أوتو غروس ، محلل نفسي نيتشوي ، بوهيمي ، داعي للحب الحر و اناركي وثني ، ترجمة مازن كم الماز


مازن كم الماز
2020 / 10 / 12 - 22:24     

حياته المبكرة - ولد غروس عام 1877 من زوجة مطيعة لاب بطريركي برجوازي هو هانس غروس ، بروفيسور نمساوي في علم الجريمة و "ابو" الطب الشرعي ( المعاصر ) . كان والده قمعيا و ذا شخصية مسيطرة سرعان ما سيتمرد اوتو عليها ( سيستخدمه في وقت لاحق كنموذج لكل ما يحتقره في مجتمعه المعاصر ) . و بحسب ( كارل ) يونغ نشأ اوتو شخصا مضطربا و مفرط الحساسية . أجبر هانس ابنه على دراسة الطب لكن بعد تخرجه كطبيب عام 1899 عمل اوتو كطبيب جراح على سفينة و سافر على متنها إلى بلدان امريكا الجنوبية "التي لا تخضع لأي قانون" . هناك اكتسب ميلا ( أو ربما شعر بانجذاب لأول مرة ) تجاه النمط الرومانسي من "النزعة البدائية" التي دعا إليها غوغان ( الرسام الفرنسي المعروف - المترجم ) . و هناك ايضا بدأ إدمانه على الافيون ثم الكوكائين . ربما يكون قد قرأ نيتشه لأول مرة هناك أيضا ، نيتشه الذي سيشكل بفلسفته نظرة غروس الديونيسيوسية للعالم .
محلل نفسي نيتشوي - مع عودته إلى أوروبا عام 1900 بدأ اهتمام اوتو غروس "بالعلم" الناشئ للتحليل النفسي و بحلول عام 1904 كان قد أصبح مناصرا مقربا لسيمغوند فرويد . مقاربته للتحليل النفسي كانت خارجة عن السائد ( بالنسبة لفرويد ) باستنادها أساسا على فلسفة نيتشه بدلًا من النظرية الفرويدية التقليدية الدارجة ( التي كانت إعادة صيغة برجوازية لنيتشه و داروين معا ) . سيسمي غروس فيما بعد "جلساته العلاجية" الفاضحة أو الجنسية "بالتكنولوجيا العملية للمشروع النيتشوي" . كانت تعديلاته على النظرية الفرويدية من شقين ، فمن جهة رفض انه من الممكن شفاء مريض التحليل الفرويدي بواسطة العلاج الفردي فقط ، بما أن المريض هو نتاج المجتمع بشكل من الأشكال فلا بد من تغيير هذا المجتمع أيضا. بالنسبة لغروس كان المجالان داخل الإنسان و خارجه مرتبطين ببعضهما . لهذا السبب زاد اهتمامه بالقضايا الثقافية و السياسية . كانت "هرطقته" الأخرى انه رفض تماما فكرة أنه لا بد من كبح أو قمع "اللاوعي" ( أو ارادة القوة ) للمحافظة على الحضارة . على العكس من ذلك اعتبر أن اي قمع ضار سيكولوجيًا و شجع مرضاه على التخلص من كل كبت خاصة الكبت الجنسي ( معطيا زبائنه من النساء دروسا عملية في ذلك في أغلب الأحيان ) . لم ترق هذه الأفكار لفرويد لكنه كان أكثر انزعاجا من إدمان غروس للمخدرات و من سلوكه "الجامح" ( كان غروس قد بدأ حينها بالتعرف و مخالطة فنانيين طليعيين * و اخذ يقضي اوقاتا طويلة في مقاهي البوهيميين - حيث غالبا ما كان يمارس علاجاته كعرض من نوع خاص أكثر مما كان يمارسها كجزء من عمله الرسمي ) و قد عمل فرويد على إدخاله إلى عدة مستشفيات طوال علاقتهما .المضطربة في ذلك الوقت كان والد غروس يعتقد أن غروس قد جن تماما و حاول هو أيضا أن يدخله إلى مستشفى للأمراض العقلية على أساس انه مجنون لكن علاقات غروس مع العديد من الأطباء النفسانيين المعروفين و خبرته هو ذاته كطبيب أمراض نفسية أنقذته من هذا المصير . لكن هذه التجربة دفعته للانقلاب على الطب النفسي بشكله السائد و دفعته ليكون أحد رواد الحركة المناهضة للطب النفسي السائد . كان تفسير غروس نفسه "لجنونه" تفسيرا نيتشويا يقوم على تأكيد الحياة و على حدة و حرية التجربة الحياتية . على الرغم من كل ذلك كان فرويد يحمل الكثير من الاحترام لغروس في هذه المرحلة و يعتبره تلميذه الاكثر تقدما إلى جانب يونغ و وريثه المحتمل حتى لو كان هذا الوريث مهرطقا و مسببا للإحراج لكن هذا سرعان ما سيتغير قريبًا.
أسكونا - أصبحت هذه البلدة السويسرية و البلدات المجاورة مهدا لثقافة أوروبية بديلة مع بداية القرن الماضي . أسسها خليط من الفلاسفة الاثرياء و الاناركيين الراديكاليين و "دعاة عصر جديد" لتصبح حديث الانتلجنسيا القارية و ليزورها و لو لبعض الوقت كل الشخصيات الثقافية الرئيسية أو البارزة في ذلك الوقت . زار غروس البلدة لأول مرة عام 1905 و سيستمر بالعيش فيها بشكل متقطع حتى عام 1913 . بينما كان يعيش هناك أصبح أشبه بغورو ( معلم ) في منتجع الكومونة على جبل فيريتاس حيث مارس علاجه و قدم محاضرات للقاطنين هناك و لكل الذين مروا من هناك . أمكنه خاصة ان يضع نظرياته موضع التطبيق و أصبح هناك مركزا لطائفة جنسية تبشر ب"الحب الحر" . لكن الجنس الحر لم تكن الفكرة الراديكالية الوحيدة الذي دعا إليها غروس في اسكونا ، حيث ابتدع ايضا جملة من الطقوس البوهيمية ( بما في ذلك الفكرة المنتشرة عن استخدام العقاقير التي تؤثر على الدماغ كوسيلة للتحرر السيكولوجي ) . أصبح غروس بالفعل أشبه بممهد او مقدمة لظهور فيلهلم رايتش و تيموثي ريلي و قد اندمجا في شخص واحد ( كلاهما كانا يدينان لغروس ، فيلهلم رايتش الشاب الذي انضم إلى حلقة فرويد بعد طرد غروس منها بوقت قصير و هو في عز فضائحه كما قرأ وقتها ما كتبه غروس بينما انتهى كثير من سكان اسكونا في ملاذات بوهيمية أخرى كباريس حيث سيتشاركون إلى جانب منفيين امريكان "منحطين" مثل هنري ميلر الذي سيحمل افكارهم معه بعد عودته إلى الولايات المتحدة ) . في اسكونا سينتهي غروس إلى تحدي الأخلاق السائدة , ليس فقط برفضه الزواج الأحادي على انه قمعي و ضار ( بينما دعا لما أسماه "بالإخلاص لاكثر من شريك" بدلا مما قد يسمى عوضا عن ذلك بالاختلاط ) بل ايضا كمشارك في علاج أو حتى قتل المرضى المصابين باكتئاب مزمن ( بعد أن يتأكد من ان هذا هو خيارهم "الحر" ) . و عندما ترافق ذلك مع الشائعات عن "جلسات علاج كانت عبارة عن حفلات جنس جماعية"إلى جانب استخدامه الافيون و الكوكائين ( إضافة الى الحشيش و المسكرات ) كعقاقير تقوي الشعور بالحياة و عن علاقاته الجنسية المتعددة بالمرضى ، أصبح اسم غروس مرتبطًا بالفضائح و مثارا للإعجاب في نفس الوقت في أنحاء أوروبا. لكن اسكونا كانت تجربة ذات وجهين او جانبين بالنسبة لغروس فهناك سيتحول إلى الاناركية الشيوعية بتأثير أصدقاءه الاناركيين من ايريك موهسام ( و هو شاعر و داعية سلام ) إلى إرنست فريك ( رسام و اركيولوجي و داعية لفعل مباشر اكثر عنفا ) لكن الأكثر أهمية كان تحوله إلى الوثنية الجديدة تحت تأثير داعية او متنبئ آخر هو يوهان باتشوفين. كان باتشوفين باحثا انثروبولوجيا و في علم الأساطير و قد قام تحت تاثير نظريات نيتشه الثقافية المبكرة بتحليل الميثولوجيا اليونانية الرومانية ليجد فيها "أدلة " على الأديان ما قبل التاريخية التي رآها كانحطاط لعصر ماضي ذهبي عبر المراحل التالية :
1- الثقافة : كان مجتمع الصيادين و جامعي الثمار البدوي يقوم على الزواج المتعدد و على "شيوعية بدائية" حرة و يعبد في نفس الوقت إلهة الطبيعة ( التي ستتجسد فيما بعد في أفروديت ) ، و يقوم على الغريزة و الرغبة
2- ثقافة الحق الاموي : و هو مجتمع زراعي مستقر يقوم على تعدد الأزواج و النظام الأموي و على عبادة آلهة القمر و العالم السفلي ، نموذجها هو الالهة ديميتر ( إلهة الزراعة و الحصاد في الاوليمب ) ، يقوم على العاطفة و الحب
3- الثقافة الديونيسية : مجتمع زراعي متأخر يقوم على تعدد الزوجات و النظام الأبوي ، مكرس لعبادة ديونيسيوس ، مرحلة انتقالية وسيطة تقوم على الرغبة و الحدس
4- الثقافة الابولونية : "حضارة" كلاسيكية تقوم على العائلة الاحادية و النظام البطريركي الأبوي و عبادة إله الشمس الذي يتجسد في أبولو ، و تسوده الثقافة و العقل
اعتقد باتشوفين ان هذه الأطروحة التبسيطية تصح على كل مكان و انه يمكن استنباط الأنثروبولوجيا من دراسة الميثولوجيا فقط . بينما لم يوافق كل أنصاره على هذا التحليل ( كما ان أطروحته هذه لا تدعمها أيضا الانثروبولوجيا المعاصرة ) لكن كثيرون استحوذت عليهم القوة الاسطورية لتحليله و الغنى الشعري لرؤيته المختلفة الأسطورية للتاريخ و العالم في معارضة القراءات المسيحية او العلمية الدارجة و المقيتة . أكثر من ذلك هناك حقيقة بديهية ما في تصور باتشوفين كتبسيط اسطوري وظيفي للقوى الثقافية النفسية التي تعمل و توجد خلف التطور الاجتماعي المعقد . رأى غروس في أفكار باتشوفين نموذجًا للسردية التاريخية لسيكولوجيته الاجتماعية القائمة على التحليل النفسي . اعتقد انصار باتشوفين الراديكاليين ايضا من أمثال غروس أن هذه العملية قابلة لأن تعكس بالعودة التدريجية عبر تلك المراحل إلى الوراء و التي ستنتهي بإقامة يوتوبيا جديدة . اعتقدوا أن ذلك كان ممكنا لأن سيكولوجيتنا قد تكيفت بفعل تلك الثقافات و الحضارات و أننا نحمل كل تلك الطبقات في سيكولوجيتنا . رأوا ان المراحل الأولى قد استغرقت أوقاتا أطول من تلك المتأخرة و لذلك فإنها محفورة بعمق في طبيعتنا البشرية . اعتمادا على كل هذه الافكار طور غروس فلسفة راديكالية اكتسبت شعبية كبيرة يومها و تبدو اليوم سابقة لوقتها بنصف قرن ( وضعت الأساس لما سيجري بعد خمسين عاما ) انتهت بجمل معبرة مثل "سيكولوجيا اللاوعي هي فلسفة الثورة" و "فقط الحب الحر وحده يمكنه إنقاذ العالم" .
غروس و يونغ - أصابت تلك التغيرات في تفكير غروس استاذه فرويد بالذعر فبدأ يصم غروس بالهرطقة ، محاولا التخفيف من تأثير أفكاره و سمعته على صورة التحليل النفسي امام الناس . في 1908 طلب من يونغ أن يدخل غروس إلى عيادة نفسية و يخضعه للتحليل النفسي ، ( و قد فعل يونغ هذا بعد بعض التردد لأنه بينما كان الوحيد القادر على القيام بهذه المهمة لكنه كان في نفس الوقت ينظر لغروس باحتقار ) . جلسات التحليل النفسي التالية أصبحت ملحمة حقيقية في التاريخ السري للفرويدية ، 12 ساعة بلا توقف من الدراسة و المواجهة النفسية . في البداية سارت الأمور كما توقع يونغ الذي استنبط صورة عن غروس كعصابي مفرط الحساسية ، ذا ميول بارانوية قوية ( ربما بسبب إدمانه ) ، لكن ما أن حاول ان يذهب أعمق حتى وجد نفسه عاجزا عن التقدم او الاستنباط اكثر . عندها قلب غروس الطاولة و بدا هو بتحليل يونغ . انتهت الجلسة بأن قفز غروس من النافذة ثم فوق سور حديقة هاربًا. قال يونغ انه قد اصبح شخصًا آخر بعدها . بينما لم يكن يوافق غروس في "حماقاته" لكنه أصبح شديد الإعجاب به ، ليسميه "أخاه التوأم" و يصفه بأنه ذا عبقرية كبيرة . على الصعيد الشخصي يبدو ان يونغ قد تحرر بفعل هذه التجربة و سرعان ما سيبدأ علاقاته الجنسية "الفاضحة" بعدها . لكن الأكثر إثارة هو ان نظرية يونغ اللاحقة ستأخذ اتجاهًا غروسيا اكثر و ان اعتقاده الفرويدي السابق بالليبيدو سيتحول إلى اعتقاد صوفي يقوم على وحدة الوجود بقوة حية كونية تشكل الرغبة الجنسية احد مكوناتها فقط ، طاقة فهمت الثقافات السابقة طبيعتها بتعابير القصص الأسطورية و التي دخلت لاوعينا الجمعي كرموز . كل ذلك شكل فيما بعد "سيكولوجيا يونغ الأنثروبولوجية" التي مزجت بين السيكولوجيا و الأنثروبولوجيا و الميثولوجيا مع الأنماط السابقة للتطور الإنساني الاجتماعي الذي شكل سيكولوجيتنا المعاصرة . كل هذا الأفكار كانت قد طرحها غروس و باتشوفين بأشكال اقل تطورا و أقل دوغمائية بينما كان يونغ قد رفضها في بداية الأمر . و بشكل يشبه ما قاله غروس عن تحرير الفرد من قيود المجتمع و إعادة خلقه أو خلق الذات ككائن اكثر تكاملا أو قائما بنفسه ( الذي توصل اليه من خلال تفسير نيتشه سيكولوجيا ) سيتحدث يونغ عن الفردية و التحقق أو الإشباع الشخصي او الفردي . أصبح فرويد في قمة غضبه الان و اعتبر غروس شخصا غير مرغوب فيه في دوائر التحليل النفسي لدرجة انه شطب اسمه من التاريخ الرسمي للمدرسة ليصبح غروس منبوذا و منسيا من هذا التاريخ
تأثيرات غروس الأخرى : رغم استبعاده من قبل فرويد بقي غروس مؤثرا و لو داخل حلقة تضيق اكثر فأكثر من الفنانين الطليعيين و البوهيميين . تأثر داداءيو برلين خاصةً بأفكاره عن الطبيعة التحررية للخروج عن السائد و بقي فرانز كافكا نصيرا لأفكار غروس طوال عمره . لكن قد تكون أحد أهم تأثيراته هو على فريدا ويكلي التي كانت تقيم وقتها في اسكونا و التي أصبحت عشيقته ( رغم ان كليهما كانا "زوجين سعيدين" وقتها ) . أصبحت فريدا فيما بعد زوجة د. اتش. لورانس الذي كانت فلسفته تكاد تتطابق مع غروس لدرجة غريبة . و ستتزوج أختها عالم الاجتماع ماكس فيبر الذي رغم انه انتقد أفكار غروس علنا على أنها "تهديد لاي مجتمع سليم" لكنه كان هو أيضا عرضة لآثارها غير المباشرة و غير المرئية .
وفاة غروس - يبدو ان غروس قد تأثر جدا بسبب طرده خارج التيار السائد في علم النفس مما حداه لترك اسكونا في 1913 . أثناء الحرب العالمية الاولى اصبح طبيبًا عسكريا مسؤولًا عن مستشفى عسكري لكن يبدو انه لم يجد عملا بعد ذلك . و بعد أشهر من التجوال دون هدف يبدو ان الحال انتهى به إلى النوم في الشوارع . في عام 1920 وجد فاقد الوعي على ناصية شارع في برلين و توفي بعد ذلك بوقت قصير بالتهاب في الرئة . استمرت اسكونا كتجربة اجتماعية راديكالية حتى منتصف الثلاثينات بعد موت غروس لكنها ستصبح بعد ذلك ملاذا للفنانين الأغنياء و الباحثين عن نمط حياة بوهيمي قبل ان تصبح فيما بعد مكانا لقضاء وقت الفراغ لأصحاب الثروات العاطلين إلى جانب فنيانيهم المفضلين . كان فريك آخر شخص راديكالي يعيش هناك كاحد "الآباء المؤسسين" ( بعد أن غادر الآخرون إلى إسبانيا ثم البرازيل في العشرينيات ) لكن عندما مات هو ايضا في عام 1956 ماتت معه الكومونة أيضًا . رغم أنه بحلول ذلك الوقت كان تراث اسكونا قد بدأ يجد ارضا خصبة في فرنسا و امريكا . فقط اليوم أعيد اكتشاف أهمية غروس

* للأسف ان هذه الترجمة العربية لا تسمح بالتعبير الأمثل على المقصود بالتعبير الانكليزي :
Avant grade


نقلا عن

https://www.psychspace.com/psych/viewnews-4526