سفاهة تقف خلفها مكائد سياسية


سعيد مضيه
2020 / 11 / 3 - 13:37     

سفاهة تقف خلفها مكائد سياسية

يتوجب القول ان سفاهات السخرية من الرموز الدينية الإسلامية تندرج ضمن ما بات يدعى الإسلاموفوبيا او رهاب الإسلام عبر القارات، وما يصدر عن الرئيس الأميركي ترمب من تعبير الفاشية الإسلامية ( رمتني بدائها وانسلت)، وهي ليست سوى تجليات نظرة امبريالية تعبر عن مواقف ونزعات فاشية، استعلائية تصم شعوبنا بالعجز المطلق وتصر ،من ثم، على تخليد تبعية المجتمعات العربية والإسلامية ومنعها من ولوج درب التحرر والتنمية الاجتماعية المستقلة. انها جانب من ثقافة التحريض على الشعوب العربية والإسلامية، ودعم ومساندة جهود الامبريالية للعدوان بمختلف أشكاله، لإدامة السيطرة الامبريالية.
من المعلوم ان العاطفة الدينية قوية لدرجة انها تجمد كل ما عداها إذا ما استفزت؛ فهي عاطفة تختزن قيم الكينونة البشرية، وتقدير الذات. فإذا ما استفزت تولد توترا بلا تعقل وحالة معدية، بدون محرضين، يتعاظم هيجانها وتوترها التلقائيين بمجرد انجراف الجموع في تيارها. مجرد الانضمام الى الجمهور المتوتر المهيج يتبعه تلقائيا الانجراف مع تدفق حراك شعبي، ربما نحو التدمير واستنفار رد الفعل السلطوي القمعي. ومن ثم تتناوب حالات الهيجان والإذعان ضمن دورات متلاحقة عبثية. وقد يبلغ الحراك الشعبي منعطفا صاعدا نحو التحرر الاجتماعي إن جرى ترشيده بقيادة واعية ذات نفس ثوري .
تستفز الرسوم المشاعر الشعبية وتثير الحراك الشعبي الساخط؛ بينما تنم ممارسات الرأسمالية عن كيد مضمر ورغبة مستدامة في التدمير المادي والنفسي لا تعيها الشعوب وتقصر القوى السياسية في فضحها وتعبئة الجماهير للثورة عليها ولتصفية نفوذ الامبربالية ، السياسي والاقتصادي والثقافي، داخل المنطقة بأسرها.
فعندما تنفس الجماهير عن أحقادها بقذف علب جبنة لافاشكيري ، المصنعة في مصر وقبضت الشركة الصانعة أثمانها، فغدا بالتالي ثروة خاصة او قومية . . قذفها في ترعة مائية لتتسبب في مكرهة صحية إنما هو تصرف عابث يثير التندر، إذ يهبط بالوعي ويهدر قيمة وطنية وسخط الجمهور في مكب يفسد البيئة.
ولا نستطيع إغفال المظاهرات الجماهيرية وما يتخللها من حرق أعلام وصور يراد منها رد الإهانة للدول او لأفراد نظرا لمسئوليتهم عن الرسوم المسفة ، تواطؤًا او دفاعا، كما صدر عن رئيس جمهورية فرنسا. فهذه التظاهرات تنفس عن سخط شعبي قد تمارس الضغط على المسئولين عن السخرية، دون ان تبني هيبة وطنية او قومية او دينية للمتظاهرين.
من ردود الفعل المتسمة بالتعقل ما كتبه الداعية الدكتور ناجح إبراهيم في صحيفة الوطن المصرية ، "ان كنا نحب الرسول حقاً فعلينا الاقتداء بسنته وسيرته وهديه ومسيرته، فنحن فى واد ورسول الله فى واد، أمة فيها أعلى نسب الأمية والاستبداد والصراعات والطلاق واللاجئين فكيف تنتسب للرسول، وتدعى محبته، ونصرته؟
"لن ننصر الرسول حقاً إلا إذا أعدنا الحق والعدل والعفو والرحمة والرفق والأمانة والحياء والدقة وتقديم الأكثر كفاءة وأمانة، وحاربنا الرشوة والفساد".
الى ان يقول:
" سيدي الرسول الكريم، بلّغت الرسالة وأهملناها، نشرت النور وأظلمنا الدنيا، دعوت للحق والعدل فغلبتنا أهواؤنا، دعوت للإخلاص فغمرنا النفاق...".
حقا لو جرى تمكين المجتمعات الإسلامية من قيم الدين و مكارم أخلاق بُعِث الرسول ليكملها، لتشكل مجتمع إسلامي يشع بالفضيلة، ويوحي بمهابة الاقتدار؛ غير أن هذه المكارم والأخلاق لا تنتش ولا تنمو إلا في بيئة اقتصادية – سياسية تقيم صرح العدالة الاجتماعية وتطور التعليم وترسي عادة اكتساب المعرفة. يكسب الهيبة والتقدير على صعيد كوني الظهور بمظهر يحترم إنسانية البشر الى جانب احترام العقل و العدل والحق والمصلحة العامة.
ومن ردود الفعل المتزنة دعوة الإمام الأكبر، الطيب، شيخ الأزهر، والأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، عقد مؤتمر بين الأديان يصدر عنه وجوب احترام الرموز المقدسة لدى أصحاب الديانات؛ اما الدكتور علي جمعة، مفتي مصر السابق فقارَنَ حيادية الموقف من الرسوم بتوجيه تهمة اللاسامية لمن انتقد إسرائيل ، فوبخ: "وأنتم الآن ضد 2 مليار مسلم، عيب ميصحش اختشوا".
والاستعماريون لا يختشون ، يقترفون الجرائم ويبررونها بالأكاذيب ، تكشف صحافة التقصي الأكاذيب ولا يعتريهم الخجل ولا يرتدعون عن العدوان ولا عن الكذب. كما أن الدعوات الى كلمة سواء و محاولة الردع بالقول أو بالفعل كلها تجاهلت حقيقة القصدية السياسية والإطار العام السياسي والاقتصادي المتشكل تاريخيا في بلدان الرأسمالية المتطورة. تحقير المسلمين، الذي بدأ مع البعثات الاستشراقية، تم الجهر به رسميا مظهرا لسياسات الامبريالية، في معرض "صراع الحضارات" بديلا لصراع الحرب الباردة ضد الاشتراكية! هل تبلُغ مدارك حكام التطبيع الوعي بواقع ان فكرة صراع الحضارات كانت المكافأة التي قدمها رواد الحرب الباردة للحكام ممن جندوا "المجاهدين" في أفغانستان وأمدوهم بالسلاح والعتاد وأغدقوا عليهم الأموال؟ وبعد البلاء العظيم في "الجهاد" ضد "الإلحاد" وإسقاط الاشتراكية ، العدو اللدود للامبريالية، ترك الغرب أفغانستان وشجونها لصاحب الشوكة من بين الأفغانيين، وهم كلهم حصّادون لصالح الامبريالية، فظفرت طالبان. الم يصرح بن سلمان لمجلة أميركية ان نشر الوهابية، ذلك التأويل المتخلف للديانة وشريعتها وفقهها، عمل سلاحا بيد امبريالية الغرب في تصديه الناجح للشيوعية؟! وبعد هذا يقر الإخوان المسلمون في بيان لهم أن صعوبات وقفت بوجه المسلمين مع زوال الاتحاد السوفييتي!!
وخلال " الجهاد" العظيم سمح للسعودية بإنفاق ملايين الدولارات النفطية على بناء المساجد وإرسال الدعاة من الوهابيين ضيقي الأفق كي يعرضوا لشعوب الغرب نمطا متخلفا من الإسلام يثير أحقاد غير المسلمين. كانت نتيجة الدعاية الوهابية ان انتشر اليمين المتعصب والعنصري في أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا معاديا للإسلام ومحرضا على احتلال بلدانهم واغتصاب ثرواتهم وأراضيهم باعتبارهم سفهاء مبذرين لا يؤتمنون على مصادر طاقة الغرب ومحرك صناعاته. كان الدعاة المسلمون بيادق في لعبة الأمم يحرضون على مجتمعات المسلمين، ويسهّلون تنفيذ ألاعيب الامبريالية على مسرح الشرق الأوسط، بينما هم وأشياعهم في غفلتهم يردون بنزق وانفعالية طفلية على الحاقدين ممن غذوا مشاعرهم المعادية بعروضهم المتخلفة والجامدة لدين التسامح المكمل لمكارم الأخلاق.
الظاهرة لفتت انتباه اليسار العربي منذ عقود عدة وناقشها الدكتور إدوارد سعيد معيبا على ثقافة الغرب الامبريالي التمسك برؤية ثابتة وجدت عليها المجتمعات العربية في مستهل عصر الاستشراق الأوروبي. وهي رؤية بنت عليها الامبريالية مشاريع سيطرتها الكولنيالية على الشرق. احتضنتها ولم تزل تحتضنها في ترسانتها الفكرية.
بتغييب النزعة الامبريالية الكامنة خلف سفاهات السخرية، أيا كان مظهرها وضد من وجهت، تأتي الضجة التي قامت إثر نشر الرسوم الساخرة في فرنسا، كسابقاتها ، مجرد رد الفعل التلقائي، وهو في جوهره نشاط سياسي، قد يتجسد في ظاهرة صوتية وصخب انفعالي يفرغ شحنات السخط ويعوض عن شعور بالهوان والعجز عن ردع المنكر المستفز للمشاعر الدينية؛ وقد يجري ترويج رد الفعل لمزيد من السخرية المستهينة بالمحتجين، وبمجتمعات المسلمين عامة، نظرا لان السخرية من الدين ورموزه يعتبر أمرا عاديا في مجتمعات الغرب، انتقاما من عهود سيطرة الكنيسة ومتاجرتها بصكوك الغفران أو تواطئها مع الإقطاع في النهب واستغلال أقنان الآرض في عصور خلت وانقضت. وقليل من ردود الأفعال اتسم بالحكمة والتعقل. نقول إن ردود الفعل كلها غيبت النزعة الامبريالية الكامنة خلف الرسوم المسفة والمسفهة.
يدور نشاط الاحتكارات الرأسمالية في العالم ضمن حلقة شيطانية يصعب الفكاك منها، لكن يجب كسرها: تنهب الثروات الوطنية وتمنع قيام اقتصد إنتاجي فتُدفع الجماهير في اتون بطالة مستدامة وفقر مريع ، كما تغرق البلاد بالدماء نتيجة صراعات مباشرة أوتوحي بها كي يسهل عليها نهب ثروات الشعوب، وتفرض أنظمة جائرة ورعبا عاما ، فيدفع اليأس من الخلاص من السيطرة الأجنبية وعملائها الحكام المحليين الى التفتيش عن اوطان أخرى تضمن العيش الكريم والأمن. تندفع الجموع في هجرات جماعية بدل النضال للإطاحة بحكم عملاء الاحتكارات الدولية . وفي البلدان المتقدمة يُستقبل المهاجرون بالاضطهاد العنصري والإذلال يرتدان عزلة تتشبث بالقيم القومية المتخلفة، تفصح عن عنصرية مضادة وتستحث عنصرية البيض المطعمة بالتفوق العرقي. غدا المهاجرون المهجرون من بلدانهم عامل إذكاء وتأجيج نزعات اليمين المتطرف والفاشية والنازية الجديدة في بلدان الرأسمالية المتطورة. كل ذلك يعود على الاحتكارات عابرة القوميات بأرباح أٍسطورية . في ذات الوقت أشاعت الليبرالية مفهوما للتدين يمجد القوة والثراء، وشأن التدين في المجتمعات الخارجة من العصر الوسيط ، إذ أعفى الحكومات من أي مسئولية تجاه مجتمعاتها، اعتُبِر الفقرُ والتخلفُ والانتكاساتُ السياسية عقابا من الرب على ترك الدين.الرب، في نظر لاهوتيي الليبرالية الجديدة وفقائها، لا يعاقب سوى الفقراء المنكودين بينما يكافئ بالقوة والأرباح الأسطورية أهل الثراء على طاعته!!
الظاهرة بمجملها لن تنتهي بمفعول الحكمة ولا بمفعول الصخب الانفعالي. سوف تتكرر ليس بصورة عفوية تلقائية كما يتراءى للنظرة التبسيطية السطحية؛ فهي أداة سياسية - ثقافية تحرض المتلقين، وهي أيضا وسيلة سياسية لفك اشتباك الجمهور مع قضية اجتماعية او سياسية مؤرقة، مثل نهج التطبيع مع إسرائيل أو فضيحة تقصير الليبرالية الجديدة واليمين الفاشي، اقتصادا وثقافة في التصدي لوباء كوفيد 19 أو على الأقل إظهار حالة الهيجان وما يصاحبها من أفعال خرقاء صورة يراد إشاعتها بقصد التشهير. ملهاة تطمس الصراع الحقيقي الدائر منذ اكثر من قرن بين غرب امبريالي تحدوه شهوة النهب الضاري لثروات الضعفاء القابلين بالتبعية وبين شعوب تتطلع للتحرر وبناء الحياة الجديدة المستقلة و المتقدمة.
أرسى عصر السيطرة الامبريالية المباشرة نظرة عنصرية فوقية، شوهت وعي المجتمعات المتقدمة بالعنصرية ، تجلت بادئ ذي بدء بادعاء رسالة تحضير الأمم المستعمَرة. ولا يجوز ان يتواصل إغفال ترسبات العلاقة بين الامبريالية والتخلف في تحويل الامبريالية المجتمع العربي الى ما أسماه الدكتور هشام شرابي "مجتمع أبوي محدّث" ، اتسم باللاعقلانية والعجز، ويقاوم التقدم والوحدة القومية. مضى أكثر من قرن من الزمان وبقيت البلدان العربية في ظل النظم الأبوية على تبعيتها وتخلفها، بينما طورت امبريالية الغرب نظرة عنصرية فاشية تدعي تفوق العرق الأبيض وتحْكم على المجتمعات التابعة ليس مجرد الخضوع لعلاقة التبعية ، إنما اعتبرت فضلات بشرية يجب التخلص منها ، بتركها لعوامل الإبادة.
دلت الوقائع المترتبة بعد زوال السيطرة المباشرة للامبريالية عن المجتمعات العربية عن نظام أبوي جعل الناس تحن الى الماضي الاستعماري؛ فقد ابتليت بأنظمة أبوية لم تعرف حدودا للقهر واستباحة الحريات العامة وهدرت الكرامة الإنسانية. "ومن استبيحت إنسانيته سوف يستبيح كل شيء حين تحين الفرص. وأحداث الاضطرابات خير شاهد، حيث التلذذ بالقدرة على الهدم والهدر. نزوة الموت الوجودي التي فتكت بكيان الميليشيات تعود فترتد على أيديهم تدميرا للعمران" ، حسب استخلاصات علم النفس الاجتماعي. [الانسان المهدور: 247]. سلطوية الأبوية منعت تجذر العقلية العلمية في الشخصية العربية، فملأت فراغ المعرفة العلمية بالخرافات وبالسحر والشعوذات بها تفسر الظواهر؛ بيئة صالحة لنمو الخرافة والشعوذة، لا عقلانية تنظم النشاطات الفردية الاجتماعية والسياسية، وترتد العواقب عجزا وقصورا وهزائم. الدولة ذات النظام الأبوي المحدث ليست سوى سلطنات قديمة محدثة، حدثت أجهزتها القمعية ومراقبتها لجمهورها وفق أرقى مستويات العلوم والتكنولوجيا . الابوية تهدر المؤسسات والثروات لإشباع نزواتها؛ تتصرف بها وكأنها ملك شخصي. .. تهدر المؤسسات والثروات ويتم الاستفراد بالإنسان وكيانه من خلال تجريده من كل مرجعيات القوة والمنعة والحقوق. كل ذلك بات أمرا طبيعيا لا يستفز مشاعر الجمهور ، لا يستنفر حراكها الاجتماعي ولا يحث فصائل التغيير الاجتماعي على التشهير به والتجييش ضده.
حلقة شيطانية يتوجب كسرها وبالسرعة القصوى، لبناء مصادر القوة الذاتية والمهابة القومية ، الاقتصادية والسياسية والثقافية، قوة واقتدارا رادعين ، أفضل من التوتر وتهييج ردود الفعل العشوائية. ترتفع مداميك الاقتدار الذاتي على أساس من الوعي الشعبي المتجاوز للرغبات البدائية ، المتمكن بمفهوم الضرورة يملي على النشاط البشري سلوك وجهة واعية تدرك الحس السليم ومنطق السببية. ذلك هو الأساس المتين من منطوياته ‘الحكمة الشعبية’، خصوصا ذلك القسم منها الذي يمكن تسميته "واقعية الإدراك "، او " الفلسفة الشعبية"، التي تبنى فوقها الفلسفة العلمية.