الانتخابات الامريكية: دستور 1789 على المحك


محمود محمد ياسين
2020 / 11 / 3 - 02:43     

من اجل تحفيز وتحشيد الناخبين اعتاد المرشحون للرئاسة في أمريكا يعلنون أن دورتهم الانتخابية هي الأهم من كل الدورات الانتخابية السابقة. لكن في ضوء التطورات السياسية التي تشهدها أمريكا توجد أسباب وقرائن حقيقية تجعل انتخابات الرئاسة الامريكية (2020) تحظى بأهمية قصوى وقد تكون نقطة فارقة في التاريخ السياسي الأمريكي الحديث.

إن المشهد السياسي الأمريكي، الذي يتصدره الحزبان الديمقراطي والجمهوري، اللذان يتبادلان الحكم عن طريق الديمقراطية الجفرسونية الليبرالية الشكلية، تسوده خلال السنوات الأخيرة صراعات حادة تدور على صعيدين. فمن جهة، فأن التفاهمات والتوازنات التي ظلت عبر السنين تحكم العلاقة بين الحزبين تشهد تصدعا حاداً وسط الازمات التي ما فتئت تضرب الاقتصاد الأمريكي خلال العقود الأخيرة. وصراع الحزبين يدور حول تبوء السلطة لحماية المصالح المتضاربة للفئات الرأسمالية المختلفة التي يمثلانها.

ومن جهة أخرى، يزداد التناقض بين رأس المال والعمل المأجور الذي يؤججه نظام يركز أربعين فى المائة من الثروة فى يد واحد فى المائة من السكان. وهذا يفسر التململ مؤخراً وسط التسعة وتسعين فى المائة الآخرين وإحتجاجهم على سطوة راس المال كما حدث في حركه-احتلوا وول ستريت- (occupy wall street) في سبتمبر2011، وحتى المظاهرات والاضطرابات العنيفة، التي تشهدها المدن الأمريكية منذ يونيو 2020، كان محركها الأساس هو التذمر الجماهيري من الواقع السياسي والاجتماعي المنحاز للأولغاركية المالية الحاكمة على حساب مصالحهم الحياتية؛ ولم يكن اقتصار الاحتجاجات الأخيرة على رفع شعارات ديمقراطية مناهضة للعنف الذى تمارسه الشرطة، الا ستارا يخفى دوافعها السياسية.

لا يكمن أن يكون الحديث وتقويم ما يجرى في الساحة السياسية كالانتخابات الرئاسية الامريكية (2020) جادا الا باعتبار الخلفية الحقيقة التي لا جدال حولها وهى ولاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كما اشرنا أعلاه، للنظام الرأسمالي والدفاع عنه والحفاظ على ديمومته: فالحزب الديمقراطي هو الاقرب لسوق وول ستريت المالي (wall street) من المحافظين في الحزب الجمهوري الذين ينادون بدعم القطاعات الإنتاجية لزيادة معدلات الثروة وبالتالي التخلص من الدين العام وتقليل استحقاقات الرفاهة الاجتماعية، فهم لذلك يتجهون للاقتراب من مين ستريت (main street) ومين ستريت لفظ كنائي (metonym) يعبر عن الاقتصاد الحقيقي المنتج المتمثل في التجارة والصناعة. هذا ملمح أو جزء من الفوارق بين الحزبين بجانب اختلافات أخرى بينهما تتعلق بنشأتهما والتوزيع الجغرافي للطبقة الرأسمالية. والحزبان في تناقض عميق مع نقيضهما، أصحاب العمل المأجور.

بعودة الى ماضي الدورات الانتخابية الامريكية السابقة نجد أن الحزب الديمقراطي ظل يوجه نشاطه الانتخابي نحو القطاعات الامريكية التي تنشد التغيير وفى طليعتها العمال والمكونات الاجتماعية الأخرى التي تعاني من سطوة الاوليغاركية المالية؛ وفى هذا الخصوص يستخدم الحزب الديمقراطي كيانا واسعا يتشكل من الوسط الأكاديمي والاعلام والسليكون ڤالى (Silicon Valley) في الهجوم على الحزب الجمهوري. وهذه الكيانات تتوشح بشعارات يسارية غير أنها لا تحمل أي توجه تقدمي سياسيي؛ وهي شعارات يقتصر موضوعها على عزل الحزب الجمهوري من الحياة السياسية (والاجتماعية) ويأتي تحركها في إطار من الشعبوية والفوضوية الداعية الى إذابة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بدون طرح أي تصور للكيفية التي يتحقق بها هذا، وإلى حل قضايا النوع والعنصر بتعزيز سياسات الهوية بدلاً من تجاوزها لصالح ما يوحد شعوب الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن خلال العقود الأربعة الأخيرة ظل العمال يفقدون كثيراً من المكاسب التي أحرزوها في الماضي (في السنوات الأولى من النصف الثاني من القرن العشرين)، بالإضافة الى انخفاض أجورهم الحقيقية خلال نفس الفترة نتيجة التراجع في مضمار الإنتاج الصناعي؛ وقد أدى هذا الى فقدان العمال الثقة في القيادات النقابية الموالية للديمقراطيين. وهكذا استثمر ترمب هذا الوضع لصالحه في حملته الانتخابية في 2016 (التي صعدته للرئاسة) حيث وجه نشاطه الانتخابي نحو الكتلة الاقتراعية التي يشكلها العمال ووعوده لهم برسم سياسات ترمى لتوفير فرص العمالة ما جعله يحظى بسند كبير في الولايات المعروفة بولايات حزام الصدأ (rust belt states) التي شهدت تراجعاً في العمالة نسبة لتراجع التصنيع.

والآن إذا تقدمنا الى الامام نجد أن الحزب الديمقراطي أطل على الناخبين في الدورة الانتخابية الحالية بتصورات أكثر (يسارية) من السابق؛ ولكنها تصورات مجردة ومجرد مزاعم. فمؤخرا برزت كتلة داخل الحزب الديمقراطي تدعوا لبرنامج يعرف ب ( الصفقة الجديدة الخضراء-New Green Deal) يهدف لإحلال الطاقة النظيفة والمتجددة محل الوقود الأحفوري (fossil fuel) بصورة كاملة في غضون عشر سنوات وزيادة الضرائب (70%) على الأغنياء والالغاء الكامل لديون الطلاب وتأمين الدراسة الجامعية المجانية ومجانية الخدمات الصحية وإعادة تصميم جميع المنازل لتكون قادرة على التقليل من آثار التغيير المناخي (weatherization of homes). وتقدر تكلفة الصفقة الجديدة الخضراء ب أكثر من 90 تريليون دولار.

فكما هو واضح فأن الصفقة الجديدة لا تتعدى ان تكون حلما ومزايدة سياسية؛ وان إمكانية تطبيق برامجها في ظل الوضع السياسي الراهن في أمريكا يعد مراهقة سياسية لو بعث شارل فورييه أو سان سيمون حيا لبدت غريبة على عقله الممعن في الطوباوية. وحتى الاتحاد الفيدرالي الأمريكي للعمل، (AFL) الذي يضم ضمن عضويته اهم النقابات العمالية ويعرف بارتهان ارادته للحزب الديمقراطي الذي يسانده في معاركه ضد الجمهوريين الذين يدعون لتقليص العمل النقابي، وجه نقدا حادا للصفقة الجديدة على أساس انها لا تشتمل على مقترحات محددة تتعلق بحقوق العمال ومستقبل بعض الصناعات الاستراتيجية (الإشارة هنا للصناعات البترولية وغيرها التي تستهدفها الصفة).

ان الإجراءات المتعلقة بالمناخ والمشاريع المقترحة مشاريع كبيرة في بلد ضخم ومسألة تحقيقها قضية سياسية تتطلب إعادة صياغة علاقات الملكية السائدة الشيء الذي يتناقض مع مصالح النظام الرأسمالي؛ والصفقة الجديدة الخضراء لا تمثل للحزب الديمقراطي أكثر من محاولة جديده لكسب الناخبين الذين يئسوا، كما مر ذكره، من وعوده الكاذبة في السابق. وتقدم الحزب الديمقراطي بهذه الخطة الغريبة، يخفى رغبة عارمة للصعود للسلطة والاحتفاظ بها بشكل مستدام؛ وما يدل على نوايا الحزب (السلطوية) افصاحه عن رغبنه، في حال صعوده للسلطة في اعلى مستوياتها والسيطرة على غرفتي الكونجرس، في توسيع عضوية المحكمة الدستورية العليا الامر الذي تيح له تقويض وضع الأغلبية (6-3) لصالح الجمهوريين. وهكذا، بالسيطرة على المحكمة الدستورية العليا، فان الحزب الديمقراطي يستطيع تحقيق كل اجندته الحزبية التي تتيح له الخلود في السلطة، مثل الغاء الكتلة الانتخابية (electoral college) الامر الذي يقوض نظام الانتخاب الغير المباشر للرئيس واستبداله بالاعتماد على أجمالي عدد أصوات الناخبين لتحديد من يفوز بالرئاسة وهذا سوف يكون في صالح الحزب الديمقراطي الذى يتمتع بشعبية كبيرة تضمن له الاغلبية في التصويت.

وعلى صعيد الحملة الانتخابية الأخرى، فان ترمب لم يغير أسلوبه العملي التجاري (business-like)، الذي سلكه في الحملة الانتخابية (2016)، المتنافي مع الأسلوب التقليدي المحافظ للحزب الجمهوري. وفى ضوء عدم تحقيقه لمكاسب تذكر تتعلق بأوضاع العمال كما وعد في فترة رئاسته للبلاد وتخفيضه للضرائب التي وفرت مئات المليارات من الدولارات للشركات الكبرى، جاء تركيزه الحالي على التلميح بانه صاحب كاريزما قوية تؤهله للتصدي للمشاكل التي تواجهها أمريكا على الصعيدين الداخلي والخارجي. وفى هذا الخصوص كثف هجومه على الصفقات التجارية مع كبرى المؤسسات الحكومية الصينية التي عقدها بعض من أفراد عائلة منافسه جو بايدن عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس في إدارة باراك أوباما. ولمزيد من الهجوم على شخصيته، ظلت حملة ترمب تؤكد على ان بايدن ليس لديه المقدرة على تحمل أعباء الرئاسة لضعف قدرته المعرفية (cognitive ability) اذ أنه ظهر في كثير من اللقاءات متلعثما ومشوشا مرتكبا لزلات الكلام بصورة متواصلة وفى أحيان لا يعي الأماكن التي يتواجد فيها.

وعكس تلك الصورة لبايدن كصاحب شخصية مهزوزة فان حملة ترمب قدمت مرشحها في صورة الرئيس القوى الذى أعاد الهيبة إلى أمريكا بعد أن فقدتها في الفترة الرئاسية لباراك أوباما، فهو صاحب الفضل في مواجه الصين بمراجعة العلاقات معها بما يخدم المصالح الامريكية وفى انسحابه من الاتفاق النووي الموقع مع إيران في 2015، إضافة لكسر الجمود على جبهة كوريا الشمالية بزيارتها بعد توتر العلاقات معها لعقود طويلة. وأخيرا تحقيقه للتقدم في عملية السلام في الشرق الأوسط.

ان معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020 تلفت الانتباه الى استماتة الحزب الديمقراطي للصعود للرئاسة والسيطرة على البيت الأبيض باي ثمن في حملة انتخابية يقف خلفها كيانا ضخما يتكون من تقريبا كل أجهزة الاعلام السائدة (mainstream) والسليكون ڤالى وهذان المكونان يبلغ تكوينهما الرأسمالي (capitalization) تريليونات الدولارات؛ كما تسند حملة بايدن الاوساط الاكاديمية. ويتمثل تهافت الحزب الديمقراطي على السلطة
في عدم إخفائه نيته على توسيع عضوية المحكمة الدستورية العليا من أجل السيطرة عليها وبالتالي تمرير التشريعات التي يعيق الدستور القيام بها. وتجدر الإشارة الى نقطتين حول المحكمة الدستورية العليا، الأولى هي ان الدستور الأمريكي لا يحدد عدد القضاة فيها، والثانية ان دورها في البت في القضايا الكبرى ظل يتزايد في السنوات الأخيرة في ضوء الاستقطاب الحاد بين المكونات السياسية الفاعلة.

كما نشير الى ان الحزب الديمقراطي يأخذ سنده من بورصة وول ستريت الضخمة وفئات الانتلجيسا (الجديدة) في السليكون ڤالى وأجهزة الاعلام التي تتمتع بعقود عمل تتقاضى بموجبها ملايين الدولارات. لذلك فالصراع سيتمحور حول الانتصار لجماعة وول ستريت او للفئات التي تتبع لمين ستريت وسيتواتر بكل ما يحمله من حدة بدأت نذرها تبين في دورة الانتخابات الرئاسية الحالية ما ينذر بحدوث تغييرات عميقة على صعيد الساحة السياسية.