من غرائب وعجائب العنف في العلاقات الدولية: ثنائية السيف والرغيف..!


محمد عبد الشفيع عيسى
2020 / 11 / 6 - 03:18     

ألا كيف وصل بنا الحال في العلاقات الدولية الراهنة إلى هذا الدَّرَك الأسفل من النار..؟
نكتب عن ذلك هنا بطريقة "التداعي الذهني الحر" لنتساءل مرة أخرى: كيف تجبر دولة كبرى دولة صغيرة على أن تقوم بتحديد نمط علاقاتها الخارجية مع (أطراف ثالثة) وفق ما تريد تلك الكبرى، وإلاّ شهرت عليها سيف الجزاءات الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية المسلول؟
وهي تعلم –تلك الكبيرة-أنها تملك من وسائل النفوذ في ثنايا الاقتصاد العالمي، ومن أدوات القوة المجسدة، خاصة العسكرية منها، ما يمكّنها من فرض إرادتها المنفردة على الأخرى دون جدال..؟ ويعلم الجميع كل ذلك من قبل، ثم ينظرون.
ولا أقول كيف وصل الحال بالضعيف إلى أن يبادل كرامته و إرادته الحرة ببعض المال، لا بل يدفع بعض الشيء في أمر محل شك، من ماله الحر أو القرض غير الحسن، لقاء بالوعد بتلقّي قدر من المال بعد ذاك؟ لا أقول ذلك؛ فإن إشهار السيف في وجه الضعيف، مقابل الرغيف، سلوك مجرد من من الغطاء الأخلاقي ولو بحدوده الدنيا المقدّرة.
والمستفيد الأول من هذا المسلك الدولي الشائن معروف؛ كيان عنصري قزميّ تحكمه في اللحظة الراهنة على الأقل (شبه عصابة) من المجانين أو أنصاف المجانين، الذين أعملوا آلة الحرب الظالمة، و استراتيجية "المفاجأة والمذبحة" خلال ثمانين عاما تقريبا (1948_...) ضد الشعب العربي الفلسطيني وغيره من العرب.
هذا مشهد مثير من مشاهد العلاقات الدولية عبر مزدوجة (السيطرة الظالمة/ الخضوع المظلوم) و التي ربما ألفتها البشرية عبر عصور سحيقة طوال، في لحظات قد تكون نادرة، حين تتحول بعض الجماعات البشرية، في سياق اجتماعي معين، إلى ممارسة العنف مما يسمّونه، في غير دقة، "قانون الغاب" – وإن لم تكن الغابة على هذا النحو من الوحشية التي يصوّرون..!؟
وإن شئت أن تنظر مثلا إلى ممارسات العنف الدموي المسلط من مراكز خارجية على منطقتنا العربية –الإسلامية في الشطر الثاني من العصر الإسلامي الوسيط؛ عدا عن العنف الداخلي المتولد من دوائر الحكم العليا والوسيطة طوال الوقت؛ فانظر إلى "حروب الفرنجة" (تحت راية الصليب المزعومة) على ساحل الشام وفلسطين ثم مصر على مدى أكثر من قرنيْن ( 1096- 1291م )، والتي حفلت بمشاهد الحصار والخنق. و قد جاء الردّ عليها عربيا-إسلاميا بمعركة (حطّين) بقيادة صلاح الدين الأيوبى عام1187، كما حدث الردّ على اختراقات التتار بمعركة "عين جالوت" عام 1260بقيادة سيف الدين قطز و الظاهر بيبرس ضد التتار الزاحفين على الشام فمصر، بعد دخول هولاكو إلى عاصمة الدولة الإسلامية بغداد عام 1258وإعمال آلة الحرق والتدمير، و إلقاء محتويات مكتبة بغداد في نهر دجلة، تختلط مياهه بالدم المسال، مع مقتل "الخليفة المستعصم".
أما إن شئت أن تبحث عن امثلة مما يسمونه (قانون الغاب) في أوربا مثلا خلال العصور الوسطى الأوربية المديدة (عشرة قرون تقريبا: من القرن السادس إلى السادس عشر) فحدَّث ولا حرج.
ولكن لم يسجل، او لم يصل إلينا، طرف من مثل ما سبق، في (بلد الغاب) قارة إفريقيا السمراء الخضراء، عدا عن المناوشات القبلية المعتادة؛ اللهم إلا إذا رجعنا إلى الأيام حالكة السواد، بعد انتهاء العصور الوسطى، من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، حينما كان يتجول (صائدو البشر) من أوربا و أمريكا الشمالية على سواحل القارة الإفريقية، خاصة الغربية منها على المحيط الأطلسي، بحثا عن البشر من أجل اختطافهم، ومن ثم اقتيادهم على متن السفن عبر "بحر الظلمات" إلى شمال "العالم الجديد" ليتحولوا إلى عبيد في مزارع المستوطنين الجدد من الأوربيين هناك. ومن نجا من مخاطر الاصطياد والاختطاف في تجارة البشر و "النخاسة" لم ينجُ من المرض والموت المحقق على متن "مراكب الموت"، حتى ليقال لدى البعض إن ضحايا الرحلات المنكوبة للأفارقة إلى أمريكا الشمالية وضحايا عملية الاستعباد من بعد خلال مئات السنين، ناهزت أعدادهم الملايين (ستة ملايين حسب بعض التقديرات التي لم يتم التأكد منها ).
هكذا تشكل مشهد دموي عبثي ما بين مطرقة استعباد الأفارقة في أمريكا الشمالية بالذات منذ استكشفها كريستوفر كولومبس عام 1492، وما بين إبادة أهل البلاد الحقيقيين للحلول محله في "أرض بلا حدود"، والذين أسماهم المؤرخون في الكتابات السائدة (السكان الأصليين).
تلك كلها مشاهد من الحرب، و من العنف "الفوضوى"، فى سياق التمهيد لليل طويل، ليل الاستعمار الأوروبى للقارات الثلاثة أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
و ما بين الحرب والاستعمار مضت الرأسمالية الأوربية الوليدة تصبغ أفق العالم ، من "وراء البحار" ـ بالدم المهراق، لغرض فرض هيمنة العالم البورجوازى عبر الكشوف الجغرافية والفتوح الغازية منذ أوائل القرن السادس عشر حتى منتصف التاسع عشر، على مدى ثلاثة قرون، ومن ثم بناء لون جديد من الامبراطوريات لم يشهد العالم مثيلا لها من قبل. وما لبثت أوروبا الاستعمارية أن فرضت سيطرة الرأسمالية كنظام عالمى رويداً رويداً ، لتنتقل من الرأسمالى التجارى الفاتح (مادّاً أطرافه من ساحل غينيا إلى شواطىء وأعماق الهند عبر المحيط الأطلنطي والمحيط الهندي العتيد)، إلى الرأسمال الصناعى "المقيم".. ذلك كان عصر الثورة الصناعية، و أهم مقراتها بريطانيا وفرنسا بصفة أساسية، عصر الاستعمار "الكلاسيكى" الذى بلغ ذروته خلال (التكالُب الأوربي على أفريقيا) وتقنينه من خلال مداولات (مؤتمر برلين) عام 1884 . هكذا وُلد الاستعمار كظاهرة اجتماعية عالمية بحق، على أنقاض (الامبراطورية) في العصرين القديم والوسيط. و بينما كانت تقوم الامبراطوريات على السيطرة العسكرية ونزح الموارد الاقتصادية، أي على مجرد القهر و القسر، فإن الاستعمار-الاستعمار الأوربي الحديث- قام على فرض صيغة (تقسيم العمل الدولي غير المتكافيء) كقاعدة لنهب الموارد المنظم، متذرعا بالقوة العسكرية القادرة على فرض "النظام الاستعماري" بالقوة المسلحة، على كامل القارات الثلاثة تقريبا: آسيا وإفريقيا و أمريكا اللاتينية.
من خلال الثورة الصناعية بالذات، تبلورت صيغة "تقسيم العمل الدولي الرأسمالي"، تلك التي غدت قائمة على "التخصص الإنتاجي" حيث تختص دول المركز الاستعماريّ بإنتاج المصنوعات، وتبادلها باالمواد الأولية من المناطق الخاضعة (المستعمرات) التي تتحول على هذا النحو إلى منجم و سوق.
كانت مزدوجة انتشار التوسع الرأسمالى والاستعمار لها الكلمة العليا فى القارات الثلاثة الخاضعة لأوربا، وما لبث التوسع والاستعمار المتذرعين بالثورة الصناعية والتقدم التكنولوجى أن أنتج مخلوقاً شائها متعدد الرؤوس السوداء ، هو "الحرب" . فما كان للتوسع الرأسمالى والاستعمار أن ينتهيا دون هذه النهاية الدموية الشاملة على اتساع الرقعة الكوكبية خلال حربين طاحنتين بين الدول الرأسمالية الاستعمارية الكبرى، دمرتا (الأخضر واليابس) عبر النصف الأول من القرن العشرين (الحرب العالمية الأولى 1914-1919 ، والثانية 1939 – 1945).
وما بين الحربين أزمة (عظيمة) من الكساد طالت أوروبا والولايات المتحدة ما بين 1929-1933 ، وظلت ذيولها لتطال جميع العالم حتى اندلاع الحرب 1939.
من خلال الأزمة وأحداث الحرب، تمّ تدشين قوة البقاء الرباعية للرأسمالية العالمية : حيث جاء "تدخل الدولة" لمواجهة تداعيات الأزمة، لينضاف إلى كل من "الاستعمار" و "الحرب" و "التقدم التكنولوجي". أربعة أذرع تمتد مع أربع سيقان لتلف العالم بأكمله، برغم قيام الثورة الروسية عام 1917 ومن ثم نشوء الاتحاد السوفيتى ، وحتى سقوطه مع معسكره (الاشتراكى) عام 1990، بعد أهوال شديدة ليس هنا مجال فحصها.
خلال العصر الرأسمالى الكبير على امتداد القرون الخمسة الأخيرة، امتدّ الشتاء الطويل لرباعية الاستعمار والحرب والتكنولوجيا وتدخل الدولة، وتم ابتناء الحضارة الحديثة، حضارة الرأسمالية العالمية المعاصرة، التى قامت على التقدم التكنولوجى، تكنولوجيا "خالية من الإنسان" إن صح التعبير، أو هي تُخضع الإنسان لسطوتها، وتجبره على طاعتها، منذ عصر الآلة (البخارية) عام 1776 ، حتى "الذكاء الاصطناعى" و "الروبوت" و "إنترنت الأشياء" عامنا هذا 2020 .
إذن هى الحضارة الرأسمالية، ورثت حضارات العالم الإسلامى، على تخوم حضارات الشرق فى العصر القديم، وحضارة الصين وحضارة الإنكا وغيرها من القبائل المجيدة لشعب (أو "أمة" الهنود الحمر) وأفارقة "الغابات الخضراء" قبل القرن السادس عشر. حضارات أوروبا، ثم أمريكا، شهدت انتشار (العقلانية) و (العلمانية) و "القومية الظالمة والمظلومة"، والتقدم التكنولوجى قبل كل شىء. ومع الجميع حكم القانون ..! وما أدراك ما حكم القانون ..! نقصد ليس فقط القانون الداخلي، الذى دشّن عصر ما يسمّى بالديمقراطية على الأنموذج الغربي، ولكن نقصد أيضا "القانون الدولى" المعاصر الذى نشأ بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية والأعراف -الأوربية أساساً- ثم شهد قفزته الكبرى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. حينئذاك انضمّ التنظيم الدولى الجماعى المعاصر، من"عصبة الأمم" لعام 1914 إلى الأمم المتحدة وفق "ميثاق فرانسيسكو" لعام 1945. وما لبث سيل المعاهدات الشارعة أن تدفق لتنظيم أحوال العالم فى السلم والحرب، تحت رايات "توطيد السلم الدولي"، و "التعاون الاقتصادى" ، و "حقوق الإنسان" . ولكن يبقى، من قبل ومن بعد، في عالمنا وعصرنا، أن "قانون القوة" يعلو، من أسف، على "حكم القانون" في عديد الأحوال. فهل نعجب من إذن بعد ذلك أن يرتفع حدّ السيف من القويّ على الضعيف، جنبا إلى جنب غواية الرغيف..؟
و للحديث بقية.