الديمقراطية


ارام كيوان
2020 / 11 / 1 - 21:03     

يعتبر المصطلحان "الديمقراطية" و"الديكتاتورية" من أكثر المصطلحات ضبابية والتباسًا، وأكثر المصطلحات التي تتباين الاراء حولها، فكل يرى الأمور من زاويته ومن قراءته للمعطيات والتاريخ. أريد أن أحدد ثلاثة نقاط حول الديمقراطية في الأسطر القادمة:
1. الديمقراطية بشكل عام والديمقراطية البرجوازية
2. الديمقراطية والطبقات الاجتماعية
3. تجاوز الديمقراطية البرجوازية

ان كانت الديمقراطية بمعنى الاتفاق والنقاش حول اتخاذ القرارات، فان أعظم ديمقراطية في التاريخ نجدها عند الجماعات البدائية. "الديمقراطية ليست من مزايا عصرنا التي يزهى بها على العصور السوالف لأنها تظهر على خير وجوهها في كثير من الجماعات البدائية" (ويل ديورانت).

الديمقراطية والديكتاتورية قبل كل شيء نستعملها لوصف نظام الدولة (لا يهم أي دولة)، أي قبل الحديث عن ديمقراطية أو ديكتاتورية لا بد أن نتحدث عن الدولة، الدولة هي أداة لحماية واقع طبقي معين والحفاظ عليه، وظيفة الدولة التاريخية منذ الدولة الأثينية القديمة هي حراسة نمط الانتاج القائم داخل حدودها الوطنية والحفاظ على مصالح الطبقة الحاكمة وتكون الدولة ديمقراطية مع من يحترم الواقع الطبقي وحدود القانون المفروض

شكل الديمقراطية الحديث شكل الديمقراطية البرجوازية أو الديمقراطية الليبرالية، ونحن الان في غنى عن ذكر التاريخ الطويل لهذه الديمقراطية، ولكن باستطاعتنا أن نقول هذه الديمقراطية كانت نتيجة صراع داخل البرجوازية نفسها وبين البرجوازية والطبقات الأخرى من الشعب، ولم تستقر هذه "الديمقراطيات" الرأسمالية الا بعد "ديكتاتوريات" فردية صريحة. كرومويل في انجلترا، روبسبيير في فرنسا، بسمارك في المانيا، غاريبالدي في ايطاليا. هؤلاء القادة عبروا عن اللحظة التاريخية لصعود البرجواية، واستعملوا كافة أشكال العناف لارساء نمط الانتاج الرأسمالي وحطموا أدوات الهيمنة الاقطاعية لادراكهم التام أن نمط انتاجهم لا يسود بالرومانسية والنقاش والحوار بل بالقوة التقليدية للدولة .

الصراع داخل صفوف البرجوازية نفسها أنتج "الجمهورية الديمقراطية" وهي أفضل شكل للدولة ما قبل الاشتراكية.
شكل "الجمهورية الديمقراطية البرجوازية" الذي جاء بحريات أكثر وأفق أوسع للجماهير، لم يكن منة ولا كرم أخلاق من البرجوازية التي تأسس دولتها الرأسمالية، بل نتاج التناحر بين مصالح الملاك ورغبتهم المطردة في الاستيلاء علي حصة الشريك، أو عدم قدرة الشركاء علي التوافق حول سبيل واحد لسرقة مقدرات الشعب.

يشير نيكوس بولانتازاس بصدق أن الدول التي لم يكن الصراع الرئيسي فيها داخل الطبقة الحاكمة نفسها بل انتقل الى باقي طبقات الشعب نجد أن هذه الدول قدمت تنازلات كبيرة لأجل الحفاظ على نمط الانتاج القائم وخلق اجماع عام على المنظومة، هذه التنازلات كثيرة مثل الضمان الاجتماعي وتقييد ساعات العمل الى ثمان ساعات ونقابات العمال الخ. وفي الدول التي عاشت صراعا أقل حدية نجد التنازلات أقل مثل الولايات المتحدة الأمريكية.

ينبه سمير أمين أن مصطلح "ديمقراطية" يأتي متلازمًا مع مصطلحين اخرين هما "مواطنة وحداثة" والديمقراطية ليست كغيرها من ممارسات الماضي وان رأينا تشابهًا بينها وبين بعض المقدمات من الماضي، وهذا بالطبع يشمل "الديمقراطية الأثينية"

ان عرجنا على العمل الحزبي في العالم المعاصر، نجد أن كل الاحزب السياسية، من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار، تعلن عن نفسها أحزابًا ديمقراطية طبقًا للوصفة التي مفادها التعددية الحزبية، انتخاب مجلس نواب ورئيس دولة، أي تبادل سلمي للسلطة ولكن هذه الديمقراطية تبقى ديمقراطية مبتورة لأسباب سنأتي على ذكرها.

في العمل السياسي، مقرطة المجتمع لا تنفصل عن النضال الاجتماعي (الطبقي)، بيد أن كثيرًا من الأحزاب التي تسمي نفسها ديمقراطية تفصل بين المقرطة وبين عملية التقدم الاجتماعي. وهذه القوى والأحزاب على مختلف مسمياتها، سواء كانت يمينية او يسارية، علمانية أم دينية، هي في الواقع قوى رجعية تسعى الى تكريس واقع طبقي غير صالح الطبقات الشعبية والشرائح الدنيا من المجتمع.

وتكمن أزمة الديمقراطية في هذا الفصل بين التقدم الاجتماعي والمقرطة، حيث تتحول "كتلة الديمقراطية المبتورة" (سمير أمين) الى أحزاب حكومية تؤجج صراع الهويات لتضفي على نفسها شرعية شعبية، ويتلخص صراعها السياسي ما بين سلطة الدولة وجهاز الدولة. من هنا نستطيع القول بكلمات واضحة لا تقبل التأويل ان الحزب الديمقراطي هو الحزب الذي يؤسس ديمقراطية في مقدمتها الطبقات الشعبية وترقية وضعها الاجتماعي ولا يفصل بين مقرطة المجتمع والتقدم الاجتماعي.

أمام الواقع البائس للطبقات الشعبية يبرز خياران، التقدمي الذي ذكرناه أعلاه والرجعي الماضوي، الثاني هو خيار يستغل بؤس الطبقات الشعبية ويرى في الماضي حلًا لمآسي الحاضر فنجده يذكر دائمًا بالتاريخ والماضي البطولي لأمة من الأمم أو شعارات شعبوية مغرقة في الكراهية تتلقفها الطبقات الشعبية بسرور في لحظات التشظي، وفي التحليل الأخير فإن الجناح الرجعي المتكئ على الماضوية والمفعهم باللامنطق واللاعقل هو أكثير الأجنحة البرجوازية تطرفًا وهدفه النهائي هو الهيمنة على الدولة بسلطتها وأجهزتها.

أريد أن انهي بنقاش تاريخي كسر الدولة البرجوازية من داخل المنظومة الديمقراطية البرجوازية، نذكر دائما الرئيس الشهيد سلفادور الندي في تشيلي، وكذلك الرئيس الايطالي الشيوعي الأسبق جورجيو نابوليتانو حيث لم تخطو ايطاليا خطوة واحده اتجاه الاشتراكية، وكتب نابوليتانو رفقة المؤرخ الماركسي هوبزباوم كتاب "طريق ايطاليا نحو الاشتراكية" حيث لا يرى في الديمقراطية البرجوازية أفقًا لتحقيق الاشتراكية ونفس الكلام ينطبق على الشيوعي القبرصي ديمتريس كريستوفياس ومثال قريب اخر يؤيد الرأي القائل بعدم جدوى الديمقراطية البرجوازية نذكر الاطاحة بالرئيسة البرازيلية ديلما روسيف.

علينا أيضًا أن نذكر بعض الوقائع المقابلة حيث يبدو جليًا أن الدول الرأسمالية المتقدمة يبدو من شبه المستحيل زعزعة النظام الرأسمالي باجراءات "ديمقراطية" بينما نرى أن الدول الأقل تطورًا في المنظومة الرأسمالية يكون كسرها اسهل من نظيراتها المتقدمة، ونقصد هنا يسار أمريكا اللاتينية، الذي انبثق من قلب الطبقات الشعبية، ففي مثال الشهيد سلفادور الندي كان الخيار هو الانقلاب العسكري، وفي فنزويلا تمكن حزب تشافيز من اعلان الاشتراكية في البرلمان، وفي بوليفيا عاد حزب موراليس الى السلطة

على الديمقراطية أن تترافق مع النضال الاجتماعي (الطبقي) لتصب في مصلحة الطبقات الشعبية، غير ذلك تكون الديمقراطية مجرد نصب واحتيال