بين التاريخ والرواية


حسن مدن
2020 / 10 / 23 - 13:10     

كثيراً ما تصادفنا عندما نقرأ كتباً في التاريخ عبارة: «وفي رواية أخرى»، خاصة حين يتعلق الأمر بسير الأعلام والشخصيات الكبرى، وأحياناً الأحداث الكبرى ذاتها، كأن يقال بأن فلاناً من الناس ولد في سنة معينة، في تاريخ معين، ثم يضيف الكاتب: «وفي رواية أخرى» يقال إنه ولد في سنة أخرى ويحدد هذه السنة.
يحدث أيضاً أن يقال إن واقعة تاريخية معينة وقعت في المكان الفلاني في التاريخ الفلاني، «وفي رواية أخرى» يقال إنها وقعت في مكان آخر وتاريخ آخر. ويمكن للقائمة أن تطول، فيقال بأن فلاناً من الناس قد مات ودفن في بغداد مثلاً، لكن في رواية أخرى يأتي من يقول إنه مات ودفن في الشام أو في حلب ويحدد، للمزيد من الدقة، مكان قبره الذي مازال قائماً حتى اليوم، وقد يأتي مؤرخ آخر فينفي الروايتين معاً ويحدد مكان الموت والدفن في مصر أو في تونس وهكذا.
هنا تكمن إشكالية التاريخ الناشئة عن أنه لا توجد رواية واحدة وإنما روايتان، لا بل عدة روايات، وفي كل رواية من عناصر الترجيح ما يجعلها قابلة لأن تصدق ولأن يُعتد بها مرجعاً. وليس سهلاً على المؤرخ الفاحص الذي يقارن بين الروايات بغية ترجيح هذه الرواية أو تلك أن يصل إلى قرارٍ قاطع ونهائي في هذا الصدد، كأن يقول إن هذه الرواية بالذات دون سواها هي الرواية الصحيحة وما عداها فهو باطل، لأن إثبات واقعة من الوقائع خاصة إذا كان يفصلنا عنها قرون هو من الصعوبة بمكان، فضلاً عن أنه لا توجد ضمانات بأن المؤرخ الفاحص للروايات المختلفة هو شخص متجرد من الأهواء والميول، لا بل والقناعات المسبقة التي تجعله يلوي عنق الوقائع التاريخية لتتلاءم مع هذه الأهواء.
يقال إن المنتصر هو من يكتب التاريخ.. ويبدو هذا القول صحيحاً إلى أبعد الحدود، فالمنتصر غالباً ما يقدم الرواية التي تتسق ورؤاه ومصالحه، أي أنه يصوغ وقائع التاريخ بما يتلاءم مع هذه الرؤى والمصالح. وبهذا المعنى يمكن القول إن التاريخ المكتوب هو تاريخ المنتصر، دون أن ننسى حقيقة أن المنتصر عبر التاريخ ليس واحداً، وأن لكل حقبة تاريخية منتصرين خاصين بها، ولهم رؤيتهم الخاصة بهم التي قد تدفعهم إلى إعادة كتابة التاريخ وفق هذه الرؤية التي تتناقض مع الرؤية التي كانت سائدة في مرحلة أو مراحل سابقة، وبهذا الفهم يمكن القول إن التاريخ جرت كتابته عدة مرات كتابات ناسخة، بمعنى أن الكتابة اللاحقة نسخت أو ألغت ما سبقها لصالح الرؤية الجديدة المنتصرة.
وإذا كان التاريخ ليس رواية واحدة، ولا رواية أخرى، وأنه عدة روايات وعديد من الرواة، ولكل راوٍ ما هوى، فان الذين يقرأون التاريخ والأدب معاً يستطيعون إقامة المقارنة بين الطريقة التي يروي بها المؤرخ الوقائع التاريخية وتلك التي يروي بها الراوي جانباً قد يبدو معتماً غير معروف من هذه الوقائع فيضيئه.
وأبدى الروائي العراقي فؤاد التكرلي دهشته من أولئك المؤرخين الذين يقيمون خصومة مع الأدب، فينفقون أعمارهم في التنقيب عن الوثائق والوقائع والسجلات أو يعودون لمن سبقهم في كتابة التاريخ من دون أن يقتربوا من الأعمال الأدبية التي تصوّر المرحلة التاريخية التي هم في صدد الكتابة عنها، سواء أكانت عائدة لتلك المرحلة، أم أنها كتبت في وقت لاحق.
الروائي الحق هو مؤرخ بامتياز، لكنه لا يكتب التاريخ بالطريقة التي يفعلها المؤرخ، وإنما يختار مفصلاً زمنياً من هذا التاريخ يثير اهتمامه فيكسبه حياة من لحم ودم، لكن الفرق الأدق هو ذاك الذي يصوغه، مرة أخرى، فؤاد التكرلي حين يلاحظ أن التاريخ يسجل العبور اللامنتهي للحشود الزمنية وهي تقطع الزمن، أما الرواية فتقوم بمهمة تبدو نقيضة هي الإمساك بوجود الفرد الإنساني على صفحة الأيام، فتجعل منه مقيماً لا عابراً على خلاف ما يفعله التاريخ أو المؤرخون.
عبدالرحمن منيف، مثلاً، وهو يضع ثلاثية "أرض السواد"، كتب حقبة فاصلة من تاريخ العراق الحديث، ولهذا السبب فعل ما يفعله المؤرخون، إذ انكب على جمع الوثائق والمعلومات والبيانات والرسائل من الأرشيفات المختلفة، وطابق بينها ورجّح رأياً على رأي وموقفاً على موقف، بل لعله ولج إلى عوالم لم يسبقها إليه حتى المؤرخون أنفسهم.
بل لعله فعل أكثر من ذلك حين ولج إلى عوالم لم يسبقه إليها حتى المؤرخون أنفسهم فقدمها للمرة الأولى، قبل أن يبدأ مغامرته الإبداعية في كتابة تلك الثلاثية، التي تبهرنا بالمتعة التي تثيرها في نفوسنا ليس لأننا نتابع فقط تفاصيل حياة ومصائر الشخصيات التي ابتكرها، وإنما لأننا أيضا نلج عالم التاريخ ذاته، فنعرف العراق، بعد قراءة الرواية، أكثر مما كنا نعرفه قبل قراءتها، وكما بات ممكناً أن نفهم جوانب من تاريخ العراق من خلال هذه الثلاثية أو من خلال "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان، فإنه بالمثل يمكننا أن نعرف مصير من تبقى من العرب في الأندلس بعد سقوطها من خلال ثلاثية رضوى عاشور: "غرناطة، مريمة، الرحيل"، أو من خلال "تحت ظلال الرمان" لطارق علي.
ويمكننا أن نذهب أكثر فنقول إننا نعرف تاريخ فرنسا من روايات بلزاك أكثر مما نعرفه من دراسات تاريخية، ونعرف روسيا بصورة أفضل من خلال روايات ديستوفسكي وتولستوي وقصص غوغول وتشيخوف، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن روايات تشارلز ديكنز حين نحكي عن تاريخ بريطانيا، ويمكن أن نعرف مدينة القاهرة وعوالمها من روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس أكثر مما نعرفها من دراسات ذات صلة بالموضوع.
ميلان كونديرا يرى أن التاريخ يهتم بالجماعات والمجتمعات، والرواية تعنى بتاريخ الفرد، لكن هذا القول قابل للمحاججة، فالتاريخ هو الآخر يكتب تاريخ الأفراد، وإلا ماذا بوسعنا أن نقول مثلاً بصدد الكتب التي وضعت عن شخصية نابليون أو تيمورلنك أو الاسكندر الأكبر أو سواهم.
لكننا نحسب أن ما يغفله المؤرخون تقوم به الرواية حين تجعل من التاريخ مسرحاً لها، فإذ ينشغل التاريخ بالحشود الهائلة وهي تزحف على الحدود أو تقيم المتاريس في الشوارع وتسقط أنظمة وتقيم أخرى، فإن الرواية تمسك بالإنسان الفرد لتجعل منه مقيماً لا عابراً.