عدت نفسها ابنة القرن العشرين / وفاة روزانا روساندا اهم رموز اليسار الإيطالي


رشيد غويلب
2020 / 10 / 15 - 01:43     

اعداد: رشيد غويلب
في العشرين من أيلول الفائت توفت عن عمر يناهز 96 عاما روزانا روساندا المناهضة للفاشية والمؤسِّسة المشاركة لصحيفة "إلمانيفستو"، التي وصفت بكونها صحيفة شيوعية "منشقة" والتي تصدر حتى الآن يوميا. لقد ظلت روزانا حتى اللحظة الأخيرة شيوعية، مصرة على أن اليسار يجب أن يدافع عن هويته - ويجب أن يقف بثبات إلى جانب المستغَلين والمضطهدين.
حملت مذكراتها الصادرة عام 2005 عنوان "ابنة القرن العشرين". وعكس الكتاب الذي نُشر بالإنكليزية بعنوان "الرفيقة من ميلانو"، التدهور الكارثي لليسار الإيطالي. واحتوى قراءة نقدية لعقود صعوده.
خلال سنوات الحرب العالمية الثانية انغمرت روزانا في النضال الشيوعي، وأنظمت في التاسعة عشر من عمرها لحركة الانصار عام 1943، قبل أن تنضم إلى الحزب الشيوعي الإيطالي عام 1946. وعلى الرغم من لعبها دورا قياديا في عمل الحزب الثقافي في
سنوات ما بعد الحرب، الا انها اضطرت ورفاقها الى مغادرة الحزب في عام 1969

لم تكن روزانا آخر من بقي على قيد الحياة من حركة الأنصار، ولا الشاهد الحي الأخير على تجربة الحزب الشيوعي الإيطالي لكن رحيلها مثل خسارة مؤلمة، لأنها كانت من آخر رموز المقاومة التي استمرت في المشاركة النشطة في الحياة العامة. وحتى الأشهر القليلة الماضية، كانت مرشدة أخلاقية وسياسية استندت على ماضي بطولي وآمال عظيمة.

الطريق الى الشيوعية

ولدت روزانا روساندا في عام 1924، خلال السنوات الأولى لتشكل نظام موسوليني الفاشي، لعائلة من الطبقة المتوسطة في مدينة بولا (الآن ميناء في كرواتيا). وهي ابنة كاتب عدل، أصبحت عائلته فقيرة خلال سنوات الكساد العظيم، وانتقلت الطفلة مع العائلة بين العديد من المدن، الا ان استقر بها المقام في ميلانو.

في ميلانوا أكملت الثانوية مبكرا، وتتلمذت على ايدي استاذ الفلسفة الشيوعي أنطونيو بانفي. لقد كانت هذه الصلة حاسمة في مسارها كما كتبت: "لو لم تكن الشيوعية موجودة في البيت"، ما كان لها ان تنغمر في مقاومة الفاشية. وكان رودولف بن استاذها زوجها الأول.

في الثامن من أيلول 1943 دخلت قوات المانيا النازية إيطاليا، وخلال العشرين شهر الأولى انضمت روزانا ورفاقها الى حركة المقاومة بقيادة الحزب الشيوعي الإيطالي. وعملت روزانا مراسلة سرية، ودعمت المقاومة بالبضائع المهربة. شكلت المقاومة لروزانا والكثير من أبناء جيلها صحوة سياسية، اتاحت لهم امكانية الاشتراك النشط في سن مبكرة بتشكيل العالم، فضلا عن العلاقة بالطبقة العامة الإيطالية والتعرف على آفاق سلطتها المحتملة.
بعد انتهاء الحرب، وفي ربيع عام 1945، منحت روزنا عضوية الحزب الشيوعي، وسرعان ما تقدمت هرمه التنظيمي. فبالإضافة إلى عملها في دار نشر هوبلي في ميلانو (وتعزيز العلاقات الثقافية مع الاتحاد السوفياتي)، عُهد إليها في عام 1948 بإدارة البيت الثقافي للحزب في المدينة.
إلى جانب تورينو، كانت ميلانو مركزًا للصناعة الكبيرة، التي تحول بعض مصانعها الى "حصون حمراء" مثل مصانع فلك للصلب وإطارات بيريلي وغيرها، حيث شهدت إضرابات ضخمة في السنوات الأخيرة من الحرب، وتحولت بروليتاريا المصانع الى قوة سياسية صاعدة.
بقدر اعجاب روزانا بالكتائب العمالية، كان التغيير السياسي بعد نهاية الحرب مباشرة كبير. لقد عزز الحزب الديمقراطي المسيحي هيمنته السياسية، وفي ربيع عام 1947 اجبر الاشتراكيين والشيوعيين على الخروج من حكومة مناهضة الفاشية. ولم يشارك الشيوعيون في حكومة ما بعد ذلك.
لقد كان الحزب الشيوعي قوة جماهيرية، لكنه تعرض أيضًا لضغط شديد وأجبر باستمرار على الدفاع عن شرعيته وحقوقه الديمقراطية الأساسية. وفي سياق هذا الصراع، عملت روزانا على تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في بناء نوع من المجتمع الشيوعي المضاد - وخصوصا تقريب الفنانين والكتاب والمسرحيين المعاصرين الى الجماهير العاملة.

في عام 1958 أصبحت روزانا عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإيطالي، والمسؤولة عن السياسة الثقافية للحزب، ولاحقا عضو في البرلمان الإيطالي، ومن هذا الموقع كتبت سلسلة من المقالات في مجلة "ارينا شيتا" [الولادة الجديدة] التي كان يصدرها زعيم الحزب بالميرو تولياتي. وعلى الرغم من أن قيادة الحزب كانت ضد نشر رواية دكتور شيفاغو لبوريس باسترناك، الا ان الرواية نشرت بالإيطالية، لأول مرة في عام1957 من قبل عضو الحزب الشيوعي الايطالي آنذاك فيلترينيلي بترجمتها الإيطالية قبل ظهورها بلغات أخرى، لقد منح تولياتي المثقفين فضاء من الحرية. مساحة الحرية هذه وفرت لروزانا إمكانية العمل المشترك مع شخصيات بارزة مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار ولويس أراغون، الذين وجدوا محاورًا أكثر إثارة للاهتمام في الحزب الشيوعي الإيطالي منه في حزبهم الشيوعي الفرنسي
وبعد انسحابها من ممارسة السياسة النشطة، كرست نفسها للعمل النظري والترجمة الأدبية. نشرت أعمالها عن الحركة النسوية الإيطالية، والجدل النظري بين المدارس الماركسية، وأوضاع اليسار الإيطالي، والسياسة الثقافية. لقد كانت أعمالها الأدبية مرادفة لإصداراتها السياسية، وأهمها ترجمات اعمال أعلام الادب العالمي حينذاك مثل هاينريش هاينه وتوماس مان إلى الإيطالية.



بعد المؤتمر العشرين للشيوعي السوفيتي

وبرزت بؤر توتر على خلفية التناقض ومحدودية إزالة تقاليد الستالينية في الأحزاب الشيوعية. وأثار وصول نيكيتا خروتشوف الى قيادة الدولة والحزب في الاتحاد السوفياتي ووفاة تولياتي، أحد الزعماء التاريخين للحزب الشيوعي الايطالي في عام 1964 أسئلة بشأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه العملية - وما هو نوع الثورة، إن وجدت، التي ما زال الحزب يتصورها.

وفي عام 1962، عُقد مؤتمر في معهد غرامشي شكك فيه بيترو إنغراو، الذي كان يعد نفسه حامل راية اليسار في الحزب الشيوعي الإيطالي بالتصور السائد في الحزب، والذي كان ابرز ممثليه جورجيو أمندولا، والقائل بأن مهمة الحزب هي "تحديث" و "استكمال الثورة البرجوازية الديمقراطية" في بلد تحكمه طبقة رجعية، لا تزال تتميز بملامح واثار فاشية. وكان ينطوي في نظر المعارضين على توجهات ديمقراطية اجتماعية.
حتى وأن كان انغراو في الغالب متردد في الإعلان عن معارضته، إلا أن روزانا وعدد من كوادر الحزب وجدوا في طروحاته فرصة للتعبير عن معارضتهم لسياسة الحزب. لقد حفزتهم الحركات التي نشأت في المصانع في بداية الستينيات، وكذلك الثورة الطلابية، التي عمت أوربا الغربية، التي بدأت في إيطاليا في نهاية عام 1967. وفي أيار 1968، واثناء احداث الثورة الطلابية، زارت روزانا جامعة باريس نانتير، وعاشت الأجواء عن قرب. واعتبرت موقف الحزب الشيوعي الإيطالي إزاء الثورة الطلابية محافظا: كان الشيوعيون أكثر المواطنين إخلاصًا على الإطلاق: كانوا مخلصين للدراسة والعمل والأسرة. كانت عقيدتنا على النقيض تمامًا من شعارات عام 1968، التي استنكرت الوظيفة الآمرة للنظام الاجتماعي الحالي ... لقد اعتبرنا كل شيء لم نتوقعه اضطرابا ".
في الحقيقة، لم يكن موقف الحزب الشيوعي الإيطالي شديد الرفض للحركة الطلابية، مقارنة بموقف الحزب الشيوعي الفرنسي منها. في تلك السنوات كان زعيم الشيوعي الإيطالي لويجي لونغو ، المناضل المخضرم والمشارك في الحرب الأهلية الإسبانية ومقاومة للفاشية ، والذي اصدر نداءَ بضرورة "تفهم" رغبات الطلبة.
الحركات الثورية آنذاك أثرت بشكل كبير على تصور روزانا المتغير لما ينبغي أن يكون عليه الحزب الشيوعي. في عام 1962 حاولت دعم المقاومة الإسبانية ضد فرانكو. وفي عام 1967 استقبلها فيدل كاسترو شخصياً في كوبا. واعتبرت بشكل متزايد كلاً من فيتنام والثورة الثقافية في الصين كمنارات جديدة للأمل في الشيوعية.
كان الحدث الحاسم في تحديد موقفها التدخل السوفيتي في تشيكوسلوفاكيا في آب 1968، ودفعها ومجموعة من الرفاق حولها الى معارضة أكثر حدة. لم يؤيد الحزب الشيوعي الإيطالي التدخل، كما كان موقفه ابان التدخل في المجر 1956، لكنه تبنى ما وصفته روزانا بـ "موقف مخفف يقترب من الصمت". عندما أشار لونغو إلى "الخطأ المأساوي" الذي ارتكبه ليونيد بريجنيف في اجتماع للجنة المركزية، بدأت روزانا مداخلتها في المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الإيطالي عام 1969 بموقف صريح: "لقد اجتمعنا في وقت يحتل جيش دولة تسمي نفسها اشتراكية، دولة اشتراكية أخرى".
ولعلمهم بعدم قدرتهم بالسيطرة على مؤتمر الحزب، وعلمهم أيضا بمدى عزلتهم خارج صفوف الحزب، اتخذ روزانا ورفيقاتها ورفاقها موقفًا وسطًيا: أسسوا مجلة عبروا فيها عن مواقفهم. ولم تكن هذه هي المرة الأولى، التي يتبع فيها هذا الأسلوب. وعندما أخبرت روزانا نائب سكرتير الحزب حينها إنريكو بيرلينغوير عن خطة لمجلة بحث وتحليل يرأس تحريرها لوسيو ماغري ، أكد لهم نائب السكرتير أن ذلك لن يؤدي الى طردهم من الحزب، في حين كان إنغراو ، الذي عارض اصدار المجلة، على يقين بان التسامح مع هذه المجموعة لم يطول مداه، وهذا ما حصل.

في تشرين الثاني 1969، أصبح هذا يعني بالنسبة لمجموعة المانيفستو أخيرًا الشطب: لم يتم طردهم رسميا من الحزب، بل تم استبعادهم، ما يعني الشيء ذاته تقريبا. ولم تلتئم هذه الجراح حتى منتصف الثمانينيات. وفي السنوات الأولى كانت هناك مؤشرا بعدم التسامح الكامل مع المانيفستو. لقد اشارت روزانا في مذكرات ان ابعادها من الحزب ليس هزيمة، بل تحدٍّ فكري وفرصة جديدين.
منذ صدور العدد الأول في حزيران 1969 تجاوز نجاح المجلة التوقعات حيث بلغت المبيعات 80 ألف نسخة، وكانت النضالات المتفجرة في المصانع، أو ما اطلق عليه حينها "خريف إيطاليا الساخن" بشير خير للمشروع، الذي سمته روزانا، بناء "جسور" بين الأفكار الشابة التي طرحت وحكمة اليسار القديم، الذي تقف خلفه الامجاد". وفي عام 1971 تحولت المجلة الى صحيفة يومية.

جريدة المنفستو
ظلت روزانا واحدة من أهم الشخصيات التاريخية المرتبطة بالمنفستو حتى عام 2012. كانت الجريدة المطبوع الأكثر حيوية بين قوى اليسار الماركسي الناقد للتجربة السوفيتية في السبعينيات. وامتازت الجريدة بتغطياتها للشؤون الدولية، وفي الحوارات السياسية والثقافية التي أجرتها مع شخصيات مثل غابرييل غارسيا ماركيز والزعيم الصيني دينغ شياو بينغ. وامتازت الجريدة بالخطاب المباشر مبتعدة عن الجمود الفكر، رغم ما كان يقال عن منهجها اليساري المتشدد. الى جانب الدفاع القوي عن النضالات النسوية في السبعينيات، والتزمت الجريدة خطا تحرريا، لا سيما فيما يتعلق بحقوق السجناء. وانتقدت روزانا بصوت عال موقف الحزب الشيوعي الإيطالي تجاه الجماعات المسلحة السرية مثل الألوية الحمراء.
, بعد فشل سياسة "الوفاق التاريخي" المبني على مشاركة الحزب الشيوعي مع الديمقراطي المسيحي في نحالف حكومي، وعودة الحزب الى موقف معارض اقوى، وضع حجر الأساس لعلاقات افضل مع الحزب الشيوعي الإيطالي.

وفي منتصف السبعينيات، أسست مجموعة حول الجريدة بمشاركة قوى اليسار الجديد الأخرى، حزب الوحدة البروليتارية للشيوعية، واوصل الحزب عدد من النواب في انتخابات 1976 الى البرلمان الإيطالي. ومن المعروف ان الحزب الشيوعي الإيطالي كان في هذه الانتخابات قريبا جدا من الوصول الى السلطة، لذلك كانت هناك خطط لحلف الناتو بالتدخل العسكري في حال فوز الحزب بالانتخابات. لقد عملت روزانا دوما على ريط المجموعات اليسارية حديثة التكوين حينها بالحزب الشيوعي الإيطالي، وهو ما حدث فعلا في عام 1984.

بعد عام 1991، كانت روزانا ورفيقها ماغري بين أكثر من طرحوا الأفكار بشأن ما يجب إنقاذه من تقاليد الحزب، بينما تحول أكثرية أعضاء وكوادره الى مواقع الديمقراطية الاجتماعية والليبرالية.
وحتى وقت قريب، كانت روزانا معلمة لليسار الإيطالي. وفي رسالة إلى مؤتمر "حزب اليسار" الصغير في عام 2017، شددت على الحاجة إلى إعادة اكتشاف بُعد الصراع وليس مجرد قبول الأفكار المبتذلة حول اختفاء الطبقة العاملة - سيكون ذلك بمثابة "استسلام غير مشروط لأولئك الذين كانوا يعتبرون في السابق أعداء للطبقة العاملة". لقد ظلت الأسئلة الكبرى المتعلقة بالعمل والطبقة ودورها السياسي التي أثارها القرن العشرين، وكذلك التجربة التاريخية للحزب الشيوعي الإيطالي مفتوحة، ولا يمكن الإجابة عليها، الا من خلال مناقشة جادة في أوساط اليسار، لكي يعود اليسار قوة مؤثرة في المجتمع مرة أخرى.

بالنسبة لروزانا، النصيرة الشيوعية حتى نهاية عامها الـ 96، لا ينبغي تمجيد الماضي أو اعتباره قبعة قديمة - بل يجب فهمه بعمقه الكامل، مع مراعاة صعوبة القرارات الحقيقية التي اتخذت، وأسباب عدم تحقق المسارات المختارة.
برحيل شخصية مهمة أخرى في اليسارا لإيطالي، تبدو أيام الأمل والنضالات الكبيرة بعيدة بعض الشيء، وبدرجة اقل ليست جزءا من الحاضر. ولكن بروح روزانا النقدية وثقافتها الكبيرة والتزامها بالمستغلين والمضطهدين، فان روزانا روساندا ليست مجرد "ابنة للقرن العشرين".

ان سيرة روزانا السياسية تؤكد مرة أخرى ، ان ممارسة النقد البناء وبروح التضامن لا تعني العداء للمشروع المشترك، فحال يتعرض مشروع التغيير الجذري الى انتكاسة او هزيمة، وجدنا روزانا والكثير من رفاقها في السنوات الصعبة في الصفوف الأولى لتجميع القوى وتعزيز دور الحزب باعتباره اهم أدوات التغيير.

روزانا روساندا مع فيدل كاسترو في جولة في كوباعام 1967


قي مكتبها عام 1987