النمط الإيطالي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)


عبدالله تركماني
2020 / 10 / 22 - 21:36     

لقد كان النظام الفاشي، في مرحلة ما بين الحربين، خروجاً عن التوصيف السابق للدولة القومية الإيطالية. فقد جاء بمفاهيم وممارسات قومية جديدة تتمثل في:
(أ)- أيديولوجيا رسمية شمولية تغطي جميع جوانب الحياة الإنسانية.
(ب)- نظام حزب واحد يقوده الزعيم موسوليني.
(ج)- نظام رقابة بوليسية صارمة.
(د)- مراقبة جميع وسائل الإعلام ومركزتها في جهاز واحد للدعاية.
(هـ)- تركيز جميع الوسائل العسكرية والأمنية في يد الزعيم موسوليني.
(و)- تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية بمختلف جوانبها والتحكّم المركزي بها.
ومنذ سنة 1919 أعلن موسوليني أولوية العمل، وما فتئ يكرر: " إنّ العمل فوق الكلام "، وإنّ الفاشية لا تحتاج إلى عقيدة، بل إلى نظام انضباط. وكتب في عام 1924: " نحن الفاشيون لدينا الشجاعة أن نرفض جميع النظريات السياسية التقليدية، فنحن ارستوقراطيون وديمقراطيون، وثوريون ورجعيون، وبروليتاريون ومناوئون للبروليتاريين، وسلميون وأعداء السلام. يكفي أن يكون لدينا نقطة ثابتة واحدة: هي الأمة " (7). ولم يشعر موسوليني بالحاجة لتزويد الفاشية بعقيدة سياسية إلا حوالي عام 1929-1930، وقد جاءت العقيدة الفاشية ملتبسة وانتهازية ووسطية. وترجع عقيدة الفاشية الإيطالية إلى مجموعة المبادئ التي ذكرناها آنفا، مع العلم أنّ المهم بالنسبة لموسوليني هو الانضواء تحت ظل النظام الفاشي أساساً، أما المبادئ والمؤسسات فهي في المرتبة الثانية. لقد قدّمت الفاشية إلى العناصر القادمة من جميع طبقات المجتمع الإيطالي إيماناً مشتركاً، إذ إنها (8):
(أ)- صداقة قبل كل شيء، فهي شاعرية الجماعة والجمهور والسهرات المشتركة والأناشيد الجماعية.
(ب)- شاعرية الانضباط والنظام المغلق الذي يرافقه القَسَمُ الفاشي.
(ج)- شاعرية الشباب والجسد والحياة الطبيعية والهواء الطلق، باتجاه الدفاع عن الإنسان ضد المدينة الكبيرة والآلة.
(د)- شاعرية العمل والمخاطرة، وشعر الحرب وتمجيد الفضائل الرجولية.
وهكذا، تبدو الفاشية أساطيرية، قبل أن تكون سياسية، إنها تفرض أسلوباً أكثر مما تقترح برنامجاً، وهي تمتلك حس الزينة والجمهور والإخراج المسرحي والرموز الكبيرة. إنها تفضي إلى تمجيد الدولة، باعتبارها أولوية، كأداة للأقوياء وضمانة للضعفاء. فكل شيء للدولة، وكل شيء عن طريق الدولة، التي هي كتلة واحدة، لا تقبل فصل السلطات، بما ينطوي عليه ذلك من سحق كل معارضة. فما بالغ أحد يوماً ما في تعظيم الدولة كما فعل موسوليني، فالدولة حسب رأيه " ضمير الشعب ذاته وإرادته "، وهي " واقع الفرد الحقيقي "، إنها " واقع روحي وأخلاقي "، إنها " الوجدان الماثل في الأمة ".
والدولة، في نظر موسوليني، واقع سابق للأمة وأسمى منها. فالدولة هي التي تصنع الأمة وتمكّنها من الازدهار، فعظمة إيطاليا يجب أن تكون من صنع الدولة الفاشية ومنها وحدها. فالفاشية أكثر من نظرية في الأمة - الدولة، إنها نظرية في الدولة - الأمة. فقد قال موسوليني: " ليست الأمة هي التي تخلق الدولة، كما في التصوّر، ذي النزعة الطبيعية، القديم الذي استخدم كأساس في دراسات دعاة الدول القومية في القرن التاسع عشر. بالعكس، الأمة تنشؤها الدولة التي تمنح الشعب، الواعي بوحدته الأخلاقية الخاصة به، إرادة وبالتالي وجوداً فعلياً " (9).
وهكذا، فبالرغم من أنّ إيطاليا لا تضم شعوباً مختلفة، وتتكلم لغة واحدة، فقد تأخر إنجاز وحدتها القومية إلى أواخر القرن التاسع عشر، بعد أن كانت تبدو من الخارج حلماً طفولياً، بفعل عدة عوامل، من أهمها:
(أ)- وجود البابوية في إيطاليا، ومحاربتها أي اتجاه توحيدي.
(ب)- قوة النبلاء والمدن والإمارات الحرة، كما هو الحال في ألمانيا.
(ج)- وجود الجيران الأقوياء، وعلى الخصوص الإمبراطورية النمساوية -المجرية المقدسة.
(د)- عدم وجود أي نوع من الوحدة يجمع الإيطاليين، كما هي الحال بالنسبة للألمان الذين كانت تجمعهم الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
وهنالك قدر من التشابه، وقدر من الاختلاف في الحالتين الألمانية والإيطالية. فقد توحدت ألمانيا بفعل قوة بروسيا أساساً، رغماً عن إرادة النمسا وفرنسا، وكانت بروسيا مهيأة لهذا الدور القيادي كما أسلفنا. أما إيطاليا، فقد احتاجت إلى مساعدة أوروبية عامة مرة، كما حدث بعد المشاركة الإيطالية الرمزية في حرب القرم، وإلى مساندة فرنسا في سنة 1859 مرة، ومساندة بروسيا في سنة 1866 مرة.
لقد كان العامل الداخلي في إيطاليا أضعف منه في ألمانيا، بينما كان العامل الخارجي بالنسبة لإيطاليا أقوى منه في ألمانيا. وفي ألمانيا، كما في إيطاليا، قادت الوحدة عائلة حاكمة، وساسة محافظون مُحنَّكون، وعلى رأسهم بيسمارك في ألمانيا وكافور في إيطاليا. وفي الحالتين، هُزمت الحركة القومية الديمقراطية، وإن كان دور هذه الحركة في إيطاليا أقوى منه في ألمانيا. وفي الحالتين أيضاً، خلق التحدي الفرنسي عوامل حافزة على تحقيق الوحدة، سواء بالأفكار التي بذرتها الثورة الفرنسية، أو بالقوانين التي فرضتها قوات الاحتلال الفرنسي، ونتيجة تدمير البنى التقليدية الذي قامت به السلطات الفرنسية.
إنّ الوحدتين القوميتين الألمانية والإيطالية أكملتا تبلور أوروبا القومي، من خلال قيام الوحدات القومية الأساسية، مما أعطى أوروبا ملامحها الراهنة. لقد أدى تحقيـق الوحدتين إلى بروز القوى الأوروبية الأساسية التي أخذت تتنافس على زعامة أوروبا، وعلى المستعمرات واقتسام العالم، وهو ما أدى إلى تحويل معظم العالم إلى مستعمرات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلى قيام الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين.
وقد أولينا هاتين التجربتين اهتماماً خاصاً، لأنهما أصبحتا نموذجاً يُحتذى لغالبية دعاة الوحدة القومية العربية، خاصة منذ أوائل القرن العشرين. وقد كانت سلطة حزب البعث في سورية والعراق نموذجاً للفاشية الإيطالية.
الهوامش
7 - نقلا عن: توشار، جان تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص 593.
8- توشار، جان: تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص 598.
9 - نقلا عن: توشار، جان تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص 603.