كتاب “مآزق لينين”: مواقف قائد الثورة الروسية في سياقاتها التاريخية

سعيد حسن
2020 / 10 / 30 - 10:47     



“دعونا نتخيل رجلًا يتسلَّق جبلًا لم يصعده أحد من قبل”.

في مقدمة كتابه “مآزق لينين”، الذي صدر بمناسبة مرور 100 عام على الثورة البلشفية، يذكِّرنا الكاتب والناشط اليساري طارق علي بالجدالات الفكرية حول دور الفرد في التاريخ. يؤكِّد علي أن التاريخ ليس بالتأكيد مجرد سيرة ذاتية لمجموعة من الرجال العظام الذين غيَّروا العالم، كما ادَّعت التصوُّرات الليبرالية الكلاسيكية. لم يكن فلاديمير إيليتش أوليانوف (لينين) ليخوض المسار الذي خاضه في حياته، لولا الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية التي شكَّلت هذا المسار وتقلباته، ولولا المواقف التي مست فيها هذه التقلبات حياته الشخصية، وبالتالي خلقت الفرصة لطرح الأفكار التي طرحها لينين وأعطته الفرصة للسعي لتنفيذها.

ولكن في الوقت نفسه، يؤكد علي –من منظور جدلي هذه المرة– أنه لو لم يتخذ لينين كلَّ خطوة قام بها في كلٍّ من اللحظات الحاسمة في حياته -بتنوُّع سياقاتها- ولم يسع بحزمٍ لتحقيق الرؤى السياسية التي تكوَّنت في خضم تجربته الحياتية والفكرية، لما اتخذ التاريخ الروسي والعالم المسار الذي اتخذاه بفضل تأثير لينين الكبير على الأحداث التي خاضها. يجزم علي بأن لينين يتميَّز عن سابقيه من “الرجال العظام” الذين ارتبطت أسماؤهم بالثورات البرجوازية الكبرى في أنه لم يكتف بتلاقي أفكاره مع لحظة الثورة، ولكنه بدأ العمل بإخلاصٍ شديد على تحقيق هذه الثورة من قبل حدوثها بـ 25 عامًا.

يمكن القول أنه لا يمكن فهم لينين بدون فهم السياقات والتجارب التاريخية التي شكَّلَت شخصيته وإخلاصه لفكرة الثورة وأفكاره السياسية واختياراته في المواقف المختلفة، وكذلك لا يمكن فهم هذه الأحداث التاريخية التي أحاطت حياته وتلتها دون أن نفهم كيف تفاعل معها لينين وكيف أثَّرت اختياراته فيها. من هذا المنطلق يطرح طارق علي شكل تناوله لحياة لينين من موقع رافض لكلٍّ من التقديس الجامد لشخصه الذي يقتطع أفكاره واختياراته من سياقها التاريخي وكذلك لمحاولات تهميش دور لينين التاريخي أو شيطنته على الجانب الآخر.

يتناول علي حياة لينين من زاويةٍ جديدة تتجنَّب أن تكون سيرةً ذاتية مدقَّقة أو ناقدة عن شخص لينين أو أن تكون سردًا تاريخيًا متتابعًا للأحداث المحيطة بحياته، ولكنه يقسِّم فصول الكتاب إلى المواقف الأهم في حياة لينين –أو المآزق كما أسماها– والتي شكَّلت القرارات الأهم في مساره السياسي قبل الثورة وخلالها وبعدها، ليعطي كل منها تاريخها الخاص، ويستعرض مسار تطور الأفكار السياسية والأحداث المرتبطة وبعض الشخصيات التاريخية التي ساهمت في خلق هذه المواقف، ومن خلال ذلك يستعرض أيضًا كيف تفاعل لينين مع هذه المواقف داخل سياقها.

على سبيل المثال، وحتى نصل إلى فهم المأزق الأول، وهو اختيار لينين الشاب أن يتحوَّل إلى تكريس حياته للسعي إلى اندلاع ثورة في روسيا، يأخذنا الفصل الأول في رحلةٍ تستعرض التاريخ الاقتصادي والسياسي للقيصرية الروسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتطوُّر الأناركية الشعبوية في روسيا وأهم أحداثها وتنظيماتها وتعثُّراتها، وأهم المفكرين الأناركيين الروس مثلًا باكونين وكروبوتكين، وسير قصيرة لبعض أبطال حركات الإرهاب الثوري الأكثر شعبية وقصص التضحية والإخلاص الثوري. ثم يأخذنا بعد ذلك لأسرة لينين وظروفهم الحياتية، ومن ثم تأثَّر أخوه أليكساندر وأخته آنا بأفكار الثورة والأناركية الشعبوية وانضمام أليكساندر لجماعة “إرادة الشعب”، لينتهي به الأمر إلى الإعدام بعد محاولة اغتيال القيصر. وأخيرًا، يستعرض حياة لينين الصغير وطباعه وتعلُّقه بأخيه الأكبر، وكيف أثَّر إعدامه بشدة في لينين وفي معيشة أسرته، وكيف قاده إلى قراره بالتحوُّل للالتزام بهدف تحقيق الثورة في روسيا والتهام الكتابات الثورية التي تركها شقيقه.

يستمر الكتاب على هذا المنوال: حتى نفهم تبني لينين لأفكار الاشتراكية بدلًا من الأناركية الشعبوية وإيمانه بالحزب السياسي والطبقة العاملة، ودفاعه عن الأممية ورفضه الشديد للحرب الإمبريالية والاستعمار، وإصراره على الثورة في أكتوبر من موقع الأقلية، والقرارات والعثرات في فترة بعد الثورة، وموقفه من قضايا النساء، وحتى لحظاته الأخيرة، سيكون علينا أن ننظر لتاريخ صعود البرجوازية في أوروبا، وتاريخ الاشتراكية الأوروبية منذ بدايتها الطوباوية وحتى انتشار أفكار الماركسية في روسيا، وفي القلب منها تجربة كوميونة باريس. ثم علينا أن ننظر إلى تجارب الأممية الأولى والثانية وحتى الموقف المخزي من الحرب العالمية الأولى. ثم النظر إلى تجربة الثورة وتلاقي الشروط المناسبة وأدوار البلاشفة الآخرين. وكذلك تداعيات الحرب السياسية وتجارب الأممية الثالثة ونتائج محاولات الثورات في باقي أوروبا، وظروف الحرب الأهلية في روسيا والجدالات العسكرية حولها وآثارها على الاقتصاد وعلى الحزب الشيوعي الروسي نفسه. وأيضًا نحتاج أن ننظر إلى علاقة الاشتراكية بقضية النساء على مرِّ تاريخها، وتاريخ مشاركة النساء الروسيات الواسعة في الأنشطة الثورية، والنقاشات السائدة بعد الثورة عن النسوية وعن الجنسانية. ولا يهمل علي كذلك الإشارة إلى أثر علاقات لينين الشخصية وتجاربه. وخلال كلِّ ذلك، نرى تأثير كل موقف اتخذه لينين على مسار الأحداث ومستقبلها، وأهمية كل قرار في لحظته.

يستخدم علي أسلوبًا في السرد هو أقرب إلى الحكي؛ إذ ينتقل بسلاسةٍ بين وصف بعض الأحداث المتراتبة، ليحكي سيرةً قصيرة لأحد الشخصيات المؤثرة في مسار القصة، ثم يتجه لحكي مواقف بعينها وأثرها على شخصياتها، وبعض تعليقاتهم عليها، وبعض التعليقات التحليلية من الكاتب نفسه. الأسلوب شيِّق ويسهِّل على القارئ تلقي هذه المقدمة التاريخية الشاملة في الأفكار الشيوعية منذ بدايتها وحتى وفاة لينين. لأن الكتاب يركِّز على السرد التاريخي لكلِّ موضوعة على حدة، قد يُحدِث ذلك بعض الارتباك لمن لا يملكون صورةً عامة عن تسلسل العام الأحداث، لكن الكتاب يظلُّ مدخلًا مبتكرًا لقراءة لينين وفهم تاريخ الشيوعية.

يدافع علي بقوة عن أهمية كلِّ الخطوات التي اتخذها لينين طوال حياته وأهمية مخاطرة القيام بالثورة –التي لكانت تأخرت أو اتخذت مسارًا آخر لو كان لينين كثير التشكُّك في صحة خطواته كطبع الكثير من حوله. ربما لا يتفق علي مع كل مواقف لينين، لكنه مهتمٌ أكثر بالدفاع عن صحة كلٍّ منها في ظل “المآزق” الثورية التي واجهها في حياته، وعن صحة الدفع بالثورة للأمام عندما أتاحت الفرصة التاريخية ذلك. يترك علي مهمة الإشارة إلى العقبات التي عطَّلَت مشروع الاشتراكية في روسيا إلى لينين ذاته، الذي ظلَّ حتى في لحظاته الأخيرة مستبصرًا في إدراك مآزق الثورة.

* صدرت ترجمة الكتاب من دار “الكتب خان”، تأليف طارق علي، ترجمة أمير زكي – الطبعة الأولى: 2018