تعددية الثقافات لا مركزيتها


حسن مدن
2020 / 10 / 20 - 22:32     

تفي بدايات القرن العشرين وضع المفكر الأمير شكيب أرسلان مؤلَّفاً بعنوان: "لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟"، والمقصود بغيرهم، في حينه، كان الغرب، أوروبا منه خاصة، وهذا السؤال طُرح بصيغ مختلفة في كتابات وخطب كل رموز الفكر التجديدي العربي، على تلاوينهم، فنجده عند رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي، وسواهم، بمن فيهم من تلاهم.
وكان منطقياً أن تكون أعين هؤلاء مصوبة نحو أوروبا، التي قصدها بعضهم للزيارة، أو الإقامة، ومن وجهة نظر الجغرافيا فإن ما يفصل بين العرب، في مشرقهم ومغربهم، وأوروبا، ليس سوى البحر الأبيض المتوسط، فحين ينتقلون من الضفة التي تقع فيها بلدانهم حيث ولدوا، ونشأوا، ويقصدون الضفة الأخرى تنتابهم الدهشة من الفوارق الكثيرة في كل شي: النظام، والنظافة، وحسن الإدارة، ونهضة الصناعة، ورقي الثقافة.. الخ.
كانت أوروبا هي الآخر بالنسبة لهؤلاء، ورغم التبدلات والتحولات العميقة في الاصطفافات الدولية في عالم اليوم، ما زال العرب، أو الكثير منهم، سواء كانوا نخباً حاكمة، أو مشتغلين بالثقافة والفكر والعلوم، لا يرون "الآخر" إلا في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، التي هي بوصف المفكر التونسي هشام جعيط، أوروبية هي الأخرى، ولا نلتفت إلى ما في العالم من "آخرين" علينا أن نرى أنفسنا في مراياهم، لا أن نبقى مسمرين أمام المرآة الأوروبية وحدها.
قيل ويقال كلام كثير عن الصين بوصفها القوة الاقتصادية الصاعدة في عالم اليوم التي ستقصي الولايات المتحدة من موقعها الأول في اقتصاد العالم قريباً، وقبل ذلك قيل كلام كثير عن اليابان ونهضتها الصناعية، هي التي خرجت منهزمة، مدمّرة، من الحرب العالمية الثانية، للدرجة التي خال فيها المنتصرون عليها أنه لن تقوم لها قائمة بعدها، فإذا بها تغدو ما غدت عليه من قوة، وتأثير.
يمكن أن نشير هنا إلى الهند أيضاً، التي رغم كل تعقيدات نسيجها السكاني وما تعانيه من نسبة فقر عالية، تشق طريقها نحو المستقبل بكل ثقة، وتتبوأ مكانة لا تخطئها العين في عالم اليوم، وتحقق تقدماً لافتاً في اقتصاد المعرفة، لأنها أحسنت تعلم لغة العصر، لا الذي نعيش فيه فقط، وإنما الذاهبين إليه أيضاً.
حان الوقت منذ زمن لأن يلتفت العرب إلى أن في العالم أكثر من "آخر"، ولا بأس أن نولي علاقتنا بالغرب ما هي جديرة به من اهتمام، ولكننا مطالبون بأن نلتفت شرقاً بجدية، فهناك الكثير مما يمكن تعلمه في كل شيء.
ثمة أوجه من التعاون اليوم بين بعض بلداننا العربية والصين مثلاً، وبشكل خاص في الحقل الاقتصادي - التنموي، لكن حيز هذا التعاون يظل قليلاً لو قارناه بنظيره مع بلدان غربية، مع أن العوائد التي يمكن أن تجنيها بلداننا من تعاونها معها لن تقل عن تلك العائدة من التعاون مع الغرب، الذي تمارس بعض دوله أوجه ابتزاز وضغوط لقاء تقديمها أي عون.
وهنا نريد التوقف أكثر عند حقل مهم آخر في الانفتاح على الآخر غير الغربي، هو حقل الثقافة، فلو قارنا عدد الدارسين العرب للغتي الصين واليابان، مثلاً، والمتخصصين في ثقافة وتاريخ هذين البلدين وسواهما من بلدان آسيا الناهضة، مثل كوريا وحتى ماليزيا ذات الغالبية المسلمة، سنجده محدوداً، بل لا يكاد يذكر، مقارنة بعدد الدارسين للإنجليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات الأوروبية، والمتخصصين في آدابها، وتاريخها.
لا معرفة لديّ بالحال في البلدان العربية المختلفة، ولكن بوسعي أن أشير إلى تجربة كليات الألسن في الجامعات المصرية المختلفة، التي يدرس فيها طلبة وطالبات لغات وثقافات آسيوية، وسبق لنا هنا، قبل شهور قليلة، أن أشرنا إلى شابتين مصريتين درستا اللغة الصينية في مصر، هما يارا المصري ومي عاشور، ترجمتا عدداً من روائع الأدب الصيني الحديث، خاصة في مجال الرواية، وهذا مثال على ما يمكن للتعليم أن يؤديه من دور في تعريفنا بتاريخ وحضارة وثقافة أمم مهمة.
لكن المطلوب في هذا المجال ما زال كثيراً، وما تمّ منه يظل متواضعاً قياساً بالمنشود، ومسؤولية القائمين على التعليم الجامعي، بخاصة، في بلداننا مسؤولية كبرى، في فتح المزيد من الكوى على تلك الآداب والثقافات، كما فعلنا مع الآداب الأوروبية المختلفة، خاصة منها الأنجلوسكسونية والفرانكفونية.
ولا تقل أهمية مسؤولية المثقفين العرب أنفسهم في هذا المجال، إذ لا يحضرني سوى اسم المفكر العراقي الراحل هادي العلوي الذي عاش سنوات في الصين، دارساً لفلسفتها خاصة، والشاعر السوري علي كنعان الذي عاش في اليابان وعرّفنا إلى نماذج من أدبها في حقلي الرواية والشعر.
علينا الذهاب نحو تعدد الثقافات، والخروج من طوق المركزية الأوروبية.