مجيد مرهون ابن البحرين المعدم الذي طافت موسيقاه العالم


حسن مدن
2020 / 11 / 4 - 22:51     

في حي العدامة بالحورة، حي البسطاء المعدمين، ليس بعيداً عن قلب المنامة عاصمة البحرين، ولد مجيد مرهون في عزّ ظهيرة يوم قائض شديد الحرارة، كان ذلك بتاريخ 17 أغسطس عام1945. يقول مجيد إن ذلك حدث بعد أسبوع واحد فقط من قيام القوات الأمريكية بإلقاء القنبلة الذرية الثانية على اليابان. وكانت الحرارة في ذلك اليوم على أشدّ ما يمكن تصوره، بسبب انتشار الغبار الذري في الغلاف الجوي حول العالم.
واجه مجيد مرارة الحياة والفقر بالتفوق في دراسته، حيث يقول: "كنت من أفضل التلاميذ في الدراسة بالرغم من شظف العيش، حيث كنا ننام أحيانا ببطون خاوية يعتصرنا الجوع، وتمّ نقلي إلى مدرسة القضيبية الابتدائية قبل أن يكتمل بناؤها عام 1953، وفي تلك المدرسة لاحظت الفارق الاجتماعي بين الطبقات، وكنت أنزوي محاولا تفسير السبب، ولكن دون طائل، لأن الموضوع وهمومه أكبر مما يحتمله عقلي".
قبل أن يخلد إلى النوم في كل ليلة كان يستمع إلى راديو الظهران من مذياع قديم في بيتهم يعمل على البطارية الناشفة، وكانت تلك الإذاعة تقدّم الموسيقى طوال الليل والنهار. سيصبح الفتى الذي ولد موهوباً، مدمناً على الاستماع إلى الموسيقى السيمفونية، والتي كانت ثرية في هارمونياتها المتنوعة، رغم أنه في تلك السن المبكرة لم يكن قادرًا على استيعاب كل شيء فيها. أثار ذلك فضوله كثيرًا وشكّل له تحدياً حقيقياً للمعرفة، ودافعاً للمثابرة والاجتهاد لدخول العالم السحري للموسيقى.
من المدرسة الابتدائية سينتقل مجيد إلى مدرسة شركة النفط للتدريب، التي كان الانتساب إليها يؤمن عائداً مالياً، ساعده في البداية على الانتقال مع عائلته من البيت الذي كانوا يسكنونه بالإيجار، إلى بيتٍ أفضل. هذا العائد ساعده أيضا في تحقيق رغبته القديمة في اقتناء آلة موسيقية، حيث اشترى آلة الهارمونيكا عام 1959، ومعها اشترى كتابا لكي يرشده في تعلم كيفية العزف عليها.
الاستيعاب النظري للدروس لم يكن صعباً بالنسبة له، لكن كيفية تطبيق تلك الدروس كانت المشكلة، خاصة وأن معرفته باللغة الإنجليزية آنذاك كانت محدودة، مما أوشك أن يصيبه باليأس، لأن محاولاته الأولى في تعلم النوتة كانت فاشلة. قرر أن يتغلب على ذلك بتعلم العزف وفقاً لسمعه، فكان يخرج ليلاً إلى ساحل البحر، لكي يعزف ما يعتمل في صدره وعقله، وكان منظر القمر وهو يتلألأ على أمواج البحر الراقصة يثير أشجانه.
الفتى المنذور للإبداع، سيصبح منذورًا للنضال أيضا، في ذلك الزمن الجميل الذي كان المبدعون لا يجدون أنفسهم إلا في الانحياز لقضية شعبهم، وللنهج التقدمي المعبر عن التوق للحرية. سيقوده ذلك إلى قراءة روايات ومؤلفات جورج حنا وسلامة موسى ومحمد مندور ومكسيم جوركي، وكان لروايات وقصص هذا الأخير أثرها العميق جدا في نفسه، لأنه وجد في شخصيات هذه القصص تجسيدات حية في المجتمع. وبعد حين لم يطل بات مجيد على يقين من أن الميول والتوجهات الاشتراكية أقرب إلى قلبه وعقله. حينها سؤل إن كان يرغب في الانضمام لجبهة التحرير الوطني، يقول مجيد: "بدون تردد أعلنت رغبتي ولهفتي للانخراط فيها".
في هذه المرحلة بدأ يتبلور عنده الإحساس والوعي بالتقاء الفن الموسيقي مع أفكار التغيير، وهذا ما عزّز موقفه من الموسيقى كوسيلة في الارتقاء بذائقة الإنسان وتهذيب روحه. كانت مهاراته الموسيقية قد أخذت في التطور، وبدأت آلات موسيقية أخرى تشدّه إلى عالمها، فاشترى آلة السكسفون بعد تعرفه على بعض آلات النفخ مثل الترومبت والكلارنيت عام 1961.
وحسب المرحوم الفنان أحمد جمال الذي كان يملك متجراً لبيع الآلات الموسيقية والكتب الموسيقية، فان مجيدا كان أول بحريني يشتري هذه الآلة من المحل، كما اشترى أول كتاب لتعلم العزف على السكسفون، وفعل ذلك بدون معلم أو مدرب.
أخذت ثقافته الموسيقية والفنية في التطور والتوسع، وتحسنت مهاراته في العزف على السكسفون، حيث راح يعزف الألحان الفرنسية العديدة والتي وسعت ذخيرته الفنية، وكذلك الألحان الأفريقية، واللاتينية الأمريكية، والإنجليزية، وعلى وجه الخصوص ألحان أغاني البيتلز، والإسبانية، والروسية بالرغم من أنه لم يتمكن من مواصلة دراسة نظريات الموسيقى حينها بصورة منهجية.
في العام 1966 سينفذ مجيد عملية بطولية ضد أحد ضباط الاستعمار البريطاني، وظلّ دوره فيها سرا عام حتى العام 1969، حيث اقتيد إلى محاكمة صورية لم تدم أكثر من نصف ساعة، حيث صدر عليه الحكم المعدّ سلفاً بالسجن المؤيد ، لينقل بعد ذلك إلى سجن جزيرة جدا. لأول وهلة بدت له جدا مخيفة لأنها تختلف تماماً عن جزر البحرين، ففيها الهضاب الجبلية والكهوف ما يثير الرعب في قلب الوافد الجديد.
في عام 1973 نجحت محاولات مجيد في إقناع مدير السجون بالسماح له في الحصول على الكتب الموسيقية لدراسة الموسيقى في وقت الفراغ. وما أن أصبحت هذه الكتب في حوزته حتى بدأ الدراسة الجادة والمكثفة في تعلم الموسيقى مستفيدا من مناخ العزلة الذي كان فيه، مستوحيا من خبراته الموسيقية منذ طفولته ومستعيدا كل تجاربه السابقة ومدققا فيها بعناية، فدقق بعض أعماله السابقة وقام بتأليف مقطوعة "الحنين" وبعد قراءته المتأنية لرواية أحدب نوتردام جاءت مقطوعة "أزميرالدا" معبرة عن تأثره العميق بأعمال فيكتور هيوجو، خاصة وأن توجهاته الموسيقية الرومانتيكية كانت تسير في اتجاه توجهات الرواية.
كما تأثر بموسيقى كل من هايدن وموزارت وبيتهوفن على وجه الخصوص، والذي وجد فيه ضالته كمؤلف موسيقي، فهو كما يقول مجيد كان مثله موسيقياً أصماً علّم نفسه بنفسه، وصادفت هوى في نفس مجيد التوجهات الثورية لبيتهوفن الذي كان يرفض سلطة الأباطرة، ويمقت التزلف. كما اهتم بأعمال الأخوين الرحباني، وأدى العديد من ألحانهما، واستفاد منها في العديد من أعماله الموسيقية التالية ومن ضمنها عمله الكبير الأول: "جزيرة الأحلام" التي تمثل تصويرا لأحلام العديد من السجناء وطموحاتهم وآمالهم وآلامهم، وكذلك تصوراتهم ومن ضمنهم هو شخصيا.
الأكاديمية الملكية السويدية التي اطلع مختصوها الموسيقيون على بعض أعماله وضعته في مستوى المحترفين. وسيتوالى اعتراف العالم بمجيد مرهون، مناضلا وفنانا. في الثمانينات وفي نطاق واحدة من أكبر الحملات للمطالبة بإطلاق سراحه ، ستعزف فرقة الإذاعة السيمفونية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية مقطوعتين موسيقيتين له هما :"ذكريات " و"نوستالجيا" ، وستطوف المقطوعتان العالم التقدمي كله، وتلفتا الأنظار إلى موهبته ومعاناته . وفي مهرجان الشبيبة العالمي في موسكو عام 1985 ستوقع آلاف البطاقات الاحتجاجية التي تطالب بإطلاق سراحه من قبل ممثلي حركة الشباب الديمقراطية المعادية للاستعمار في العالم كله. سيكتب مجيد عن تلك اللحظة : "لأول مرة في حياتي عرفت حلاوة النصر الكبير".
سيكون لرحيل والدة مجيد أثره الكبير في نفسه، فقد تدفقت مشاعره بالحزن على شكل أعمال موسيقية لافتة، ومن بينها: "أغنية الراحلين"، التي ألفها، بعد عشرة أيام فقط من رحيل أمه، كعمل موسيقي مميز . كما وضع عملا موسيقيا آخر مستوحى من هذا الفقد: "حرقة القلب" بعد وفاة أمه بخمسة أو أربعة أيام، حيث كتبه كاملاً في جلسة واحدة، وهو اللحن الذي عزفته لاحقاً الدكتورة ويري دين بروفيسورة النشاطات الموسيقية في جامعة أوتاه الأمريكية .
يقول مجيد إن حصيلته من الأعمال الموسيقية حتى عام 1985، كانت قائمة على أساس وجهة نظر نقدية قوية وصارمة في نقد ذاته ومحاسبتها حساباً عسيراً، حيث أكمل السيمفونية الثانية: "دعوة إلى الفرح" في يوم عيد ميلاده الأربعين بتاريخ 17أغسطس1985. كان قراره قد أصبح حازما بأن مستقبله في الموسيقى وحدها، وليس في أي مجال آخر، لذلك عكف على المزيد من دراسة الهارمونية والتوزيع الموسيقي، بالإضافة إلى مادة التأليف الموسيقي على أسس علمية صارمة.
وتمكن في تلك الفترة من الحصول على مسجل صغير وأشرطة كاسيت سجل عليها بعضا من أعمال تشايكوفسكي وبيتهوفن وغيرهما، مما أروى شيئا من شغفه الموسيقي وساعده على المضي في مشروعه. حيث قام بتأليف أعمال موسيقية قيّمة، منها صوناتة البيانو، والرباعية الوترية الأولى، وعمل على انجاز سيمفونيته الثانية التي تفادى فيها عيوب سيمفونيته الأولى.
وفي نفس تلك المرحلة قام بتأليف الرباعية الوترية الثانية والتي عزفت لاحقاً على يد فرقة رباعية أدنبرة الوترية في يوم الموسيقى العالمية عام 1999 محققةً نجاحا كبيرا. ستتحول جزيرة جدا إلى مصهر للتجارب الإبداعية والفنية، وسيقوم مجيد ومنذ السبعينات بتدريس الموسيقى لبعض المساجين، حيث قام بتكوين فرقة موسيقية متواضعة بعد توفر بعض الآلات الموسيقية.
في 26أبريل 1990انتهت مدة سجنه، ليتنفس هواء الحرية أخيراً، ومنذ اليوم الأول لخروجه من السجن أصبح عضوا في فرقة "أجراس" الموسيقية، وساهم فيها عزفاً وتأليفا، ومن ضمن أعماله معها كانت أغنية (حبيبتي) التي قدمت في المهرجان الثالث للفرقة، ومقطوعة (دعوة حنان). وواصل مجيد العمل على انجاز القاموس الموسيقي الحديث الذي كان قد بدأ في جمع مادته منذ عام 1975، وواصل العمل فيه في السجن، حيث أعاد النظر في المجلد الأول والذي يحتوي على إضافات في المداخل والشروح، وعلى وجه الخصوص في علاقة الكمبيوتر بالموسيقى، وأنجزه بعد خروجه، حيث انهمك عليه في الفترة بين 1990 – 2002، وقد صدر في تسعة مجلدات عن مركز الشيح إبراهيم بن محمد الخليفة.
في 23 فبراير/ شباط 2010 رحل مجيد مرهون عن الدنيا، فيما موسيقاه مازالت تطوف بيننا.