-كونغ- الذي غاب عن حانة الفقراء


ملهم الملائكة
2020 / 10 / 17 - 18:26     

قصة من الأدب الاشتراكي الصيني قبل العصر الشيوعي للكاتب الصيني لوسون*

لم تكن محلات بيع النبيذ في لوشين تشبه مثيلاتها المنتشرة في أرجاء الصين الأخرى، فجميعها كانت مزودة بدولاب ذي زاوية في الجهة اليمنى المواجهة للشارع، حيث يحفظ الماء الدافئ المهيأ لتدفئة النبيذ.
واعتاد الرجال بعد أن يعودوا من أعمالهم منتصف النهار أو في المساء أن يشتروا طاساً من النبيذ كانت تكلف قبل عشرين سنة أربع كاشات، ولكنها تكلف الآن عشرة، حيث يكرعون ما فيها وهم واقفون إلى البار، ثم يسترخون بعد ذلك، وبكاش آخر يبتاعون طبق فول سوداني أو فاصوليا مفلفلة ليكون مزة للنبيذ، ويمكن أن أيضا بدرزينة من الكاشات ابتياع صحن من اللحم.
ولكن أغلب الزبائن كانوا ينتمون إلى طبقة ذوي المعاطف القصيرة، وقلة منهم كان بوسعهم شراء اللحم. الرجال ذوو المعاطف الطويلة هم وحدهم كانوا يدخلون إلى الصالة المجاورة، ويطلبون النبيذ وأطباق اللحم حيث يتمتعون بها وهم جلوس.
في الثانية عشرة من عمري بدأت أعمل نادلاً في حانة "سين إنج" الواقعة عند مدخل المدينة، وقد ارتأى صاحب الحانة أنني أغبى من أن أعمل في صالة ذوي المعاطف الطويلة لذا فقد عيّن لي عملاً في الصالة الخارجية، وبالرغم من أن إرضاء الزبائن ذوي المعاطف القصيرة كان أسهل، إلا أن وجود بعض المشاغبين بينهم كان يعرقل سير العمل.
كانوا يصرون على أن ينظروا بأم أعينهم إلى النبيذ وهو يُغرف من البرميل، كي يروا أن كان النبيذ مخلوطاً بالماء الذي سيترسب في قعر البرميل، وبعد ذلك يعاينون بأنفسهم انغمار الطاس بالماء الساخن لتدفئة النبيذ.
تحت مثل هذه الرقابة المشددة، كان يصعب عليّ كثيراً أن أغش النبيذ بخلطه بالماء، لذلك، وبعد أيام قليلة قرر مستخدمي عدم صلاحيتي لهذا العمل، ولحسن حظي أنّ سيداً ماجداً كان قد أوصى صاحب الحانة بأمري، ولهذا السبب لم يطردني الأخير، بل حولني إلى عمل ممل آخر هو تسخين النبيذ.
منذ ذلك الحين فصاعداً كنت أقضي طيلة النهار واقفاً خلف البار منشغلاً تمام الانشغال بواجباتي، ورغم أن صاحب الحانة اقتنع بعملي هذا، إلا أني بدأت أجده رتيباً تافهاً.
مستخدمنا، كان رجلاً عنيف المظهر، والزبائن كانوا من النوع نكد المزاج، لذا فإن مسألة أن يبقى الفرد مرحاً كانت مستحيلة.
ولم تكن الضحكات تسمع في الحانة إلا حين يأتي "كونغ آي شي"، ولهذا لم يبرح الرجل ذاكرتي قط.
كان كونغ الوحيد بين الزبائن ذوي المعاطف الطويلة الذي يشرب طاس نبيذه واقفاً. كان رجلاً ضخم البنية ذو لحية كبيرة شعثاء يتخللها شعر أبيض، غريب الشحوب وذا ندب تظهر دائماً في غضون وجهه. ورغم أنه كان يرتدي معطفاً طويلاً، فقد كان معطفه رثاً قذراً، ويبدو كأنه لم ينظف أو يرقّع منذ 10 سنوات!
في حديثه كان يستعمل عدداً كبيرا جداَ من الألفاظ المنقرضة والمهجورة، لذا كان من المستحيل فهم نصف ما يقوله.
وفي كل مرة يأتي فيها إلى الحان، كان كل واحد من الزبائن ينظر إليه ويضحك مع نفسه، ثم يصرخ أحدهم: كونغ آي شي هناك بعض الندب الجديدة على وجهك!
متجاهلاً تلك الملاحظة، يتجه كونغ إلى البار ليأمر بطاسين من النبيذ، وصحن فاصوليا مفلفلة، ثم يقدم تسع كاشات، حيث سيصرخ شخص ما متعمداً رفع نبرته: لا ريب أنك تسرق ثانية!
فيتساءل كونغ فاتحاً عينيه إلى أقصاهما: لماذا تفسد سمعتي الطيبة دون مبرر؟
-أيّ سمعة طيبة؟ أمس الأول رأيتك بأم عيني معلقاً وقد اشبعت ضرباً لسرقتك كتباً من أسرة "أو"!
فيتورد وجه كونغ خجلاً وتبرز التغضنات في جبينه، ويحتج قليلاً قائلاً: أخذ كتاب يهم طالب علم لا يمكن أن يعتبر سرقة!
ويعقّب بعد ذلك مستشهداً بالكلاسيكيات الصينية المعروفة من قبيل "الرجل الكامل قنوع بالفقر"، ويتبع ذلك بخليط من التعابير القديمة المهجورة، حتى يجأر كل واحد من الجالسين بالضحك، وتمسي الحانة كتلة مرح.
ومن القيل والقال، سمعت أن كونغ آي شي قد درس الأدب الكلاسيكي، ولكنه لم ينجح قط في الامتحان الرسمي، ولم تكن له وسيلة يتعيش بها، لذا بات يزداد فقراً حتى نزل إلى درك الشحاذة.
ولحسن حظه، كان كونغ خطاطاً جيداً، واستطاع أن يمارس مهنته ليعين نفسه، ولكن ولسوء حظه هذه المرة كانت له بعض السقطات، ومنها أنه كان سكيراً كسولاً، لذا فقد كان يختفي عدة أيام بعد التزامه بأيّ عمل للخط، آخذاً معه الورق والكتب والريش والأحبار! ولما تكرر منه مثل هذا مراراً عدة، لم يعد أحد يرغب في استخدامه كناسخ، وهكذا لم يبق له ما يتعيش منه إلا السرقات الصغيرة!
أما في حانتنا فقد كان سلوكه نموذجياً، فهو لم يتأخر مرة واحدة في سداد ديونه، رغم أن أن اسمه في بعض الأحيان يظهر في لائحة المدينين التي نسجلها، فإنه وعلى كل حال كان خلال أقل من شهر يسدد ديونه ويمحو اسمه من اللائحة.
وبعد أن يتجرع نصف طاس النبيذ، يشرع كونغ باستعادة هدوئه، لكنّ أحدهم يعود ليستفزه بالسؤال: كونغ آي شي هل تعرف حقاً القراءة؟
وإذا تواضع كونغ مواصلاً الاستماع بهدوء ومعتبراً السؤال خارجاً عن نطاق التحقير المتعمد، فإن السائل قد يستمر قائلاً: كيف إذن لم تجتز بنجاح حتى الامتحان الرسمي التمهيدي؟
عندها يغتم كونغ، ويبدو عليه الانزعاج، ثم يشحب وجهه وترتجف شفتاه لتنطقا بتلك الألفاظ العتيقة البذيئة الغامضة، فينفجر الجميع بالضحك من صميم قلوبهم، ويعم الحانة الحبور والبهجة.
في مثل تلك المناسبات، كان بوسعي المشاركة في الضحك دون أن يوبخني رئيسي الذي كان يوجه بنفسه أسئلة من هذا القبيل لكونغ، كي يثير الضحك ويخلق جواً من المرح في الحان. ولأن كونغ يدرك عدم جدوى الرد عليه ومشاركته الحديث، فإنه اعتاد أن يحادثنا نحن الصغار، وفي إحدى المرات سألني: ألم تنل أيّ قسط من التعليم؟
وحين حركت رأسي بشارة الإيجاب قال: حسن إذن، سأختبرك! كيف تكتب الحرف أوي في كلمة "أوي سينغ"؟
وفكرت مع نفسي: لن أسمح لشحاذ أن يختبرني، لذا استدرت جانباً متعمداً اهماله، وبعد أن انتظر بعض الوقت، عاد ليقول بكل جد ووقار: أنت لا تستطيع أن تكتبه، سأريك كيف يجب أن تفعل ذلك، يجب عليك أن تحفظ ذلك في ذاكرتك، يجب عليك دائماً أن تتذكر مثل هذه الحروف، لأنك إذا امتلكت في المستقبل مخزناً خاصاً بك فسوف تحتاجها.
وبدا لي حينها أني جد بعيد عن فكرة امتلاك مخزن شخصي خاص بي، علاوة على أن مستخدمنا لا يضع طبق "أوي سينغ"، وهو نوع من المزات، في وجباته قط، لذا اجبته ساخطاً بفتور: ومن الذي سأل مشورتك؟ أليس هو الحرف الذي يظهر في كلمة جذور العشب؟
فابتهج كونغ ونقر باثنين من أظافره الطويلة على طاولة البار قائلاً: صحيح، صحيح! ولكن هناك أربعة اشكال لكتابته، هل تعرفها؟
ونفذ صبري، فقطبت أساريري منصرفاً عنه، في وقت أخذ هو يغمس أصبعه في النبيذ ويخط على لوح البار، لكن حين لحظ عدم اهتمامي بالأمر، تنهد وارتسم في عينيه ألم واضح.
في بعض الأحيان، يتناهى إلى اسماع أطفال الحارة أصوات الضحك في الحانة، فيدخلونها صامتين ويلتفون حول كونغ، الذي يعطي كلاً منهم حبة فاصولياء مفلفلة، ويبقى الأطفال بعد التهام حبات الفاصولياء، ملتفين حوله وعيونهم معلقة بطبق الفاصولياء المفلفلة!
وباهتياج يغطي كونغ الطبق بيده منحنياً عليه من منتصف خره قائلاً: لا يوجد الكثير منها، ليس عندي منها الكثير!
ثم يعتدل في وقفته وينظر إلى الصحن مردداً: ليس كثيراً قط، ليس عندي كثيراً منها بلا شك!
ساعتها بنفض عنه الصغار مهللين صاخبين!
لقد كان كونغ آي شي شخصاً مسليّاً جداً، وعلى كل حال فقد كان حالنا ماشياً على خير ما يكون دون وجوده بيننا أيضا!
وفي أحد الأيام، قبيل مهرجان منتصف الخريف بأيام، كان صاحب الحانة منشغلاً إلى أبعد حد في تسوية حساباته، وفجأة وضع السجل وقال: إن "كونغ آي شي" لم يأتِ إلى هنا منذ زمن، ولا زال مديناً لنا بتسعة عشر كشاً!
ونبهني حديث المعلم إلى طول المدة التي مضت دون أن أرى خلالها كونغ.
-إنه لا يستطيع المجيء! علق أحد الزبائن مضيفاً: إن قدميه قد كسرتا في آخر مرة ضرب فيها بوضع الفلقة! هاهاهاه...
-كان يسرق ثانية، لكن حماقته دفعته إلى محاولة سرقة ناظر المدرسة، كما لو كان عملاً من هذا النوع يمكن أن يمر بكل بساطة!
وماذا بعد؟
حسناً ...لقد كسرت قدماه!
وماذا حدث بعد ذلك؟
بعد ذلك... بعد ذلك، من يدري...لعله مات!
ولم يلح صاحب الحانة في السؤال، بل عاد يواصل تسوية حساباته متمهلاً وهو يحصي ديونه على الآخرين.
بعد مهرجان منتصف الخريف بدأت الريح تزداد برودة يومأً بعد يوم إيذاناً باقتراب الشتاء. وهكذا كنت أمضي كل وقتي قريباً من المدفأة، وفي بعض الأحيان كنت ارتدي كنزتي المبطنة. وفي إحدى الأضاحي، وبينما كان المحل فارغاً، كنتت جالساً مغمض العينين فإذا بي أسمع صوتاً يقول: سخن لي طاساً من النبيذ!
كان الصوت واطئاً جداً، لكنه مألوف النبرة، وحين رنوت إلى أعلى لم أشاهد أحد، لكني نهضت وتطلعت باتجاه الباب، لأجد كونغ آي شي مقرفصاً بحذاء البار عند العتبة، حيث كان مكفهر الوجه منهكه، ويبدو في حالة رهيبة. على كتفه يضع سترة مقلمة مرقّعة، ويجلس على الأرض متصالب الساقين فوق خرقة سجاد مربوطة بحبل من القش إلى كتفه، وحين لمحني أرنو إليه كرر طلبه قائلاً: دفيء لي طاساً من النبيذ!
في تلك الأثناء، سمع صاحب الحان هذا الحوار، فانحنى فوق طاولة البار ليخاطب كونغ وهو يتطلع إليه: هل هذا كونغ آي شي؟ لا زلت مديناً لي بتسعة عشرة كاشاً!
-تلك سوف اسددها في المرة المقبلة... أجاب كونغ ناظرا إلى أعلى باكتئاب وتوسل: لدي الآن نقود، وأريد نبيذاً جيداً!
وكما في سابق الأيام ابتسم صاحب الحان لنفسه وقال: كونغ آي شي، لقد كنت تسرق ثانية!؟
وبدلاً من الاحتجاج بقوة أجاب الأخير ببساطة: هل تعجبك نكتتك؟
-نكتتي؟ إذا لم تكن تسرق فلماذا كسروا قدميك؟
لقد سقطت، قال كونغ بصوت هامس مضيفاً: لقد انكسرتا في سقطة! وناشد بعينين حزينتين صاحب الحان أن يدع المسألة جانباً.
في تلك الأثناء، تجمع عدد من الزبائن وصاروا يضحكون من الحوار ويسخرون من كل المشهد.
سخنت النبيذ، ثم حملت طاسته إلى العتبة حيث يقعي كونغ، الذي اخرج 4 كاشات من جيب سترته الممزقة ووضعها في يدي. ولحظت إبان ذلك أن كفيه قد غطاهما الوحل، لا ريب أنه قد زحف متكئاً عليهما حتى وصل الحانة.
بعد أن أتى الرجل على نبيذه، غادر المكان وهو يسحل نفسه على يديه بين ضحكات الآخرين وتعليقاتهم.
مضى زمن طويل لم نر فيه كونغ ثانية، وفي نهاية العام، وحين بدأ صاحب الحان تدقيق حساباته قال مرة أخرى: لا زال كونغ آي شي مديناً لنا بتسعة عشرة كاشاً.
وفي عيد زورق التنين في العام التالي، كرر صاحب الحان قوله ذاك ثانية، ولكن حين جاء مهرجان منتصف الربيع لم يقل صاحب الحان شيئاً.
وحلت سنة جديدة أخرى لم نر فيها كونغ مرة ثانية، بل لم أره قط منذ تلك الزيارة المزرية حتى الآن، ربما يكون "كونغ آي شي" قد مات حقاً!

* Lu Xun المعروف باسم (Lu Hsun) المولود عام1881 والمتوفى عام 1936 يعتبر أحد أبرز كتاب الأدب المعاصر في الصين. ويعد إلى حد كبير كاتباً يعبر عن هموم الطبقة العاملة التي عاش معها وكتب لأجلها. امتازت أعماله بنقد القيم الثقافية والاجتماعية الموروثة التي سادت المجتمع الصيني، وهو أحد أبرز الكتاب الاشتراكيين الذي عاشوا في الصين قبل أن تسودها الشيوعية.