فلسطين والعراق توراتيا: ملحق ا/8


عبدالامير الركابي
2020 / 10 / 10 - 14:22     

توجد فلسطين في التاريخ الابراهيمي كتوضع مناظر ومقابل للدولة الامبراطورية البابلية الأحادية، حيث الدولة المطرودة من ارضها، وهي تسعى للتحقق في المنفى كتجسيد للصراعية الازدواجية الرافدينيه الناظمة للكبان وللبنيه بين مجتمعين، المجتمع الأسفل المتعذر تجسده ارضويا، ومقابله الاعلى الأحادي الامبراطوري، المحور وفقا للصراعية المجتمعية ثنائية النوع، لحظة انتقال الصراعية جغرافيا من داخل الكيانيه الرافدينيه، الى المجال الشرق متوسطي، ليتخذ صيغة ومطمح دلدالة على نمط اللادولة المفارقة للارضوية الاحادية"المدينه المزروعه فوق رابية" في الأرض الموعودة، بعد تعذر تجسدها في ارض النيل، حيث أحادية الدولة، وهيمنتها شبه المطلقة، والانتقال الى ارض الشام/ عبور البحر بقيادة النبي موسى/، حيث اللاتحقق الوطني الكياني، والتشققات، وإمكانات النفاذ بين الشقوق والفواصل بين "دول المدن" التي هي طابع وخاصية هذا المكان ضمن الشرق متوسطية، موضع احتشاد الأنماط المجتمعية : الازدواجي، والاحاديان: مجتمع الدولة الأحادي النيلي، ومجتمع اللادولة الأحادي الجزيري.
ومثل هذا التوصيف للابراهيمية وتجليها، مخالف كليا بالطبع، ولايطابق باي شكل، ماجرى التعارف عليه والشائع عن الابراهيميه وتاريخها، بالاخص من ناحية كونها "دولة لادولة" متعذرة على التجسد ارضويا، منفية، وساعية مع وطاة الاضطرار للتجسد في الطرد تحت شعار ومسعى"الوعد خارج الأرض"، هذا اذا اخذنا ارض الرافدين بصفتها ارض الازدواج المجتمعي، وثنائية التجسد المطابق، لتصير الابراهيميه بحسب المفاهيم الحديثة "حركة معارضة" (1) ويعطي لتاريخ تجسدها وصولا الى السبي البابلي، معناه الفعلي الغائب والمغيب احاديا، وبفعل غلبة المنظور الأحادي الطارد والنافي للدولة التي لاتتجسد ارضويا نحوعالم مايعرف ب "الدين"، بما انها لاتجد صيغة لتجسدها ابان زمن اللاتحقق والانتظار، الا سماويا.
سبت بابل اليهود، وهدمت مبتنباتهم كتصرف اصطراعي طبيعي بين تجليين من بنيتين ونمطين متناحرين ضمن الوحدة، بدات صراعيتهما وتمايزهما بالاصل في ارض سومر وبابل، ليتاقلمان متشكلين داخليا، بالانتقاص من اعلى، والاستبدال من اسفل، فيتحقق وقتها البناء الازدواجي امبراطوريا، ماقد استوجب الطرد، ليتولد عنه وعن تاريخ النفي، شكل اخر من التجسد اللاتجسد المقابل، خارج الأرض الاولى، ونحن هنا من دون ريب امام منظور اخر مختلف للتاريخ كما هو مكرس احاديا اوربيا بالذات، مع اجمالي ما امكن التعرف عليه من احكام ابان زمن اللاتحقق الانتقالي الطويل، وتراكماته، فما نراه ونعتمده "ازدواجيا" باعتبار ذلك الحقيقة الأكبر والأكثر سطوعا في التاريخ المجتمعي، مقابل منهجيات "الحضاروية" وتكريس الاحادوية الذي هو طور متدن في التاريخ العقلي، من حيث مدى اقترابه من الظاهرة المجتمعية ومضمونها، ومنطوياتها، وبحسب قانون الازدواج الشامل للمعمورة، تصبح المنطقة الشرق منوسطية وحدة ازدواج، موزعة على بؤرة، ومجال مكمل ضروري وعضوي، قاعدته ارض مابين النهرين، وموضع تجليه ابان فترة اللاتحقق، مجال أحادية الدولة المصري، ومعه ساحل الشام ابتداء، قبل موضع اللادولة المحكومة لاقتصاد الغزو الاحترابي ختاما.
ان تجزئة فعل هذه المنطقة، وفصل اجزائها عن بعضها، يوافق تماما منظورالأحادية ودابها على تكريس نمطها، وان جرى ذلك على حساب الحقيقة والعقل، ومسارات التاريخ المجتمعي على مستوى المعمورة، كما يحدث بداب متراكم، عند النظر في البدايات الأولى لنشاة المجتمعات مع الاتجاه البداهي لفصلها ونمذجتها، انطلاقا من المعتاد من النظر في مايعرف ب "الحضارتين" النيلية، والرافدينيه، والحال فانه لم يكن ليخطر على بال من ينظرون، ومن هم بموقع الباحثين في الحضارة واصولها، النظر أولا وبتداء في تشكل المنطقة الشرق متوسطية ككيانيه موحدة، خصوصا مع ترسخ مفهوم الكيانات والوطنيات المحددة جغرافيا ضمن يقع معبنه، وتمخضها المشترك ثقافيا ومفهوميا، ماكان من المستحيل تجاوزه، ناهيك عن استبداله بمخططات بحث تنظر في بدايات التاريخ الشرق متوسطي، ومن ثم على مستوى العالم، "ازدواجيا"، انطلاقا من قاعدة الاستحالة والكرد التوافقة مع طبيعة طرف ضمن التركيب الازدواجي المجتمعي الرافديني، ومايتصل بالضرورة الناشئة عنها، والتي تجعل "التحقق الوطني" الازدواجي متعديا لحدود البؤرة على تدرجات ومراحل، الامر الذي يكرس على المدى الابعد، كوكبية الازدواج، ويؤمن حمايته وديمومته برغم تقطع تاريخيه، المتلائمة مع نوع بنيته الهشة، مقابل البنى الإمبراطورية الأحادية.
حين احتل كورش في القرن السادس قبل الميلاد، بابل، لم يدخر وسعا في احياء "الدولة المسبيه"، فأتاح للنبي "عزرا" وقتها وبحماس، كل المتطلبات ومايحتاج من مساعدة وهيئة بحث، وكتبه، كما وفر له أسباب السفر الى فلسطين، لكي يضع "العزير"(1) بعد الرجوع للمصادر في فلسطين، ودمجها بالمتناقله بين المسبيين في بابل، صيغة التوراة العتمدة من اليهود، والسارية الى اليوم، حتى بعد إضافات ابن ميمون الاندلسي الهامه، فتوراة النبي موسى ضاعت، ولم يبق منها مايذكر سوى ماجاء على يد عزرا ومساعدية، ولم يكن ماقد انجز من قبيل الاجتهاد المزاجي، او التبني الفعلي ل" الديانة اليهودية" من قبل كورش الذي كان قد واجه انتفاضتين بابليتين كبريين، وتصرف محكوما لمضمرات ومحركات التاريخ عير الظاهرة ودلالاته التي لاتكف عن التجلي، وان بلا تفسير ممكن في حينه، فهو كان بالاحرى يحيي " الدولة المطرودة" المنفية، المضادة للدولة الامبراطورية التي يريد، وجاء ارض الرافدين لامحائها وسحقها، غير ان تلك اللحظة كانت بشكل ما تجسيدا للصراعية الازدواجية، في لحظة من لحظاتها الملتبسه، المستعملة المتجلية تحت طائلة "الاحتلال" وسقوط الكيانية متعددة الأنماط في الانقطاع مابين الدورات التاريخيه.
لم يكن كورش وقتها، قادرا على رؤية بنية الازدواج، وطبيعة مابنطوي عليه من ردة فعل على المدى الابعد، فكانت بابل بالنسبة له بشموخها وعظمتها، هي الهدف المباشرالذي بتقصده ويريد امحاءة، ولو عن طريق الاسهام في تنمية الأسباب التي ستنهي وجوده كاحتلال طويل الأمد، هو الأطول في تاريخ ارض الازدواج، الامر الذي كان تمثل وقتها في توفر الأسباب الفعليه لاكتمال اركان "دولة اللاتجسد الأرضوي" المفهومية، والتي هي اهم بما لايقاس من محاولة إقامة "الدول" الارضوية، مهما سعت لان تجسد الوعد كما كان حاصلا وقتها في فلسطين، فبناء "مملكة الله على الأرض" مفهوميا، واكمال هذا العنصر تحديدا، كان بالأحرى بمثابة إتمام بناء الدولة "اللادولة" قبل التحقق، الامر الذي انجزه عزرا في بابل، في الموضع الذي فيه حصل الطرد والنفي، ليكرس من يومها مسارا آخر، لن يلبث ان يفتح الباب للقراءتين الكبريين، الثانية المسيحية، والثالثة الجزيرية التي ستطرد الفرس، ورثة كورش من ارض الازدواج، وتحرر المنطقة برمتها من وطاة الامبراطوريات، وتؤدي لاطلاق آلياتها، والامبراطورية الازدواجية الرافدينيه منها بالذات في دورة تاريخية امبراطورية ثانية.
والحديث جار هنا عن منظور قد يمكن اطلاق اسم "العلم المجتمعي المكمل الجديد " عليه، وعلى المصطلح او المفهوم الكياني المتولد عنه، والمتصل به أي مفهوم " الكيانية الثلاثية الأنماط" مع مايلحق بها من آليات تشكل وتطور، وموجبات استمرارية، ودورات وانقطاعات تاريخيه، من بين تعيين ملامحها الاساسية التساؤل: ترى لماذا وجد نمط اللادولة الأحادي الصحراوي المحكوم لاقتصاد السوق الاحترابي القبلي، والذي "يحتقر العمل في الأرض" معتمدا الغزو وسيلة عيش، بمايعني وجود مجتمع لايعمل في الأرض بل بالسيف والرمح وليده يرضع القتال من صدر امه، مايجعل منه قوة احتراب استثنائي، من غير الممكن صدها، ويؤهله بعد التازم الأقصى الواقع على خليته الأساسية القبلية نتيجة لعملية الخنق المسلط عليه من قبل ورثة " كورش"، لان ينتقل متحولا الى مجتمع "عقيدي محارب"، هيو كتلة احتراب مؤهلة لاحداث اللازم من تحرير للمنطقة من وطاة الامبراطوريات، وتهيئة أسباب المدى الواصل الى الهند والصين، والى اوربا غربا خلال مدة قياسية، الامر الذي لايمكن النظر اليه تخصيصا بذاته وكينونته، بمافي ذلك التوقيت الزمني الذي اوجبت تشكل وظهورمجتمع الجزيرة اللاحق متاخرا ببضعة الاف من السنين على البدء الرافديني، ورديفه النيلي، هو والشامي.
جاء ماركس في العصر الحديث بنظريته عن الطبقات وصراعها، وعن " المادية التاريخيه" وحتميتها، ووجهتها القدرية المقررة سلفا " بقوانين مادية"، ولم يساله احد: من اين ياترى جاء القانون المذكور، ومن الذي وضعه في صلب العملية المجتمعية التاريخيه، واخضعها له، مع جعلها بمثل هذه الدقة والتعميم، مع الاخذ بالاعتبار جملة عناصرها والياتها الضامنه لعملها وسلامته عبر المراحل، هذا وماركس كما يقول يستند الى "العلم"، والى الوقائع المادية التاريخيه، ونحن بمناسبة مانطرحه هنا عن "الكيانية الثلاثية الأنماط" نتساءل: لماذا ارفقت الازدواجية المجتمعية البؤرة، بظهير احترابي استثنائي، بينما تكون الازدواجية بالطبيعه والبنيه اشتراطا "هشة" تكوينا، بحكم الازدواج واشتراطاته الانتقاصية الاستبداليه ، بالتوافق مع حساسية البناء الإمبراطوري الإنتاجي بمقابل صلادة البنى الإمبراطورية الأحادية المقاربة جغرافيه/ ايران الإمبراطورية المرتكزه للعبودية الاقطاعية تحديدا/ أوالتي على الضفة المتوسطية الأخرى الغربية.
هذا غير عامل المرحليه الازدواجية المكاني، المنحصر بداية في سومر، وصولا الى بابل، بما يعني بضعة مئات الاف من الكيلومترات قياسا بمصر وضخامتها الهائلة( لايقاس عادة هذا القدر من الاختلاف في المساحة والحجم من حيث مقارنة ضخامه المنجز الرافديني ونوعه قياسا بالمصري)،مايضعنا امام وحدة فعالية " كيانية" من نوع متجاوز ومخالف لنوع الكيانيه " الوطنية" المتعارف عليها، والمعتمدة الناظمة لكل منهجيات البحث والنظر التاريخي كما هو سائد الى اليوم.
ـ يتبع ـ
فلسطين والعراق ازدواجا: ملحق ب/9
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النبي عزرا واضع "التوراة" في بابل، يطلق عليه في جنوب العراق حيث قبرة في ميسان ب"العزير"، ويكاد يلحق بكتلة الائمه والاولياء المنتشرة هناك، من دون تحديد لصفته، ومن يكون بالضبط، فتسري عليه المصادرة المفهومية بحسب المحيط والممارسة الغالبة شعبيا.