحدة تختلف بسبب اختلاف استجابة المخ من شخص لآخر للكلمات والمصطلحات المستخدمة في الرسائل السياسية، وبالتالي فإن تكوين هذا المخ هو الذي يجعل الواحد منا محافظاً أو ليبرالياً.
ومرة أخرى نقول إن الأمر لا يتصل بما يقوم به المخ، كونه موقع التفكير، من تنسيق لقدرات الإنسان على "التحرُّك واللمس والشم والتذوق والسمع والرؤية"، كما جاء على موقع مختص، أي أنه يتلقى ما يكتسبه المرء من معارف وينسقها، وإنما يقوم هو نفسه باختيار ما على المرء اكتسابه من معارف ومفاهيم، فكأنه بذلك يختار له هويته بالنيابة عنه، أي أن الواحد منا يصبح محمولاً على اتباع فكرة بعينها لأن التكوين الفيزيولوجي لمخه يفرض ذلك، وبالتالي فالأصح القول عن أحدهم إن مخه تقدّمي أو محافظ، من أن نقول إن ثقافته محافظة أو تقدمية.
حسب الدراسة المشار إليها فإن العلماء يعتقدون بأن منطقة بالمخ هي المسؤولة عن إدراك وفهم معاني الأشياء، وعن أحد أعضاء فريق البحث يُنقل اعتقاده ب "وجود أساس عصبي في المخ خلف الانحيازات الحزبية والاستقطاب، وأن الاختلافات الأكبر في النشاط العصبي تقع عندما يستمع الناس لرسائل تحمل كلمات تتعلق بالدين والأخلاق والعواطف والتهديدات".
يعيدنا هذا إلى مربع النقاش الأول الذي شغل الفلاسفة منذ القدم حول من يُحدّد الآخر أو يسبقه: المادة أو الوعي، الواقع الموضوعي أم الوعي به؟