خان النص والموقف من الدين


فلاح علوان
2020 / 11 / 1 - 14:52     

في شباط 1977 تقرر تعميم منع المواكب الحسينية ليشمل النجف وكربلاء، بعد أن تم منعها في بغداد وباقي المحافظات. وقد جاء منع المواكب على مراحل بدءاً من عام 1973 حيث بدأت بمنع التطبير، وبعدها الزنجيل ثم التشابيه فالمشاية لتنتهي بمنع المراسيم كلياَ.
وقد قرر العديد من شباب النجف، وبدعم من قيادات دينية، تنظيم مسيرة على الاقدام الى كربلاء لمناسبة "الاربعين"، رغم إعلان السلطات المنع رسمياً، ووضع القوات المسلحة في حالى تأهب قصوى للتدخل ومنع المسيرة. كان الشعار الرئيسي في التظاهرة " يا صدام قل للبكر، ذِكْر حسين ما ينّكر "، الى جانب هتافات أخرى تعلن تحدي السلطة.
إنطلقت المسيرة رغم المنع، وقد كلفت السلطة بعض رجال الدين الشيعة الموالين، لإقناع الشباب بالعدول عن المسير، الذي بدأ يتخذ شكل تظاهرة مناوئة للسلطة، ولكن دون جدوى. وواصل الشباب والاهالي الذين انضموا اليهم المسير، وأصروا على إكمال المسير لحد شروع السلطة بإطلاق النار عند وصول المسيرة الى منطقة "خان النص"، وقتل أحد المشاركين في الحال، وجرح عدد آخر فيما تواصل القمع الذي تسبب في مقتل أربعة وإعتقال العشرات أو المئات. وكان الحادث يوم 8 شباط 1977. وبعد أيام جرى تنفيذ حكم الاعدام بأعداد كبيرة من المعتقلين.
وقد عرفت تلك الحادثة في الاوساط الدينية وفي النجف عموماً بإنتفاضة خان النص أو إنتفاضة رجب.
إقتصر التفاعل الشعبي في باقي المحافظات على السخط من قتل الناس والبطش الحكومي، ولم يمتد الى المشاركة، وقد كان النظام يعيش أفضل فتراته، وكان مستقراَ الى حد بعيد.
في تلك الأيام كانت الجبهة بين البعث الحاكم والأحزاب الداخلة في التحالف، وخاصة الحزب الشيوعي، قائمة. وكان لقب "رفيق" يتبادله رفاق الدرب في الجبهة، وكانت جريدة " طريق الشعب" تسمي صدام "الرفيق" علانية وصراحة. وحيث أن قرار منع المسيرة كان قراراً حكومياً وكان البعث صاحب القرار، فإن واجب الحزب الشيوعي العراقي الحليف والشريك هو الانصياع، أو الأحرى تطبيق السياسة التي إختار بوعي وقصد أن يكون ضمنها. وشكل مفارز حزبية للمشاركة في قمع المسيرة، بحيث وقف رفاق الجبهة الى جانب بعض.
وأصدر الحزب الشيوعي العراقي بياناً يدين فيه المسيرة ويقف في صف سياسة البعث الدموية، ووصف البعض البيان بكونه أشد بكثير من تصريحات البعث ضد المسيرة، وأعتبر الحزب الشيوعي العراقي ما يجري هو معادي لثورة 17-30 تموز وطالب بقمع المتظاهرين:



الى جمیع اللجان الحزبیة ..
الرفاق الأعزاء..
یشھد الوضع الداخلي تفاقماً في النشاطات التآمریة الموحى بھا من قِبل الأوساط الإمبریالیة والرجعیة والأحتكار البترولیة ..
نشاطات معادیة للسلطة الوطنیة ولمسیرة قطرنا الثوریة، ویتجسد ھذا التفاقم في الوقت الحاضر باستغلال المشاعر الدینیة والطائفیة، ومحاولة أثارة الجماھیر للقیام بأعمال أستفزازیة تحت ھذه الواجھات بمناسبة أربعینیة الامام الحسین .
ویبدو من الوقائع التي جرت خلال الایام السابقة، أن ھذا النشاط (الدیني الطائفي) المعادي للسلطة الوطنیة ماھو إلا ستار لمؤامرة رجعیة امبریالیة تستھدف المسیرة الثوریة لبلادنا، ومكتسبات شعبنا، وكل انجازات ثورة 17 ـ 30 تموز التقدمیة.
إن حزبنا الشیوعي العراقي یقف بحزم الى جانب السلطة الوطنیة وحزب البعث العربي الإشتراكي الحلیف. ویَعتبر ھذه النشاطات التآمریة المعادیة، تحت أیة صورة ظھرت، وبأي شعار تسترت، موجھة الى جموع شعبنا المناضل وجماھیره الكادحة ومكتسباتھ التقدمیة.
إن المكتب السیاسي یدعو منظمات حزبنا والرفاق كافة الى رفع الیقظة ومراقبة النشاطات التآمریة، والإتصال بمنظمات حزب البعث العربي الإشتراكي الحلیف، وتنشیط لجان الجبھة الوطنیة والقومیة التقدمیة لغرض التنسیق للقیام بأعمال مشتركة ضد التآمر واعمال التخریب والاستفزاز وفضحھا على نطاق جماھیري وبھدف تبصیر الجماھیر بحقیقة ھذه التحركات و أھدافھا وارتباطاتھا بالامبریالیة والرجعیة والأضرار الجسیمة الناتجة عنھا.
الحزب الشیوعي العراقي في 8 / 2 /1977)
.انتھى بیان الحزب)
https://almasalah.com/ar/-print-Newspage.aspx?newsid=117417 2/2

لم يكتف الحشع بالمشاركة في مفارز مشتركة مع البعث وتقديم المعلومات عن المشاركين، وإصدار بيان شديد اللهجة يحرض على قمع التظاهرات، بل أكد هذه السياسة في إجتماع للجنة المركزية للحزب، عقد بعد الاحداث ونشرت جريدة طريق الشعب في عددها الصادر يوم 27/2/1977 بعض ما صدر عن الإجتماع: "ان اتخاذ إجراءات الحزم ضد النشاط التآمري، حق من حقوق الثورة، ومبدا يحدد واجبات القوى الثورية في صيانة منجزاتها".
هكذا كان خطاب الحشع، وهكذا كان تقرير المكتب السياسي، وهكذا نشرت جريدة طريق الشعب وكأنها تريد إزالة الحدود بين فهد والعيسمي، وبين العبلي والدوري، وبين صدام وصارم وبين البكر وعادل.
من مساخر التاريخ أن يصدر الحشع بياناً في 8 شباط يقف فيه بشدة الى جانب البعث، بعد 14 عاماً على شباط 1963، الذي تصفه بيانات الحشع بشباط الأسود. ترى أي الأيام أشد سواداَ وحلكة؟ اليس الوقوف الى جانب البعث الفاشي في شباط 77 هو ايضاً شباط أسود؟.
ترى هل ينتمي موقف الحشع وبيانه المؤيد لقتل الناس الى تاريخ الشيوعية في العراق؟ نفس الحشع الذي سيضع لافتة على مقراته تقول إن الحسين ثورة. ولكن متى؟ بعد أن أصبحت السلطة بيد الأحزاب الاسلامية. لماذا لم يكن الحسين ثورة في شباط 77؟ الجواب واضح، كان البعث قوياً وقد منح الحشع فتاتاً من سلطته مقابل الولاء والتمجيد وخداع الناس عبر تحسين صورة البعث و"ثورة" 17-30 تموز. أما اليوم فحيث أن الأحزاب الإسلامية هي القوة وهي السلطة، فإن لغة الحشع وقناعاته ومبادئه يجب أن تتوجه وجهة أخرى، وهي وجهة الحرفة القديمة الدائمة للحزب في التحالف، ليدخل في تحالف مع الاسلاميين هذه المرة.
يكتب السيد حسين علوان حسين في مقالة المسلسل والموجه لانتقاد الشيوعية العمالية والتيارات الماركسية خارج حزبه:
"و لكن واحدة من أخص خصائص الدين إنما هو رفضه المطلق للموت إلا موتاً طبيعيا من تلقاء نفسه حالما لا يعود أفراد المجتمع بحاجة إلى ركوبه بعدما يتحقق وعده السماوي الموهوم بالجنة ببنائهاعلى الأرض فعلاً بعقول و سواعد البشر الواعين فتنتفي وظائفه لأن دوام حياته مرهونة بدوام امتطاء البشر له ."
والمنشور على الرابط أدناه:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=694555
ولكن لم يقل لنا الكاتب لماذ لم "ينتظر" الحشع موتاً طبيعياً للدين كما يقترح في مقاله؟ ولماذا شارك البعث في هجومه على الدين؟.
وهذه المرة أيضاً يعتبر أنصار الحشع إنهم أصحاب التاريخ، وإن الحزب هو حزب شيوعي، وإن " الأخطاء" تقع لمن يعمل. وهذه التبريرات قائمة منذ التحالف مع الرفيق صدام وحتى التحالف مع الرفيق بريمر، وصولاً الى التحالف الحالي الذي لن يكون الأخير إذا ما أستمر وجود الحشع، والذي ستحرص العديد من القوى الحاكمة على إبقائه، لأنه ضمانة تحجيم دور الإشتراكية والطبقة العاملة وتشويه صورة الإشتراكية والشيوعية. ولكن هذا النوع من التحالفات، التي يكون فيها الحزب هو التابع تماماً وهو الخاسر في النهاية، وهو الذي يقدم الضحايا، بل الاحرى هو الذي يتسبب بمقتل أعضائه بسبب سياساته، لم تبدأ بالتحالف مع البعث عام 1972 ولا في جبهة 1957 بمشاركة الضباط الأحرار. لقد كان هناك تفاهماً وتوافقاً سياسياّ عام 1942 مع الرفيق " تشرشل" بعد أن دخل الاتحاد السوفيتي الحرب الى جانب الحلفاء، وأطلق الحزب على الإحتلال البريطاني للعراق عام 1941 أسم قوات تحرير مناهضة للنازية.
"وأعلنت جريدة الحزب في مايو 1942 تأييدها الكامل لموقف موسكو: “إن حزبنا يعتبر الجيش البريطاني الذي يحارب النازية اليوم، جيش تحرير.. لذلك علينا مساعدته في العراق بكل السبل الممكنة"”!!
https://revsoc.me/revolutionary-experiences/41980/
وكان هذا مقابل التساهل مع الحزب الذي أصبح يصدر البيانات ضد النازية فقط، ووجه التعليمات الى كوادره بالامتناع عن المشاركة في أي إضراب لأنه سيضر بمصالح الإنكليز، وبالتالي سيصب في خدمة النازية.
ترى هل تنتمي هذه السياسة الى تاريخ الشيوعية والنضال الإشتراكي في العراق؟ وفق حشع وأعضاء حشع نعم.
ويورد السيد كاتب السلسلة والمدافع عن سياسة الحشع، مثال سياسة لينين تجاه مسلمي آسيا الوسطى، ووقف الانتهاكات التي كانوا يتعرضون لها، وتسهيل طبع القرآن وحماية مساجد المسلمين. ويقارنها بموقف الحشع وتحالفاته، ليستنتج إن موقف الحشع هو موقف لينيني.
ولكن هذا باطل، وتلاعب وتحريف واضح. إن لينين كان يدافع عن اناس مضطهدين بسبب الإستعلاء الديني وهيمنة الكنيسة المتحالفة مع القيصرية، وقمع حريتهم في التعبير عن مناسكهم وعباداتهم. ولم يدافع لينين عن سلطة دينية مستبدة، ولا عن مليشيات تصادر حرية الناس. ووفق هذه المحاججة، كان يتعين على الحشع الوقوف مع متظاهري خان النص 1977، والذين كانوا يقاومون قمع العبادات والمناسك الدينية، أو على الاقل يستنكر الهجوم عليهم أو يكتفي بالصمت، لا أن يشارك في القمع. لقد كان موقف الحشع هو موقف القياصرة وليس موقف لينين. واليوم يجدد هذا الموقف بتحالفه مع أشد القوى القمعية.
والحال؛ هل ينتمي هذا الى تاريخ الشيوعية والإشتراكية؟ أقصد كل هذه السياسات منذ 1942 لغاية 2018؟
إن غرضي هو ليس الرد على مقال بالذات، ولكن التصدي لموضوع إستملاك "الطابو" التاريخي، وإتهام أي إشتراكي بالتطاول على تاريخ الحشع وتاريخ الشيوعية. المقال أو سلسلة المقالات فقيرة جداً من الناحية النظرية، وإن كل السلسلة لم تستطع لحد اليوم سوى تناول تعابير حول الموقف من الدين، وإتخاذها كبرهان عن عداء الشيوعية العمالية ومنصور حكمت للماركسية. ولم يتقدم الكاتب خطوة ليتناول أي مسألة نظرية أو تكتيكية للبرهان على طرحه. وقد إنقلبت المقالة ضد صاحبها وحزبه بدل أن يحقق أي نصر. ولنفترض إن أي شخص كان مخطئاً أو محدوداً أو متطرفاً في مسألة بالذات، فهذا لن يكون بأي حال دليل عدائه لمنهج يتناول مئات القضايا التي تتعلق بحياة المجتمع والسياسة.
إن هذه المقالات دليل على إن الماركسية هي ليست المعرفية أو المعلوماتية على الإطلاق، فالسيد كاتب المقال واسع الاطلاع والمعرفة، ولكنه تحت ضغط تصورات سياسية بعينها، إضطر لإستخدام المعرفة لتدعيم تيار أو فكره، منطلقاً من تصور دوغمائي مسبق. وبالتالي تحولت المعرفة والمعلوماتية الى مجموعة إستشهادات ومقاطع مفككة، تدعي إنتماءها الى التحليل الماركسي للوقائع والتاريخ. وإن التصدي لهذه الطروحات هو ليس مبارزة سياسية ولا تناحر ولا إستهداف، بل عرض تصور ناقد لإستخدام الماركسية في الدفاع عن تصورات لا تمت للماركسية كمنهج بأي صلة بل تقف بالضد منها.
ملاحظة: لم أشأ أن اثقل المقال بالهوامش والمصادر، ففي الحقيقة أنا لا أعتبره بحثاً أو حتى مقالاً بل رد على مقال.