إسقاط دستور بينوشيه ومستقبل التحول الديمقراطي في تشيلي


رضي السماك
2020 / 10 / 27 - 21:49     

أسفر الاستفتاء الشعبي الذي جرى قبل أيام في تشيلي عن انتصار ساحق للقوى الوطنية واليسارية والديمقراطية والشعبية التي صوتت الغالبية العظمى معها من الناخبين لالغاء الدستور الموروث من عهد الدكتاتور الراحل اوغستو بينوشيه ؛ ومن أجل دستور جديد يلائم الاحتياجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الملحة لصالحها ، وبخاصة المنحدرة من طبقات العمال والفلاحين والطبقة الوسطى وسائر الفئات المهمشة والفقيرة . وكانت تلك الطبقات والفئات ركيزة الانتفاضة الجماهيرية التشرينية الباسلة التي هبت خريف العام الماضي 2019 ؛ حيث قدمت تضحيات هائلة من الشهداء والمصابين في مواجهة القمع الوحشي لأحفاد شرطة الدكتاتور الراحل بينوشيه على نهجه الوحشي ، ذلك بأنه رغم سقوط نظام حكمه المفترض منذ ثلاثين عاماً إلا أن الدستور الموروث من عهده ظل عقبة ليس في وجه الإصلاحات الجذرية المنشودة فحسب ، بل حال دون تطهير جهاز الشرطة السابق الذي حافظ على مواريث التربية القمعية والتوحش وأساليبه المنتهكة لحقوق المواطن الإنسان خلال الفترة الدكتاتورية . كما كان دستور بينوشيه عقبة كأداء في وجه التحولات الديمقراطية والاجتماعية المراد إحداثها . وهكذا فقد ظل ذلك الدستور أداة كبح معرقلة للنضال السلمي لبناء جهاز الإدارة العامة للدولة الديمقراطية الجديد بما فيها جهاز الأمن والشرطة . وكان هذا الدستور الرجعي الذي تم سنه بإرادة منفردة غير شرعية وعلى مقاس مصالح الطغمة الدكتاتورية العسكرية الحاكمة بقيادة المجرم بينوشيه وصفوة من كبار رجال الأعمال ووكلاء الشركات الاميركية المستفيدين من حكمه عقبة في وجه الإصلاح مهما جرى عليه من تعديلات ، فيما كانت تلك الطغمة -كما هو معلوم- عاثت على مدى 17 عاما في أرض تشيلي فسادا ، وسامت شعبها عذاباً وتقتيلا ؛ ونهبت موارد الشعب لصالح حفنة قليلة من الأغنياء ، وأفقرت السواد الأعظم منه لصالحها ولصالح الولايات المتحدة التي بفضل تخطيط ودعم مخابراتها CIA نجح الإنقلابيون بقيادة الجنرال بينوشيه في الانقضاض يوم 11 سبتمبر 1973 على سلطة الرئيس المنتخب سلفادور الليندي الذي استلم الحكم بموجب انتخابات شرعية دستورية جرت عام 1970 ؛ حيث فاز حزبه ( الحزب الاشتراكي ) ضمن ائتلاف انتخابي تحت إسم " جبهة الوحدة الشعبية " ضمت في صفوفها ستة أحزاب وتكتلات يسارية من بينها الحزب الشيوعي ، وكان الرئيس الليندي شرع بعد فوزه في تعزيز دور القطاع العام في التنمية الاقتصادية وإجراء بعض التأميمات في القطاع الخاص ؛ معتمداً في ذلك على التفويض الدستوري والشعبي الممنوح له وعلى الأغلبية البرلمانية التي تمثل الائتلاف الفائز دون المساس بنظام الدولة القائم على النظام الاقتصادي الحر . وهذا ما جرى في حالات تاريخية مشابها في الدول الرأسمالية في أوروبا ، منها على سبيل المثال - لا الحصر - فرنسا حين فاز في بعض المرات الحزب الاشتراكي بالتحالف مع الحزب الشيوعي في عصر اشتداد عود كليهما ؛ ومن خلال تحالفهما أيضا مع قوى صغيرة اخرى أقل وزناً منهما ، ومع ذلك لم يبلغ المطاف بالولايات المتحدة حينذاك إلى درجة التدخل المباشر لإسقاط الحكومة المنتخبة ؛ وإن كانت تحيك المؤامرات من وراء ستار المشهد الانتخابي لتسقيط القوى اليسارية ودعم القوى اليمينية للفوز .
حوصر الرئيس الليندي في يوم الانقلاب واستشهد في القصر الرئاسي" لامونيدا " ، وبعد أيام قلائل قُتل في ظروف غامضة مشبوهة الدبلوماسي وشاعر تشيلي الشهير بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل للأدب، وجرى ترجيح اغتياله عن طريق دس السم له حسب شهادة سائقه ، هذا رغم ما تعطيه تلك الجائزة الدولية التي تتمتع بسمعة عالمية عريقة من حصانة معنوية مفترضة لمستحقيها ، لا سيما أنها منحت له عام 1971؛ أي قبيل عامين فقط من الانقلاب . كما استشهد تحت التعذيب في الأيام الأولى من الانقلاب الفنان المغني والموسيقي ذو الشعبية الكبيرة فيكتور جارا في ستاذ العاصمة سانتياغو الذي اكتظ بآلاف المعتقلين انتقاماً من دور أغانيه الحماسية الثورية التي كان يؤديها في الحملات الانتخابية لصالح الكادحين والفقراء لاستقطاب أصوات معظم الناخبين الذين صوتوا لمرشحي جبهة الوحدة الشعبية . مهما يكن فقد حكم الدكتاتور الراحل بلاده لمدة 17 سنة بقبضة حديدية مسنودة بقوة من الولايات المتحدة . لكن الانقلاب الذي جرى في زمن الصعود الأخير لليسار العالمي مطلع السبعينيات وفي ظل جبروت الاتحاد السوفييتي - باعتباره أحدى القوتين العظميين - أضعف قوى اليسار كثيرا جراء الضربات القمعية الشديدة المتواصلة طوال الحقبة الفاشية ، كما ترك ندوباً غائرة لم تمح ؛ ودروسا سياسية مهمة مازالت مفيدة حتى في حاضرنا إذا ما تم استلهامها جيداً ليس من جانب اليسار في تشيلي فحسب ، بل واليسار العالمي عامة واليسار العربي خصوصا ، سيما في ضوء الإخفاقات التي منيت بها ثورات الربيع العربي مطلع العقد ، وآخرها الا نتفاضة السودانية المخذولة التي اندلعت في كانون الأول 2018 حيث تمكن العسكر من فلول زمرة الدكتاتور المخلوع عمر البشير من الالتفاف عليها خلال المرحلة الانتقالية الراهنة ؛ وذلك بفضل بدعم أميركي خليجي مشترك ؛ و من ثم اختطاف قراراتها السيادية والمصيرية وآخرها الانفراد بقرار التطبيع مع العدو الصهيوني . ولعل دروس تشيلي مهمة أيضا للانتفاضتين الجاريتين العراقية واللبنانية .