الثورة المُضادة في المَجَر عام 1956- خطاباتها وأسلحتها (1)


مالك ابوعليا
2020 / 11 / 4 - 08:58     

كاتب الموضوع: الشيوعي الهنغاري يانوس بيريتش*

مُقدمة

تظل هذه الطُبعة راهنةً بشكلٍ استثنائي، على الرغم من مرور الوقت منذ اصدار الطبعة الأولى عام 1969. ظلت ذكريات الثورة المُضادة لعام 1956 في المَجَر حيةً في جميع أنحاء العالم لأسباب متنوعة على نطاقٍ واسع.
ان مهمة القوى الطبقية المُعادية للاشتراكية هي استخدام كل الوسائل التي تمتلكها لتحطيم المُجتمع الاشتراكي والحد من تأثير المُثل الثورية أو التقليل منها. ووفقاً لتفسيرهم، أظهرت الثورة المُضادة الهنغارية لعام 1956 بوضوح أن الشعب الهنغاري لم يدعم الاشتراكية باعتبارها ظاهرةً غريبةً عنه.
يعتبر الشيوعيون الهنغاريون وكذلك الحركات الثورية خارج حدود البلاد تاريخ الاشتراكية في هنغاريا بين عامي 1953-1957 مصدراً هاماً للتجربة التاريخية. انهم يعتقدون أنه يجب تذكّر دروس هذه الفترة، وأنه لا يزال من المُمكن استخلاص النتائج من الأحداث نفسها والأسباب الكامنة وراءها. ومن المهم بالقدر نفسه ان يتم نقل هذه الاستنتاجات الى الأجيال القادمة في مُجتمعٍ مُتجددٍ باستمرار من أجل مساعدتهم على تجنب الأخطاء وأي مآسٍ جديدة، هذا على الأقل، لا يقل أهميةً عن الحاجة الى معرفة المتطلبات الجديدة للفترات القادمة.
مرّت ثلاثة عقود تقريباً منذ أحداث سحق الثورة المُضادة عام 1956 في هنغاريا. تُقدّم هذه الذكرى فرصةً لمراجعة التاريخ. يستمر أعداؤنا الطبقيين في العزف على نفس النغمة القديمة، ولكن بوسائل جديدة نوعاً ما. بينما يُمجدون الأعمال المُضادة للثورة، عليهم أن يعترفوا بحقيقة أن الثلاثين عاماً الماضية في المَجَر تُمثل فترةً من التقدم الهائل. ولكن، يواصل الرجعيين المُهاجرين الذين يتحسرون على آمالهم المُحطمة، اتباع نهج أعمى وعنيد، ويَرثونَ ضياع الفرصة من ايديهم للاستيلاء على هنغاريا. بعض الذين لعبوا دوراً مهماً في تلك الأيام يغمرهم الحنين الى الماضي ويستعيدون آمالاً جديدة.
ان التوترات الاجتماعية والصراعات التي تحدث في البلدان الاشتراكية غالباً ما تُذكر بالتجربة الهنغارية. تسببت الأحداث التي وقعت في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 وتلك التي وقعت في بولندا منذ عام 1980 في تركيز الاهتمام بشكلٍ مُستمر على هنغاريا. يَظهر أن الدروس المُستفادة من أحداث عام 1956 في هنغاريا راهنةً بشكلٍ مُتزايد عندما تُوضع بهذه الطريقة تحت مجهر التحليل المُعاصر.
بالرغم من أن أحداثاً كثيرة قد مرّت منذ نشر الطبعة الأولى لأول مرة عام 1969، الا أننا لا نشعر بضرورة اخضاعه لمراجعة شاملة، ولكن ومع مرور الوقت، أصبح هناك عدد متزايد من الوثائق مُتاحاً وتم استخدامها لتوضيح بعض النقاط وتوفير دقة أكثر في الوصف في نقاطٍ أُخرى. لقد اعتبرت أنه من المُهم للغاية اعطاء صورة أكثر تفصيلاً للظروف التي تشكلّت فيها حكومة العمال والفلاحين الثوريين المجريين والخطوات الأولى التي اتخذتها لحماية الاشتراكية. من المُهم أيضاً مناقشة الدروس التي نشأت من هذه الظروف. لذلك قمت باضافة فصل جديد الى الطبعة الثانية تحت عنوان "أُسس التماسك الاشتراكي".

الفصل الأول: هنغاريا والوضع الدولي قبل عام 1956

في عصرنا تتوسع امكانية التأثير على الدول الأخرى بشكل كبير في اطار العلاقات المُتبادلة بين الدول. أدى وجود دول رأسمالية واشتراكية كنظامين اقتصاديين-اجتماعيين مُتعارضين الى توسيع وتكثيف حدة الصراع الطبقي العالمي. يتم اليوم تسوية قضايا مهمة تتعلق بمُستقبل البشرية في ساحة الصراع الطبقي العالمي. ليس بامكان الدول (خاصةً الصغيرة منها) ان تكون بمعزل عن النزاعات الدولية وتوازن القوى العالمي. يُلقي تزايد كمية السلاح بمسؤولية ثقيلة على الشيوعيين والقوى المُحبة للسلام التي يمكن مُستقبل الانسانية على عاتقها. كل هذا يزيد من أهمية العلاقات الأممية والتعاون بين الدول المُنتمية الى النظام الاشتراكي العالمي. ان المسؤولية التي يتحملونها تجاه بعضهم البعض ووحدتهم بشأن أهم القضايا هي عوامل توفر الأساس الراسخ لقوتهم الدولية.
بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الثانية، تحدّد وضع جمهورية هنغاريا الشعبية بشكل أساسي من خلال حقيقة أن الدولة بدأت في بناء الاشتراكية تحت قيادة الطبقة العاملة وأصبحت عضواً في المُجتمع الاشتراكي الدولي. كان انشاء وتعزيز منظومة الدول الاشتراكية، هو أهم العوامل الخارجية في تطور هنغاريا وفي العمل الابداعي للشعب الهنغاري.
ظهرت وحدة منظومة الدول الاشتراكية في الصراع الطبقي الحاد بين نظامين اجتماعيين مُتناحرين. في الوقت نفسه، كانت هناك صراعات طبقية حادة بين قوى التقدم وقوى الرجعية في الدول الاشتراكية الجديدة. ساعد الامبرياليون بكل الوسائل المُتاحة لهم القوى الرجعية الداخلية وحاولوا اثارة الصراع بين الدول التي اتخذت الاشتراكية طريقاً لها.
صار هذا الصراع، وتوحيد القوى، والموقف الذي اتخذه الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطية الشعبية، فاعلاً دولياً خلق نوعاً جديداً من العلاقات بين الشعوب على أساس مبادئ الأممية البروليتارية. أصبحت وحدة النظام الاشتراكي الدولي الضمانة العالمية للتقدم، وقضيةً وطنيةً لكل دولة اشتراكية ومفتاح سلامها وأمنها واستقلالها الوطني.
في هذه العملية، أصبحت منظومة الدول الاشتراكية هي العامل الأكثر حسماً في عصرنا. بحلول عام 1956، كان من المُمكن بالفعل التأكيد بأن علاقات القوى كانت تتحول لصالح الاشتراكية، وكانت هناك أيضاً مؤشرات واضحة على أن منظومة الدول الاشتراكية كانت تمتلك قوةً اقتصادية وسياسية وعسكرية حاسمة.
تم ارساء وحدة الدول الاشتراكية من خلال الصداقة الثُنائية والمُتعددة الأطراف واتفاقيات المُساعدة المُتبادلة. هذا التضافر بين القُوى جعل من المُستحيل على الحصار الاقتصادي الذي فرضته الدول الامبريالية على منظومة الدول الاشتراكية أن يُحقق أهدافه. حققت اقتصاديات الدول الاشتراكية تقدماً سريعاً. في هذه العملية، تم انشاء التعاون الاقتصادي بين الدول الاشتراكية ومجلس التعاون الاقتصادي CMEA عام 1949.
تم استكمال التعاون السياسي والاقتصادي الوثيق بتحالف عسكري من أجل موازنة تهديدات الحرب المُستمرة ومحاولات التدخل. تم في أيار عام 1955 تأسيس مُنظمة مُعاهدة وارسو، وهي تحالف دفاعي للدول الاشتراكية الأوروبية، بعد فترةٍ طويلةٍ من تأسيس تكتلات عسكرية امبريالية عدوانية مُختلفة. ساهمت المُعاهدة في زيادة القوة العسكرية لمنظومة الدول الاشتراكية، ومكنت الديمقراطيات الشعبية من الاعتماد على القوات المُسلحة للبلدان التابعة للمنظمة في الدفاع عن أراضيها.
في أوائل الخمسينيات، حققت القوى الاشتراكية في العالم نجاحاتٍ كبيرة بالرغم من سياسات الحرب الباردة الامبريالية. تميزت هذه الفترة بسلسلة من التراجعات لسياسات الحرب الباردة بانتهاء الحرب الكورية عام 1953 ومؤتمر جنيف عام 1954 واجتماع القمة (رؤساء حكومات القوى العُظمى) وابرام مُعاهدة الدولة النمساوية 1955. وهكذا، تصدعت مواقع الامبرياليين نتيجةً للنجاحات التي حققتها حركات التحرر الوطني. كان هذا دليلاً آخر، في المقام الأول، على قوة وازداياد الدور الذي تعلبه منظومة الدول الاشتراكية.
ان حقيقة أن هنغاريا قد أصبحت عضواً في النظام الاشتراكي الدولي يُمثل تعزيزاً كبيراً لوضع الجمهورية الشعبية. لأول مرة في تاريخها، تمكنت هنغاريا من تحقيق تقدّم هائلٍ على مدى فترةٍ طويلةٍ من الزمن كعضوٍ في مجموعة من البلدان كانت تُناضل في سبيل أفكارٍ مُتقدمة جداً من أجل الرخاء والسلام للانسانية جمعاء. وبسبب انجازاتها الاقتصادية وسياساتها المُحبة للسلام، وجدت هنغاريا الطريق للخروج من العُزلة وحققت سُمعةً دولية. كنتيجة لهذه السياسة، أقامت جمهورية هنغاريا الشعبية علاقات دبلوماسية مع 41 دولة وعلاقات تجارية مع 91 دولة خلال فترة 12 عاماً بعد الحرب العالمية الثانية. في تلك الفترة، أصبحت الدولة الهنغارية وأجهزتها أعضاءاً في حوالي 300 مُنظمة حكومية دولية اجتماعية واقتصادية وثقافية وعلمية وصحية ورياضية وغيرها من المُؤسسات الدولية. بعد ثماني سنوات من النضال، احتلت جمهورية هنغاريا الشعبية مقعدها المُستحق في الأمم المُتحدة في خريف عام 1955.
أصبحت حقيقة أن هنغاريا تنتمي الى منظومة الدول الاشتراكية احدى الشروط الأساسية لازدهارها الاقتصادي. على الرغم من أن هنغاريا فقيرة من حيث موادها الخام، الا أنها تمكنت من انشاء صناعة مُتقدمة قامت على أساس المواد الخام السوفييتية. يُمكن للأرقام ذات الصلة أن توضح هذه النقطة. كانت حصة الاتحاد السوفييتي في الواردات السنوية لهنغاريا 28.2%، وكان الرقم المُقابل للصادرات الى ذلك البلد 32.2%. كانت الغالبية العُظمى من عمليات الاستيراد من الاتحاد السوفييتي عبارة عن مواد خام. من المواد الخام المُستخدمة في هنغاريا عام 1955، (المستورد نسبةً الى المحلي) خام الحديد 71%، الحديد عالي الكربون Pig Iron 80%، الرصاص المسبك 30%، 81% كبريت، 81% الفوسفات الخام، 77% صودا، 30% مطاط صناعي، 80% خشب الصنوبر، 55% من القُطن الخام. في الوقت نفسه، شكّلت الآلات والمُنتجات الهندسية أكثر من 50% من الشُحنات الهنغارية الى الاتحاد السوفييتي، وهو رقم يُقارب 20% من ناتج الصناعات الهندسية الهنغارية.
ان تطور وقوة منطومة الدول الاشتراكية، والصداقة والتعاون الرفاقي الذي نشأ بين شعوب البلدان الاشتراكية كانت عوامل حاسمة في الدفاع عن الاستقلال الوطني وازدهار الشعب الهنغاري، والاحترام المُتزايد الذي تمتّع به على الساحة الدولية.
ومع ذلك، لم يكن التطور الاشتراكي عمليةً مُتواصلةً تخلو من العقبات لا في هنغاريا ولا في البُلدان الأُخرى. ان هزيمة برجوازية البلاد، وشن صراع مُستمر ضد الامبريالية الدولية بأسسها المادية القوية، وايجاد أفضل الطرق المُمكنة نجاحاً لبناء عالمٍ جديد في ظل ظروف التخلف الاقتصادي،، يتطلب انجاز مهام شاقة للغاية، حتى من منظور تاريخي. نحن نعلم اليوم جيداً أن الجهود المبذولة لايجاد الطريق الصحيح قد أدت أيضاً الى أخطاء جسيمة، وانحرافات غير ضرورية وتضحيات كان من المُمكن تجنبها في العقد الأول من البناء الاشتراكي.
لقد فرضت الحرب الباردة التي شنها الامبرياليون على الدول الاشتراكية، وأعباء تطوير الامكانات الدفاعية حِملاً ثقيلاً على عاتق الشعوب التي قدّمت بالفعل تضحيات كبيرة في أعمال البناء الاشتراكي. نتيجةً لذلك، لم تكن الدول الاشتراكية قادرة على ضمان زيادة مستويات المعيشة بما يتوافق مع أهدافها المُعلنة والمُخططة. كل هذا أدى الى خلق توتر مُعين داخل منظومة الدول الاشتراكية أيضاً.
حاول الأعداء الخارجيون والداخليون استغلال منطق التوتر هذا لأغراضهم الخاصة. لم يترددوا في الحاق الأذي اينما وجدوا أي فرصة لذلك. في أعمالهم، أسندوا دوراً خاصاً الى الاستفزاز المُسلح يوم 17 حُزيران عام 1953 في برلين والذي تم تنظيمه تحت اسم "اليوم-X" Day-X. على الرغم من احباط هذه المُحاولة بالذات، الا أنهم استمروا في شغل أنفسهم بالتخطيط لأعمال جديدة باستخدام تكتيكات وأساليب مُختلفة. سعت أجهزتهم الدعائية الى زعزعة وحدة البُلدان الاشتراكية وجعل الظروف أكثر صعوبةً لبناء الاشتراكية في كل دولةٍ على حدا من خلال مُمارسة ضغط سيكولوجي مُستمر.
كشف المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عن عددٍ من العوامل المُقلقة في حياة الدول الاشتراكية والعلاقات بينها، وأشار الى سُبل القضاء عليها. ومع ذلك، فان النقد والبرنامج الصحيحين للمؤتمر لم يتبعهما على الفور التدابير اللازمة لتنفيذه. ارتبك بعض الشيوعيين من الاستنتاجات الجديدة واستغرق الأمر بعض الوقت حتى يجدوا الأساليب الصحيحة لتصحيح الأمور.
بدأ قدر كبير من الفحص النقدي بعد المؤتمر العشرين في صفوف الاشتراكيين الهنغاريين. كما ظهرت القُوى المُعادية للحزب في أثناء هذه العملية. مُستغلةً الوقت اللازم لترجمة أفكار المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي الى واقعٍ عملي، شنّت الامبريالية الدولية هجوماً فورياً ومُركزاً على القانون والنظام في جمهورية هنغاريا الشعبية.

الفصل الثاني: مذاهب "الاحتواء" و"التحرير"- الحرب السياسية (1947-1954)

كانت الامبريالية، منذ انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العُظمى، تسترشد بالمبادئ السياسية التي تهدف الى تعزيز النظام الرأسمالي العالمي والقضاء على الاشتراكية. في سياق الصراع الذي خاضه الامبرياليون لتحقيق هذه الأهداف السياسية، سعوا الى مراعاة التطور في علاقات القوة بين جميع الأوقات. كان البيان الذي أصدرته لجنة راديو أوروبا الحُرة في ربيع عام 1956 مؤشراً على الطبيعة الثابتة لهذا النهج. "قد تكون تكتيكات الحرب الباردة مُتغيرة مثل طقس شهر نيسان، لكن الطبيعة الأساسية والاستراتيجية والأهداف تظل دون تغيير"(1). وفقاً لهذا القول المأثور، تم تبنّي التدخل العسكري المفتوح والحصار الاقتصادي والضغط الدبلوماسي والتهديدات والاستفزازات السياسية.
بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصةً خلال فترة تعزيز منظومة الدول الاشتراكية، شن الامبرياليون حملةً واسعةً ضد الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية. كانت الدوائر السياسية القيادية في الولايات المُتحدة في طليعة اولئك الذي يصيغون ويطبقون سياسات الحرب الباردة.
مُسترشدةً بأفكار الاوليغارشية المالية الأمريكية للسيطرة على العالم، بدأت الأوساط القيادية الأمريكية أنشطةً تخريبية موجهة ضد الدول الاشتراكية. أصبحت هذه الأنشطة أهدافاً، وتم رفعها الى مُستوى السياسة الحكومية. لقد كانت هذه الأهداف محوريةً في نظام التحالف بين الدول الرأسمالية.
علّق غرايسون كيرك Grayson Kirk رئيس جامعة كولومبيا على سياسة "الاحتواء" في مجلة السياسة الخارجية الأمريكية Foreign Affairs في عدد تشرين الأول عام 1964: "ان تحديد الاتحاد السوفييتي باعتباره خصمنا الأكبر، والضعف العسكري لجميع دول المُحيطة به، أجبرنا على توسيع سياسة الاحتواء الى أبعادٍ عالمية".
كان جورج كينان، الدبلوماسي الأمريكي المعروف، هو أول من صاغ الجوهر والمبادئ الأساسية لسياسية "الاحتواء" في مقالٍ منسوبٍ الى "مجهول" ونشره في عدد حُزيران عام 1974 في مجلة Foreign Affairs. في رأي كينان، يجب على الولايات المُتحدة أن تستمر في اعتبار الاتحاد السوفييتي خصماً وليس شريكاً على الساحة السياسية: فقد اقترح أنه يجب أن تتم مواجهة الروس بقوة مُضادة حازمة في مُختلف النقاط الجُغرافية والسياسية المُتغيرة باستمرار. ان الحصار الاقتصادي وبناء شبكة من القواعد العسكرية، على سبيل المثال، هي عناصر من هذه القوة المُضادة وتقوم الاستراتيجية العسكرية على احتكار السلاح النووي.
تم اعلان مبدأ ترومان عام 1947 باعتباره وسيلة "الاحتواء" السياسية، أما خطة مارشال بين عامي 1947-1948 هي الأداة الاقتصادية لتحقيقه، وفي عام 1949 تم انشاء منظمة حلف شمال الأطلسي (النانو) كُتلةً عسكريةً عدوانية بمثابة الأداة العسكرية. نجحت الولايات المُتحدة، تحت رعاية الناتو، في تجميع الدول الرأسمالية تحت قيادتها في تحالفٍ عدوانيٍ ضد الاشتراكية.
كان كُل قرار اتخذته هذه المُنظمة مُشبعاً بموقفٍ عدواني، وكانت خُططها العسكرية تضع في اعتبارها احتمال اندلاع حرب عالمية تبدأ في أي وقتٍ حتى عام 1954. وسُرعان ما اندلعت الحرب الكورية، التي حظيت بالدعم الأمريكي في بادئ الأمر ثم لاحقاً بتدخل عسكري أمريكي مُباشر في عام 1950. على الساحة الأوروبية، بدأت الولايات المُتحدة باعادة تسليح ألمانيا الغربية. كان من المُقرر أن يكون هذا البلد الخط "الدفاعي" الأقوى، لحلف شمال الأطلسي في الشرق.
ان السياسة العدوانية التي انتهجتها الولايات المُتحدة ضد الدول الاشتراكية تمت صياغتها في الكونغرس بوضوح. في كانون الثاني عام 1950. تبنّت لجنة الدفاع "مرسوم لودج" Lodge Act الذي قدمه السيناتور كابوت لودج Cabot Lodge. لقد أقر هذا المرسوم بأن يتم انشاء "فيلق أجنبي" بموجب المُخطط حيث من المُقرر تجنيد وتسليح 12500 شخص من بين العناصر الرجعية والفاشية الذين هربوا من أوروبا الشرقية حتى عام 1953، وتقرر لاحقاً زيادة العدد الى 25000 شخص بحلول عام 1955.
تم تمرير القانون الأساسي الثاني في عام 1951. اعتمد الكونغرس المادة 101 أ من مشروع قانون الأمن المُشترك في 12 تشرين الثاني 1951، وأجاز انفاق 100 مليون دولار سنوياً على أنشطة "أي أشخاص مُختارين، مُقيمين أو فارين من الاتحاد السوفييتي وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا ورومانيا وبُلغاريا وألبانيا وليتوانيا ولاتفيا واستونيا... لجعل مثل هؤلاء الأشخاص كعناصر من قواتٍ عسكرية تدعم مُنظمة حلف شمال الأطلسي أو أغراض أُخرى". واتضح من التعليقات التي أدلى بها أعضاء مجلس الشيوخ في مناقشة القانون أن "أغراض أُخرى" تعني التجسس والتخريب والتآمر(2). وفي صيف عام 1956 وافق الكونغرس على مبلغ اضافي قدره 25 مليون دولاء لتكملة الـ100 مليون دولار الأولى.
شكّلت كل هذه الاجراءات تهديداً مُباشراً لأمن هنغاريا الاشتراكية وحياتها السلمية. شاهدٌ على هذا التهديد عدة خطوات شيطانية اتخذتها الدوائر القيادية في الولايات المُتحدة ضد جمهورية هنغاريا الشعبية. على سبيل المثال، في مُذكرة يعود تاريخها الى 5 تموز عام 1951، أعلنت ادارة الولايات المُتحدة المادة 7 التي تضمنت جوهر اتفاقية الصداقة والتجارة والقُنصلية المُبرمة في 24 حُزيران عام 1925، والتي أُعيد تجديدها في آذار عام 1948 بأنها لاغية وباطلة. بدأت اذاعة أوروبا الحُرة بثها المُلتهب، وأُعيد تنشيط المُهاجرين الهنغاريين الرجعيين وتم امداد منظماتهم بمساعدات مالية كبيرة. كتبت مجلة المُهاجرين العسكريين الفاشيين الهنغاريين (على درب الجيوش) Hadak útján، كتبت بثقة في عددها الصادر في أيار عام 1951: "يُمكن للقوة المُسلحة وحدها أن تفتح الطريق أمام عدد أقل من الهنغارييين للعودة الى وطنهم... ولدينا سبب وجيه للاعتقاد بأنه مع تطور العلاقات الدولية، فان القوة العسكرية الأمريكية ستفتح الطريق أمامنا للعودة الى الوطن".
ولكن في أوائل الخمسينيات، سيكون هناك منظومة دول اشتراكية قوية تضم عدداً من الدول الأوروبية والآسيوية تقف في وجه سياسات الحرب التي تنتهجها الولايات المُتحدة. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بُذِلت لتحقيق الهدف الرئيسي المُتمثل في "الاحتواء"، الا أن هذا الهدف لم يتحقق. اضطر ايديولوجيو "الاحتواء" ونتيجةً لخيبة أملهم، بالقيام بعملية اعادة تقييم مؤلمة لمبدأهم وتوصلوا الى استنتاج أنها سياسة تعرضت لانتكاسة كبيرة. لقد مثّل انشاء النظام الاشتراكي العالمي الصورة الجوهرية لفشل هذه السياسة(3).
كان لانتهاء الاحتكار النووي وحقيقة أن أمريكا لم تعد منيعةً أثر بليغ على الامبرياليين. لقد ترك الاعتراف بهذه الحقائق انطباعاً كبيراً جداً على الرأي العام الأمريكي بأسره. كتب المؤرخ الأمريكي دينا فليمينغ Denna Fleming الاستاذ في قسم العلاقات الدولية في جامعة فاندربيلت في ولاية تينيسي، أن الشعب الأمريكي أدرك أن فترة الأمان الكبير الذي عاشه تحولت الى فترة خطرٍ عظيم، بين ليلةٍ وضُحاها"(4).
أدرك أولئك الذين فكروا بشكل أكثر عقلانية أنه لا مفر من السلام. لكن سعت الدوائر الامبريالية الحاكمة الى أساليب وتكتيكات جديدة. أعلن دوايت ايزينهاور وجون فوستر دالاس المبدأ الرئيسي للسياسة الجديدة مذهب "التحرير" خلال الحملة الرئاسية لعام 1952 في الولايات المُتحدة. لقد وصفوا تلك الدول المُنخرطة في بناء الاشتراكية بأنها "دول أسيرة" وتعهدوا بالعمل على مُساعدة جميع الأمم الأسيرة على المُقاومة.
في خطابٍ ألقاه ايزينهاور في سينسيناتي في 21 أيلول عام 1952 صرّح فيه أن "هذه المبادئ تتطلب استخدام كل تكتيكٍ سياسيٍ واقتصاديٍ ونفسي". وفي خطابٍ ألقاه في ترينتون في 17 تشرين الأول عام 1952، وجّه نداءاً خاصاً الى مُنظمات المُهاجرين الفاشية الهنغارية وتعهد ببذل كل ما في وسعه لتحرير الهنغاريين "المُعَذّبين والمقهورين".
بعد وقتٍ قصيرٍ من توليه منصبه، أرسل الرئيس ايزينهاور رسالةً الى الكونغرس في 20 شباط عام 1953 حول "التضامن مع الشعوب المُضطهدة". تم تبني هذه الرسالة كقرار من قِبَل الكونغرس في 26 شباط حيث أعد لذلك خطاب لوزير الخارجية فوستر دالاس في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. واتخذ الكونغرس قراراً مُماثلاً في شهر آب عام 1955.
في 25 كانون الثاني عام 1954 أرسل ايزينهاور رسالة تحيةٍ الى مؤتمر الرابطة الدولية للفلاحين مُعرباً عن تقديره للنتائج التي حققها قادة المُهاجرين الفاشيين الرجعيين في مجال "تحصيل المعلومات" والذين كانوا من خلالها يخدمون سياسة "التحرير".
في رسالته بخصوص "عيد الميلاد" التي اكتسبت سُمعةً مشكوكٌ فيها لاحقاً، صاغ الرئيس الأمريكي سياسته مرةً أُخرى بعبارات واضحة جداً: "لقد كان التحرير السلمي للبلدان الأسيرة ولا يزال-وحتى يتحقق النجاح-الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية للولايات المُتحدة"(5).
تحدث جون فوستر دالاس في خطاباته وفي المؤتمرات الصحفية في 9 كانون الثاني عام 1956 وفي 26 حُزيران و11 تموز من نفس السنة عن "آماله الكبيرة". من وجهة نظره، حدثت تغيرات واعدة للغاية في الدول الاشتراكية. جعلت هذه التغيرات من المُجدي للولايات المُتحدة أن تُخاطر، اذا لزم الأمر، بحصول حروب محلية صغيرة وأن لا تخاف من الانتقال الى "حافة الحرب". قال وزير الخارجية دالاس في مُقابلةٍ أجرتها مجلة Life في 16 كانون الثاني عام 1956 أن القدرة على الوصول الى حافة الحرب دون الدخول فيها هو فن ضروري، وأضاف أنه اذا حاول المرء أن يبتعد عنها-أي عن الحافة، أو كان خائفاً من الدخول في الحرب، فانه سيضيع.
أثار هذا التصريح آمالاً كبيرةً بين قادة المُهاجرين الرجعيين.
بعد اعلان سياسة "التحرير"، هرع جيش حقيقي من الخُبراء لمساعدة ادارة الولايات المُتحدة، وتم نشر أعمال تُناقش استراتيجيات وتكتيكات هذه السياسة بكمييات كبيرة. اعتقد مؤلفيها أن نظرية "الاحتواء" أخطأت في كونها كانت "سلبيةً للغاية ودفاعية صرف فيما يتعلق بالجانب الاستراتيجي". لقد انتقدوا حقيقة أنها لم تهدف الى احداث أي تغيير في الوضع القائم. في كتابٍ بعنوان "الاحتواء أم التحرير؟" Containment´-or-Liberation? تم نشره عام 1953 ذكر جيمس برنهام James Burnham أن سياسة "الاحتواء" يجب أن تُشكل دائماً جزء لا يتجزأ من خُطة هجومية أوسع نطاقاً ويجب انتظار اللحظة الأكثر مُلائمةً للبدء بزمام المُبادرة والانتقال الى الهجوم، وبدون ذلك لن يحدث أي انتصار.
انطلق دُعاة "التحرير" من فكرة أنه يجب اجبار الشيوعية على الانسحاب خلف حدود عام 1939 وأنه يجب تحرير "الدول الأسيرة" بالسلاح أو بطريقة "سلمية"، باستخدام وسائل عسكرية واقتصادية ونفسية ودبلوماسية في جميع المجالات الهامة(6).
من وجهة نظر جورج كينان، احتوت فكرة "التحرير" على هدفٍ مُزدوج: الاطاحة جُزئياً بالسلطة السوفييتية في كل مكان، بما في ذلك الديمقراطيات الشعبية، وجُزئياً أن تدمير هذه السلطة يجب أن يُصبح هدف السياسة الخارجية النَشِط للحكومات الغربية، على وجه الخصوص، ادارة الولايات المُتحدة. فقد كتب أن التحفيز اللازم لهذا الغرض يجب أن يُعطى من الخارج وليس من الداخل.
ان هذا الرأي يُعبّر بشكلٍ كاملٍ عن الطبيعة العُدوانية والتهديد الخارجي الذي شكلته سياسة "التحرير" على الدول الاشتراكية. لقد اعترف كينان، الذي يُعتَبَر سياسياً حذراً ومُعتدلاً وغالباً ما يُشار اليه على أنه مؤيد لفكرة التعايش السلمي في الغرب، وبمعنىً ما، بأن التدخل النشط في الشؤون الداخلية لدولٍ أُخرى كان لا غنىً عنه لتنفيذ سياسة "التحرير". وذكر أنه لا يُمكن الاطاحة بالسُلطة السوفييتية اذا فشلت الجهود المبذولة في لهذا الغرض في الحصول على مُساعدة من نوعٍ ما من الحركة السياسية الداخلية القوية. كان مُتفائلاً جداً بشأن هذا الجُزء المُحدد لانه كان يعتقد أن الأصدقاء على الجانب البعيد من "الستار الحديدي" كانوا يتوقعون التشجيع والارشاد(7).
عزّز قادة وكبار ايديولوجيي الامبريالية الدولية الأمل في أن الغالبية العُظمى من سُكان الديمقراطيات الشعبية تُعارض السُلطة الاشتراكية وأن هُناك فجوة واسعة بين "الحكومة والشعب". ووفقاً لوجهة نظرهم، فان هذا يخلق ظروفاً مواتية لتطور حركة "مُقاومة" كُبرى ستُزعزع أسس النظام الاشتراكي. لقد أكدوا مراراً وتكراراً أنه يجب استغلال كل خطأ وصعوبة وتذبذب يحدث في عملية البناء الاشتراكي على أكمل وجه.
واعتُبِرَت مسألة اضعاف الصداقة بين الشعوب المُنخرطة في البناء الاشتراكي بكُل الوسائل المُمكنة وتقويض تكاتفها، ذات أولوية قُصوى. وفقاً لسلسلة من المقالات التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز (18، 21، 32 نيسان 1956)، كانت المُهمة هي استغلال الاختلافات في الرأي والمصالح المُتناقضة لشعوب أوروبا الشرقية. كان في نيتهم فصل العناصر المُكونة لمنظومة الدول الاشتراكية، وتدمير انجازات الاشتراكية واحدةً تلو الأُخرى في كل بلدٍ على حدة بعد فصلها عن المنظومة. لقد اعتبروا أن هُناك ثلاثة عوامل تُساعدهم على تحقيق أهدافهم:
1- القُوى الداخلية في كل دولةٍ على حدة: أ- الجماعات الرجعية. ب- الصعوبات الداخلية. جـ- البلبلة الداخلية وسَخَط الناس.
2- القُوى التخريبية داخل المُجتمع الاشتراكي: أ- الخلافات بين الدول التابعة للمنظومة، وخصوصاً الخلافات مع الاتحاد السوفييتي. ب- الأجواء المُعادية للسوفييت. جـ- القومية.
3- القُوى الخارجية: أ-تصميم العالم الرأسمالي وقبل كُل شيء، الولايات المُتحدة لتحقيق هذا الهدف. ب- الأنشطة التخريبية التي تقوم بها الأجهزة الامبريالية.
من حيث الجوهر، كان مذهب "التحرير" سياسةً حربية. لقد دعا الى تبني نهجٍ عسكريٍ جديد من أجل ترجمة الأفكار الى واقعٍ عملي. شَهِدَ عام 1953 ولادة "النظرة الجديدة" حول الحرب. لقد هَدفت الى توسيع دور الأسلحة النووية وضمان الاحتياطات الاستراتيجية للحرب "المحدودة". هدّد قادة الولايات المُتحدة بـ"الثأر" في حالة نشوب صراع في أي جُزءٍ من العالم. واصلت المفاهيم الجديدة فكرة زيادة الضغط على الدول الاشتراكية، وقبل كل شيء، على الاتحاد السوفييتي، من خلال تكثيف التهديد العسكري.
في كتابه المنشور عام 1954 قدّم توماس فينليتر Thomas K. Finletter صياغةً جديدةً للهدف المُشترك في "التحرير" و"النظرة الجديدة": "هدفنا السياسي والنتيجة التي نُريدها في في الناتو... هو دحر القوة الروسية ليس فقط في بُلداننا، ولكن في الدول المُستَعبَدة التابعة لها أيضاً، بل وفي روسيا نفسها كذلك... نأمل كثيراً في الواقع أن يتم تدمير الشيوعية الروسية بطريقةٍ ما... نأمل أن تنهار وسنُساعد على تدميرها اذا استطعنا"(8).
اعترف جورج كينان أيضاً "... نحن نتحدث عن مسارٍ سياسي، اذا دعمناه بما يكفي، فانه سيؤدي بموجب كل قوانين الاحتمالات الى نشوبِ حرب".
انه يعزف في كتابه نوعاً من "اللحن السلمي"، ويقوم بناءاً عليه باكمال موقفه بالعبارة التالية: "... لقد مضى زمن الحروب الشاملة... ومن الآن فصاعداً فان العمليات العسكرية المحدودة هي الوحيدة التي يُمكن أن تخدم أي هدف مرجو"(9).
هكذا تمت صياغة سياسة "التحرير" التي يُمكن تنفيذها "بحربٍ موضعية". عارض الكثير من الشخصيات الحرب الشاملة لان علاقات القوة قد تغيّرت. اقترحوا بدلاً من ذلك، حرباً خاصة، بمعنىً آخر، حرباً سياسية أو نفسية، وفقاً لعمل جيمس بورنهام المُشار اليه سابقاً، فانها البديل الوحيد للحرب النووية الشاملة.
تم نشر عدد غير قليل من الدراسات والمقالات حول الحرب السياسية أو النفسية في المقام الأول في الولايات المُتحدة وفي ألمانيا الغربية وبريطانيا وفرنسا. تم تلخيص وتعريف الحرب السياسية التي تم تبنيها أثناء التحضير للثورة المُضادة عام 1956 في هنغاريا من قِبَل الصحفي الأمريكي المعروف جون سكوت John Scott في كتابه (الحرب السياسية) Political warfare الذي نُشِرَ عام 1955. يقول: "ان الهدف الأساسي للحرب السياسية المُدمرة هي اضعاف العدو، وتدميره، ان أمكن، عن طريق المناورات الدبلوماسية والضغط الاقتصادي والمعلومات المُضللة والاستفزاز والتخويف والتخريب والارهاب، وعزل العدو عن حُلفاءه... في حين يتم مُناوشة الحكومات الشيوعية ودق أسافين بينها وبين شعوبها..."(10).
في كتابه بعنوان (برنامج من أجل الهجوم على الشيوعية الدولية) The Programme for an Attack on World Communism، يضع الجنرال ديفيد سارنوف David Sarnoff قائمةً بالأعمال تي تنتمي الى مجال "الصراع السياسي" ضد الدول الاشتراكية، منها: أعمال الارهاب، تكثيف الأنشطة الدعائية وتقديم أقصى قدر من المُساعدة للمنظمات السرية العاملة في دول الديمقراطيات الشعبية.
وفقاً لهذا التفسير، يُمكن تعريف الصراع السياسي بأنه حملة تقوم بها الحكومات الامبريالية ضد الاشتراكية أو ضد جميع الدول الاشتراكية بكل "الوسائل السلمية المُتاحة" لها بهدف الاطاحة بسلطة الطبقة العاملة. ومن أجل هذه الغاية قام الناتو بتوحيد صفوفه تحت قيادة امبرياليي الولايات المُتحدة.
بعد اعلان مبدأ "التحرير"، شرعت ما لا يقل عن 12 وكالة حكومية وعدد أقل من المُنظمات الخاصة في التخطيط لعمليات الحرب السياسية وتنفيذها.
من بين المُنظمات الخاصة، لعبت مُنظمة (الصليب من أجل الحُرية) Crusade for Freedom التي تأسست عام 1949 دوراً بارزاً وتنسيقياً. لقد اعتمدت على الدعم الفعال الذي قدمته الولايات المُتحدة وملايين الدولارات التي جُمِعَت من المواطنين الأمريكيين لمواصلة الصراع ضد الدول الاشتراكية. انضمت الى هذه المُنظمة لجنة راديو أوروبا الحُرة، والتي ضمّت ادارياً السياسيين البارزين (ايزنهاور وجون فوستر دالاس) ورأسماليين من الولايات المُتحدة.
تم انشاء تقسيم مُحدد للعمل بين المُنظمات الخاصة والحكومية. على الرغم من أن المُنظمات الخاصة قد تم تأسيسها وقيادتها أيضاً من قِبَل سياسيين مشهورين ومسؤولين حكوميين بارزين، فقد تم تسجيلها كمؤسسات خاصة حتى يتمكنوا من القيام بحملات مُنظمة لجمع الأموال من "الأمريكيين المُتحمسين لتحقيق الأهداف النبيلة"، ومن أجل طبع نشاطهم بطابع "ديمقراطي وشعبي". ولكن تم اعتماد هذه الطريقة بشكلٍ أساسي بهدف تجنّب التقيّد بقواعد اللعبة الدبلوماسية في اختيار الوسائل والاساليب التي يجب اتباعها. تم السماح للمنظمات الخاصة لأن تعمل بُحرية تامة، بينما كان على المُنظمات الحكومية أن تكون حريصةً على مواكبة ومراعاة شكليات القواعد الدبلوماسية.
قام مجلس الأمن القومي، في زمن ادارة ايزينهاور، بتنسيق أعمال المُنظمات الحكومية والخاصة. برأي جون سكوت، كان مجلس الأمن القومي الأمريكي، هو الهيئة المُخططة والمُنسقة لأنشطة الحرب السياسية الرئيسية.
تم انشاء مجلس تنسيق العمليات Operations Coordinating Board عام 1953 تحت اشراف مجلس الأمن القومي الأمريكي لتوجيه أنشطة الحرب السياسية. كتب جون سكوت أنه منذ عام 1953، قام الرئيس الأمريكي بتكليف هذا المجلس بمهمة "زيادة التفاهم والتعاون بين الشعوب. كان من المُفتَرَض أن روكفلر هو المُخطط والمُنسق العام للحرب السياسية"(11). (شَغِلَ هذا الدور في عام 1956 ويليام جيفريث William E. Griffith).
كان هذا هو نظام التوجيه والتنظيم الذي تم من خلاله التأكد من أن المُنظمات التي تُمثل مجموعةً متنوعةً من القوى والأفكار المُختلفة للغاية يُمكن أن تكون نَشِطَة لتعزيز هدفٍ مركزيٍ واحد. هذه هي الطريقة التي أصبحت بها المُنظمات الخاصة "الأدوات الرسمية غير الرسمية" لسياسة الولايات المُتحدة الخارجية(12).

* وُلِدَ يانوس بيريتش عام 1930. بدأ حياته السياسية في عام 1955 كعضو في جمعية الشباب العامل DISZ وهي منظمة جماهيرية للشباب الهنغاري. انتُخِبَ بعد عام 1967 سكرتيراً أول للجنة الشؤون الخارجية للحزب الاشتراكي المَجَري، وأصبح في عام 1972 رئيس ادارة الشؤون الخارجية في اللجنة المركزية للحزب ومن ثم صار عضواً في المكتب السياسي في الحزب عام 1987، واتخذ خطاً حزبياً مُعادياً للاصلاحات الليبرالية الجارية والتي أسست الى تدمير الاشتراكية في البلاد.

1- The complete study was published by R. T. Holt: Radio Free Europe. Minneapolis 1958, pp. 217-231
2- Documents on American Foreign Relations, 1951. Princeton University Press 1953, pp. 128-129
3- Scott: Political Warfare- A Guide to Competitive Coexistence. The John Day Company, New York 1955, pp. 22-23
4- D. F. Fleming: The Cold War and its Origins 1917-1960. New York 1961, pp. 806-807
5- K. T. Holt: op. cit., p. 19
6- J. Burnham: Containment´-or-Liberation? The John Day Company, New York 1953. p. 138 and p. 222
7- G. F. Kennan: Realities of American Foreign Policy. Oxford University Press, London 1954. pp. 77-80 and p. 94
8- T. K. Finletter: Power and Policy. New York 1954, pp. 106-107
9- G. F. Kennan: op. cit., p. 77 and p. 80
10- J. Scott: op. til., p. 19 and p. 28
11- J. Scott: op. cit. pp. 219-220
12- R. T. Holt: op. cit. pp. 5

ترجمة
Counter-Revolution in Hungary 1956: Words and Weapons, János Berecz, Second Edition, Akademiai Kiado, Budapest 1986