النمط الألماني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)


عبدالله تركماني
2020 / 10 / 12 - 15:42     

في هذا السياق الألماني الخاص، يمكن أن نفهم كيف جعلت " خطابات إلى الأمة الألمانية " فيخته (1762-1814) المنظّر الأول للقومية الألمانية وأباً للوحدة الألمانية، فقد جاءت خطاباته الأربعة عشرة خلال شتاء 1807- 1808 بعد الهزيمة أمام نابوليون في معركة تينا Tena (7). وكانت ذات طابع تربوي، حيث دعا إلى " تربية جديدة " تحرّر " الفكرة/المثال "، تؤمّن " طهر الإرادة "، وتطرد " الأنانية " مصدر كل مصائب ألمانيا، ويمكن أن تكون " فن تشكيل الرجال ". وبدءاً من الخطاب الرابع يبدأ الالتقاء بين التيارين التربوي والقومي، حين يقول: إنّ " الثقافة المعنية "، التربية الجديدة، الألماني وحده، معتبراً " في ذاته ولذاته "، أهل لتلقّيها، " دون سائر الأمم الأوروبية ".
والألماني، بالنسبة لفيخته، هو الذي بقي في منطقة الإقامة الأولى للقبائل الجرمانية التي فتحت أوروبا (الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، وقد احتفظ بلغته، هو: " منذ الصوت الأول المنطوق، لم ينقطع يوماً عن أن ينبع من الحياة المشتركة الحقيقية، دون أن يقبل عنصراً، أيا كان، ليس تعبيراً عن فكرة شخصية للشعب، ومتسقة بانسجام بالغ مع سائر أفكار الأمة ".
وعلى العكس من ذلك، فإنّ القبائل الجرمانية الأخرى، في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وفي كل مكان، التي تبنّت لغات جديدة، لاتينية الأصل. هذه اللغات، حسب تعبير فيخته، لا تعيش إلا على السطح، في العمق هي ميّتة: " بقبولها دائرة الأفكار الجديدة وبقطعها مع الدائرة القديمة ". فكل الفرق بين الألماني والآخرين يكمن إذا في هذا التعارض: " الحياة من جهة، الموت من الجهة الأخرى ". لدرجة أنّ الألماني، لمجرد كونه يتكلم لغة حية حقاً، أقدر على فهم اللاتينية: " بالتالي فإنّ الألماني، بمجرد أن يستطيع الاستفادة قليلاً من كل هذه المزايا، سيسيطر دائماً على الأجنبي وسيفهمه بالتمام، أكثر مما يفهم الأجنبي نفسه ".
وتابع فيخته في خطاباته من الخامس إلى الثامن، مستلهما هردر Herder (8) الذي حرّر كل ملامح الألماني في ذاته: كل سمات ألمانيا مثالية صائرة إلى رسالة تاريخية عظيمة، إنّ عند الشعب الذي لغته حية، أي عند الألماني، الثقافة الذهنية تدخل الحياة بأسرها. أما عند الآخرين، غير الألمان، ثقافة الروح والحياة منفصلتان. الأول غيور ومجتهد في كل الأمور: " يعطي نفسه مشقة "، أما الآخرون يستسلمون لـ " طبيعتهم السعيدة ".
كما غضب فيخته ضد الهوس بالأجنبي لدى مواطنيه، الإعجاب بالأدب الفرنسي، تحت ذريعة أنه " رفيع ومتميّز"، وهو - حسب فيخته - أدب ميّت بأزهار اصطناعية، في متناول الطبقات المثقفة فقط. ومن الناحية الدينية، وحده الشعب الألماني استطاع أن يحمل: " روحاً دينياً بشكل جدي وفعلي في هذه الحياة الدنيا "، ولهذا السبب كان العمل العظيم الذي حققه الألمان هو الإصلاح الذي قام به لوثر " الألماني بالأولية والامتياز ". كما أنّ الشعب الألماني، وحده أيضاً، استطاع أن يوفّق الدين والفلسفة، وهما في غير ألمانيا شقيقتان عدوّتان.
أما في الجانب السياسي، فقد قال فيخته: " الدولة العقلية لا تدع نفسها قط تُشاد بشكل مصطنع مع مواد بناء أية كانت، ينبغي البدء بتكوين وتشكيل الشعب بغية هذه الدولة. وحدها ستستطيع خلق الدولة الكاملة الأمة التي، بالتطبيق الفعلي، ستكون حلّت معضلة تربية الإنسان الكامل ". والأمة الألمانية، التي لم تُفصَل عن أرومتها الأولى، كما فُصلت القبائل الجرمانية الأخرى، تؤلّف "عرقاً أول، شعباً يحق له أن يعلن نفسه بشكل خالص وبسيط: الشعب "، بمعارضة تلك القبائل.
وفي مطلع الخطاب الثامن (عنوانه: الشعب في أعلى مدلول للكلمة. الوطنية)، أعلن فيخته أنّ الألماني وحده، أي الإنسان الأولي، الإنسان الذي ليس مجمّداً في عقائد عسفية، له واقعياً وطن: " هو الوحيد القادر على أن يعاني لأمته حباً حقيقياً وموافقاً للعقل "، هذا الحب يدعى الوطنية. يريد أن يحقق " التفتح المتزايد الطهر على الدوام، المتزايد الكمال والانسجام، في تقدم لا ينقطع، تفتُّح المبدأ الأزلي والإلهي في العالم ". هذه الوطنية التي يجب تأسيسها " بشكل عميق ودائم في جميع الأرواح، بفضل التربية، مع اعتبار شعبنا شعباً أزلياً وأنتم أنفسكم مواطنين في أزليتنا ".
أما الخطاب الرابع عشر والأخير، فقد خصصه فيخته للدعوة إلى الكفاح الروحي، حيث توجه بالتناوب نحو الشباب والشيوخ ورجال الأعمال والمفكرين والعلماء والأدباء والأمراء الألمان، وأخيراً " أنتم جميعا، الألمان، ... أية كانت مرتبتكم الاجتماعية ". استنجد بالأجداد من العصور الموغلة في القدم، الذين عارضوا بأجسادهم محاولة المونارخية الكونية لروما، و" انتزعوا بدمهم استقلال الجبال والسهول والأنهار التي أضحت الآن فريسة الغرباء ". واستنطق الأحفاد، الذين لم يولدوا بعد، أحفاد الألمان الذين ينصتون إليه: " لا ترغمونا على الخجل من أصلنا، لأنه يكون دنيئاً، بربرياً، وعبودياً ". وأكثر من ذلك: " العناية الإلهية نفسها، المخطط الإلهي الذي أشرف على خلق الجنس البشري والذي ليس موجوداً إلا لكي يُفكَّر من قبل البشر ويُحَقَقَ من قبلهم، يستحلفانكم أن تنقذوا لهم الشرف والوجود ".
وختم فيخته خطاباته قائلا: " إذا كان هناك ذرّة من حقيقة في هذا الذي عرضناه في هذه الخطابات، فإنكم أنتم من بين جميع الشعوب الحديثة تملكون بأشد وضوح بذرة قابلية البشر للتحسن، وإليكم تعود الأولية في تطور البشرية. إذا اختفيتم في جوهركم، فإنّ كل الجنس البشري سيفقد أمل إمكان خلاصه في يوم من الأيام من أعماق ويلاته. لا تعزّوا أنفسكم بأن يدغدغكم الأمل الوهمي...بأن تخلف زوال المدنية الموجودة مدنية أخرى مشتقة من أنقاض الأولى...ليس ثمة مخرج: إذا غرقتم، غرقت معكم البشرية بأسرها، دونما أمل في إحياء مقبل. هذا ما كنت أريد، وأنا أنهي خطبي، وما كان عليّ أن أوصيكم به. وبكم تخاطب وصيتي مجموع الأمة التي أنتم هنا ممثلوها ". فلم يوجّه فيخته خطاباته إلى الحاضرين في قاعة أكاديمية برلين فقط، بل إلى الأمة الألمانية كلها " حتى آخر حدود بلاد اللغة الألمانية "، بلا أي تمييز: " إنني أهمل مطلقاً وأطلّق التمييزات والانقسامات التي أدخلتها أحداث مشؤومة منذ قرون في أمتنا " (9).
إنّ فيخته كان نذير التجدد القومي الألماني، كما كان " نبي " الهوى القومي الذي استعر في العديد من البلدان، خاصة وأنّ الدول الأوروبية كانت قد دخلت مرحلة الإمبريالية واشتداد المنافسة بينها، فصار الالتجاء إلى ميثولوجيا القومية سلاحاً فعالاً في أيدي الطبقات الحاكمة من أجل تعبئة شعوبها في مشاريعها الاستعمارية. وحينما حققت ألمانيا وحدتها كان فيخته محل تكريم من الأمة الألمانية، لأنه أعطاها وعياً جديداً عن كيفية تحقيق تفوّقها، وهنا برز تأثير فكر الأنوار والثورة الفرنسية عليه (نشر في عام 1793 كتابه " إسهام في تصحيح أحكام الجمهور على الثورة الفرنسية"). فقد ناضل ضد الغزو النابليوني، ودعا الألمان إلى الدفاع عن سيادتهم القومية، ولكنه - في الوقت نفسه - بالغ شوفينياً في دور ألمانيا التاريخي. ولكنه، في المحصلة، ابن الثورة الفرنسية ونابوليون، وأبو الوحدة الألمانية. ولا ريب أنّ رؤية فيخته، التي رفعت عنصر الاستمرار في التاريخ لدرجة تأكيد الخصوصية المطلقة للشعب الألماني، هي رؤية ونظرية غير علمية في أساسها، ينكرها واقع التحولات التي مرت بها جميع المجتمعات عبر تاريخها.
وبصورة عامة، فإنّ رؤية فيخته القومية تتصف بما يلي (10):
(أ)- قومية ميتافيزيكية: " لا يملك الفرنسيون أناً كوّنوها بأنفسهم، إذ ليس عندهم إلا أناً تاريخية، ناشئة عن الرضا الكلي، أما الألماني فعلى العكس من ذلك إنما يملك أناً ميتافيزيكية ". وتلفت النظر أهمية هذا التضاد بين الأنا التاريخية للفرنسي والأنا الميتافيزيكية للألماني.
(ب)- قومية دينية وصوفية، إذ إنّ تفوّق ألمانيا مبدأ إيماني، فلم تتمكن المسيحية الحقيقية أن تنمو إلا عند الألمان (لوثر هو الألماني الممتاز في نظر فيخته). وتريد المسيحية أن تحقق على الدوام" التفتح الأنقى والأكمل والأشد انسجاماً، للمبدأ الخالد والإلهي في العالم، تفتحاً في تقدّم لا ينقطع ".
(ج) - قومية رومانسية، إذ يمجّد فيخته الحماسة والحياة: " يجب أن تروا أيضاً إحدى الملامح الأساسية للروح الألمانية. فهي تجد، كلما بحثت، أكثر مما بحثت عنه، لأنها تغوص حتى منابع الحياة الحية نفسها وهي تجري بزخمها الخاص، فتلفها في تيارها ". والتاريخ هو انتقال من الغريزة إلى العقل ومن اللاشعور إلى الحرية.
(د) - قومية تربوية، إذ قال فيخته " خسرنا كل شيء، ولكن بقيت لنا التربية ".
وبالرغم من تأكيدات فيخته بأنه لا يميّز خلاص ألمانيا عن خلاص أوروبا وخلاص الإنسانية، إلا أنّ قوميته جرمانية على نحو نموذجي، فهذا المتعصّب مقتنع اقتناعاً عميقاً بأنّ العرق الألماني متفوّق على الأعراق الأخرى.
الهوامش
7 - قبل معركة تينا في سنة 1806 كان نابوليون قد أعاد تنظيم ألمانيا وأنهى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأقام اتحاد الراين (من 15 إمارة في جنوب وغرب ألمانيا) تحت حمايته، بدأ تصفية الإقطاعية في منطقة الراين، استبعد بروسيا وأخرج النمسا من ألمانيا. شكلت بروسيا تحالفاً مع روسيا وبريطانيا، وكان جيشها ذا سمعة عالية، ولكنه انهار بسرعة أمام جيش نابوليون في تينا، ثم جاء صلح تليســت في سنة 1807 بين نابوليون وقيصر روسيا، كرّس سيادة نابوليون في أوروبا وأذلّ الأمة الألمانية وبروسيا (سلخ ممالكها غربي نهر الألب مع تنصيب أحد أشقاء نابوليون على عرش " مملكة وستفاليا " الجديدة، وسلخ أقاليمها البولونية وإقامة " دوقية وارسو الكبرى") . وبذلك لعب نابوليون دوراً تقدمياً في ألمانيا، حيث خفّض عدد الإمارات وصفّى الإمارات الصغرى.
عن - شفاليه، جان جاك: المؤلفات السياسية الكبرى/ من ماكيافل إلى أيامنا، ترجمة: الياس مرقص، الطبعة الثانية - بيروت، دار الحقيقة -1990، ص 208.
8 - هردر Herder(1744-1803) مفكر ألماني وطني وإنساني، أحد رواد نهوض ألمانيا.
9 - شفاليه، جان جاك: المؤلفات السياسية، المرجع السابق، ص ص212-218.
10 - توشار، جان: تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص 167.