ضرورة اعادة الاعتبار الى الهامش والمسكوت عنه


صلاح السروى
2020 / 11 / 5 - 00:23     

ضرورة اعادة الاعتبار الى ثقافة الهامش والمسكوت عنه

اكتسبت الايديولوجيات والفلسفات المنتسبة الى "الحداثة" modernism والمسماة ب – "السرديات الكبرى" big narrativities ، ذات الطابع المركزى المهيمن، مظهرا يوحى بالتماسك والاتساق والرصانة, مما جعل معتنقيها يعدونها عنوانا للحقيقة وعلامة للصواب. فتحولت، بذلك، الى بنى "أيقونية" تختزل الحقيقة فى تصوراتها, وتختزل العالم فى رؤيتها, وتكتفى بكلياتها عن التفصيلى والصغير والهامشى. وتكتفى، باطلاقياتها، عن المتغير والمتحول، فى اركان الوجود الأربعة. حتى كادت أن تصبح "تعاليم مقدسة" ومقولات سماوية لدى معتنقيها.
حتى وصل الحال بالمدافعين عن "الرأسمالية"، بوصفها واحدة من هذه السرديات الكبرى، أن اعتبروها تمثل "نهاية التاريخ", وان انسانها انما هو "الانسان الأخير", حسبما أورد المفكر الأمريكى فرانسيس فوكوياما فى كتابه الذى يحمل العبارتين فى العنوان ذاته. والأمر نفسه يتمثل فى التغنى ب"الديمقراطية"، باعتبارها الدواء الشافى من كل الأدواء، حتى وصل الحال بواحد من رؤساء الولايات المتحدة (هارى ترومان) أن يصرح أثناء الحرب الكورية موجها حديثه الى قائد قواته قائلا: "علمهم الديمقراطية حتى لو اضطررت الى قتلهم جميعا".
وعلى الناحية الأخرى من العالم حيث يقبع القطب الاشتراكى، وصل الحال ببعض معتنقى الماركسية الى حد اعتبارها تعاليم مطلقة وأن كتب المؤسسين لها انما تحوى مجامع الكلم, فلا قول بعد ما جاء به كارل ماركس وفلاديمير لينين, وربما، ستالين، أيضا. حيث وصلت هذه الحالة الى أقصى آمادها خلال الفترة الستالينية، ومع ظهور جدانوف وزير ثقافته. ويمكن القول أن أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى هو ذلك "الجمود العقائدى" الذى وصم الفكر والسياسة فى تلكما الحقبتين، سواء حقبة ستالين أو حقبة بريجنيف. فانتشرت الاتهامات ب"التحريفية" و"المروق الأيديولوجي" و"الهرطقة الفكرية" .. الخ، لتصم كل من يجرؤ على طرح رؤى جديدة، أو مختلفة، تغاير التطبيق الرسمى المعتمد، لدى دولة الاتحاد السوفيتى, أو غيره من المؤسسات والأحزاب المشابهة.

حتى جاءت لحظة الحقيقة مع ثورات الطلاب عام 1968 فى فرنسا وبعض دول أوربا والعالم, لتزلزل عالم الحداثة المطمئن المنضبط والواثق، على نحو يقيني، من قوة منظوماته وأنساقه. ومن ثم توالت الأزمات الاقتصادية الماحقة التى حاقت بالنظام الراسمالى. خاصة مع استواء وهيمنة اتجاه المحافظين الجدد، خلال الفترة "الريجانية – التاتشرية"، فى سبعينيات القرن الماضى، وصولا الى الأزمة المالية والعقارية الكبرى، فى عام 2008، عندما أشهرت أكبر المؤسسات الرأسمالية - الأمريكية والغربية – افلاسها، ولم ينقذها الا تدخل الدولة فى الاقتصاد، باجراءات مالية وادارية، أشبه بالاجراءات "الاشتراكية". وكذلك جاء تفكك الاتحاد السوفيتى، على هذا النحو الدراماتيكي، وتبعثر دول "حلف وارسو"، لينضم بعضها الى الغريم الايديولوجي القديم (حلف الأطلنطي), ليصك رؤس كل من احتكر الصواب والنقاء الايديولوجي الاشتراكي. وليعاد الاعتبار الى كل من اتهم ب"الهرطقة" و"المروق" الفكرى.

هكذا يصر الواقع على لطم كل الجامدين الأيقونيين, المتصورين أن الفكر أقوى من الواقع وأن التصور أقوى من الحقيقة.

ولقد كان للثورة الصناعية الثالثة واكتشاف الامكانات المذهلة لجزىء الألكترون, وما أدى اليه من انقلابات دراماتيكية فى وسائل الاتصال و"بوابات المعلومات" والحواسيب الآلية, الدور الأخطر فى الاجهاز على كل من هذه "السرديات الكبرى", حيث تكاثرت "الداتا"، على نحو مذهل يكاد يصل الى حدود لانهائية. وأضحت المعرفة، المتعددة والمتنوعة، متاحة للكافة. مما أتاح الفرصة لتحقيق درجات كبيرة للغاية من التقارب والتداخل بين أصقاع العالم و أتاح حرية غير مسبوقة لتداول المعلومات والرؤى والأفكار. وهو ما أدى الى جعل اليومى والهامشى والقصى، من الأفكار والوقائع، ممتلكا لقدرة القفز الى الصدارة والتواجد فى قلب المشهد المعلوماتى. وهو ما جعل المشهد السياسى والثقافى والمعرفى،بعامة، على قدر كبير من التعقيد والتعدد والتنوع، على نحو لم يعد فيه احتكار الحقيقة والادعاء بامتلاك اليقين، أمرا ممكنا، أو قابلا للتصديق والاستمرار.

ومن هنا، نستطيع القول بأن تغيرين، على قدر هائل من الأهمية، صنعا أسطورة عصرنا ومنعطفات الرؤية والتفكير لديه:
الأول: هو سرعة ايقاع وتعقيد ومكر الواقع السياسى والاقتصادى والانسانى، على الصعيدين: المحلى والدولي.
أما الثاني: فهو هذا التطور العلمي الذى حقق اكتشافات خطيرة ومؤثرة، على نحو مذهل. وبخاصة، فى مجالات التطبيقات التكنولوجية. كما أن هذا التطور متسارع، بصورة لم يعد ممكنا اللحاق بها لغير المتخصصين. وهو ما انعكس على انسان عصرنا, بقوة، ليصنع من منعطف القرن العشرين – الحادى والعشرين بداية لعصر جديد، على كل المحاور وفى كل المجالات, وفى القلب منها الفكر والثقافة.
ومن هنا تكتسب أفكار "ما بعد الحداثة" post modernism أهميتها الاستثنائية. فهى لم تتكون باعتبارها دعوة أخلاقية أو نزوعا ارادويا , بل جاءت باعتبارها رؤية متسقة مع متغير عالمى: علمى وواقعى بالغ الفداحة والعنفوان, يتطلب نوعا جديدا من التفكير والتفاعل والتداخل. فحفلت هذه الأفكار (ما بعد الحداثية)، بمقولات، من قبيل: "الاختلاف"، و"الهامش"، و"القراءة"، و"الشبحية"، و"التأويلية"، و"موت" الأطر الجاهزة والأفكار المعلبة.

ان التفكيكية deconstructuralism قد لايكون من هواجسها طرح رؤى بديلة للرؤى السابقة والقديمة, بل انها تقف على الضد من طرح مثل هذه الرؤى البديلة، تحديدا. فهى لاتريد استبدال "الأقانيم المقدسة" القديمة، بأقانيم مقدسة جديدة, تدعى لنفسها العصمة والكمال, على النحو الذى قدمت به نفسها الرؤى السابقة. بل انها، بكل بساطة، تقول ان الحقيقة لم تكن، ولم تعد، مطلقة. وأن المركز (الفكرى أو السياسى) لا يمكنه الادعاء بأنه ملخص الوجود أو بديلا عنه. وأن مهمتنا انما تتلخص فى تفكيك وتفنيد كل البنى المدعية للتماسك والاطلاقية. لا لمجرد الهدم والتفكيك, ولكن لازاحة الأوهام والتصورات التى لا تعدو كونها أقرب الى الخرافة، منها الى الحقيقة أو الواقع. أو فى أفضل الأحوال, هى أقرب الى الايمان الميتافيزيقى. على الرغم من كل الادعاء والاعتداد ب"الاجراءات الموضوعية"، و"الممارسات المنهجية"، و"الرؤية العلمية" و"التجريبية" .. الخ.

وبالطبع، لم تكن بلادنا بعيدة عن كل هذه التحولات العارمة، فكما خرج الطلاب فى باريس وبراغ عام 1968، خرج الطلاب فى مصر، ليقولوا أن ما سبق لم يعد من الممكن استمراره فيما سيلى من أزمنة. وأن الدولة المركزية المنضبطة، المحكومة بهالة الزعامة وقوة الأمن، غير قابلة للمزيد من البقاء. لأن طريقة الحكم والادارة، التى أنابت نفسها عن الشعب والجمهور، وتعاملت معه كما تتعامل – واهمة - مع طفل قاصر، لم تفض بنا الا الى هزيمة نكراء، لاتزال جراحها مفتوحة ودماؤها النازفة ساخنة الى وقتنا هذا.
ومن هنا يمكن أن نفهم طبيعة وجوهر كل تلك التحولات والتحركات الشعبيةالتى انتهت بثورة يناير العظمى 2011. والتى كانت وسائل الاتصال الحديثة، وطريقة التفكير الجديدة، الخاصة بها، هما الأداة الحقيقية التى اعتمدت عليها قوى وجماهير هذه الثورة. فاذا بنا أمام جيل جديد لم يترب على قيم الخوف والاذعان والتواطؤ واليقين المطلق. بل جيل درج على قيم الاختلاف، والمراجعة، وتعدد طرق التفكير، وتنوع وسائل الوصول الى الهدف. جنبا الى جنب، مع القدرة على التواصل والتنظيم.

واذا بنا نكتشف أن ما يتصدر الصحف ووسائل الاعلام الرسمية ليس هو مجمل الحقيقة وكل الوجود, بل ان هناك "هامشا" يكاد، على قدر اهماله واقصائه، أن يصير "متنا" أصيلا ولاعبا جوهريا يقلب كل المعادلات ويغير كل الحسابات. سواء أكان هذا الهامش متمثلا فى فكرة الجيل, أم النوع، أم الطبقة الاجتماعية, أم الموقع الجغرافي. وأن "المسكوت عنه" يكاد، من فرط فداحته، أن يصير عنوانا فاضحا. سواء أكان هذا المسكوت عنه، فكريا اعتقاديا، أم حقوقيا، أم سلوكيا .. الخ.

ومن هنا تبرز أهمية اعادة بناء أطر الوعى الذهنى والمعرفى لانساننا، ودراسة واقعنا ومسلماتنا، على أسس جديدة .. أسس تقوم على التحرر من الغيبيات والقناعات الاطلاقية والأسطورية والميتافيزيقية، وتؤمن بأن الآخر شريك، وتؤمن بتعدد وتنوع مكونات ومحركات وفعاليات الوجود المعاش. أسس تقوم على أنه قد أضحى من المتعين علينا، قبل أن ندعى معرفة الآخر والحكم عليه، أن ننخرط فى محاولة اعادة اكتشاف أنفسنا وحقيقة وجودنا الفكرى والاجتماعى. وأن نفكك الأنماط الجاهزة والصور المعلبة sterio type والأفكار المقولبة، التى تحفل بها ثقافتنا، لنعيد اكتشاف كنهنا ومكنونات وعينا وأنماطنا الفكرية.
فلننزع الغطاء عن كل ما هو دفين ومسكوت عنه وغير معلن، وأن نعيد الاعتبار والأهمية الى غير المعترف به، وغير المرغوب فى البوح بحقيقة وجوده، فى مكونات كينونتنا.
أملا فى أن يصبح بصرنا حديدا.