(أنا والجدة نينا) لأحمد الرحبي - الأنا في مرآة الآخر الروسي


حسن مدن
2020 / 10 / 10 - 09:23     

يواصل المشهد السردي العماني، في جنسي الرواية والقصة على حدٍ سواء، تقديم تجارب لافتة، ولا يتردد كتاب السرد العمانيون في طرق دروب جديدة، أو ولوج دروب مطروقة، ولكنهم يفعلون ذلك برؤية المبدع العماني وحساسيته المتشكلة في بيئة لها خصوصيتها، وهذه التجارب التي تستوقف القراء والمهتمين بالنقد الأدبي، تؤشر إلى أن الساحة الابداعية العمانية معطاء، وحبلى بالمزيد الذي علينا توقعه، ويفرض ما بلغه السرد في عمان من مستوى، ليس فقط الاحتفاء بالتجارب المنجزة منه، خلال السنوات الماضية، وهي جديرة به ولا شك، وإنما يفرض أيضاً التأكيد على ألآ تتراجع التجارب القادمة والمنتظرة عن المستوى الذي بلغه المنجز السردي العماني ، بما يؤسس لحال إبداعية سيكون لها شأن أكبر في مجمل الخريطة الابداعية في المنطقة، وهو على كل حال، شأن قد تشكلت قاعدته بالفعل.
في "أنا والجدة نينا" يأخذنا أحمد الرحبي الى ثيمة العلاقة مع الآخر، متحركاً بسلاسة ورشاقة في الفضاء الروسي الذي عرفه من داخله، وهذا ما ميَّز روايته عن الرواية العمانية الأخرى التي قاربت الفضاء الروسي، أعني بها رواية بدرية الشحي: "فيزياء 1". يتجلى ذلك في مهارة الكاتب في وصف أماكن بعينها، من شوارع ومحطات "مترو"، فضلاً عما أظهره من معرفة بما يمكن أن ندعوه نمط الحياة في روسيا وسايكولوجيا الانسان الروسي، إبن البيئة القاسية والظروف الصعبة، والتاريخ الدرامي الحافل بالمنعطفات الحادة، والزاخر، إلى ذلك كله، بالثقافة والفن والابداع، على النحو الذي نلمسه من قراءتنا الأدب الروسي لمبدعيه الكبار، أو من مشاهدتنا لعروض الباليه والأوبرا الروسية وما إليها.
تقول ماريا، حفيدة الجدة نينا، في الصفحات الأخيرة من الرواية مخاطبة بطلها سعد الله: "أنت لا تعرف الروس"، ( الرواية ص 151)، لكن هذا القول يأتي في السياق المعاكس، السياق الذي أراد به الكاتب إبلاغنا أنه طاف بنا عبر ما تقدم من روايته في صفات وطبائع أولئك الروس، وجال بنا في أماكن وعوالم بشكل لا يستطيع بلوغها إلا رجل عاش هناك وإقترب من الحياة فيها وتعرف على الكثير من دهاليزها، بما فيها حياة الطلبة الأجانب والعرب، الذين إنصرف بعضهم عن الدراسة ليتحولوا إلى تجار للعملة او البضائع المستوردة، وإيغالاً في الاقتراب من الروح الروسية، عمد الكاتب إلى تطعيم حوارات الشخصيات بمفردات وعبارات روسية كتبها بالأحرف العربية، فبدت محببة لمن يعرفون تلك اللغة وجاذبة لهم في الإقتراب من سياق تلك الحوارات ومن مزاج المتحاورين، ولست مطمئنا ما إذا كان هذا سينال الرضا أو الاستساغة ممن لا يعرفون اللغة الروسية أم لا، فلربما يجده بعضهم مقحماً.
وصورة الآخر، أو صورة الذات في مرآة الآخر، موضوع أثير لدى الروائيين العرب، نجده في تجارب حظيت بصيت كبير، وبعضها لم تحظ إلا ببعضه، حسبنا هنا أن نذكر "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، و"موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح، و"الربيع والخريف" لحنا مينه، و"روائح ماري كلير" للتونسي الحبيب السالمي، ويمكن الاستطراد هنا في الأمثلة دونما نهاية.
والملاحظ أن هناك كثافة في حضور التفاعل مع الفضاء الأنجلو ساكسوني، والفرانكفوني، خاصة عند الأدباء في المغرب العربي بالنسبة للثاني، لكن على كثرة هذا التفاعل ، تندر التجارب الروائية التي قاربت الفضاء الروسي، رغم العلاقة الوطيدة والتفاعل الكبير بين الثقافتين العربية والروسية في العهد السوفيتي خاصة، وفي حديث مع الأديب المصري الصديق أحمد الخميسي، رأى انه يمكن القول إن شخصية ايفان في "عصفور من الشرق" للحكيم تمثل نظرة ما عن صورة الروسي، لعلها الأولى من نوعها في الأدب العربي الحديث.
ومن بين الأعمال القليلة التي تحركت في هذا الفضاء، يمكن الوقوف عند رواية "الجليد" لصنع الله ابراهيم التي تعود بنا إلى سبعينيات القرن العشرين بين موسكو والقاهرة. وهناك أيضاً رواية "ليلى والثلج ولودميلا" للروائية الأردنية كفى الزعبي التي درست وعاشت في روسيا مثل أحمد الرحبي، لذا إقتربت من تعقيدات وتناقضات المجتمع الروسي ومن شخصية الإنسان هناك في فترة حرجة من تاريخ روسيا، هي فترة ما عرف ب"البيروسترويكا" التي أدت تداعياتها إلى تفكك الإتحاد السوفيتي، لذا تندرج "أنا والجدة نينا" في سياق هذه القلة النادرة من الروايات العربية التي تناولت الآخر الروسي.
على خلاف روايتي صنع الله ابراهيم وكفى الزعبي، فإن أحمد الرحبي في "أنا والجدة نينا" يرصد الحال الروسية في فترة لاحقة، إنهار فيها نمط الحياة الإشتراكي، الذي يذكرنا بطله الرئيس "سعدالله" به، حين يتحدث بعطف عن العجوز مسؤول السكن الطلابي الداخلي المعروف بالروسية ب"أوبشي جيتي":
"ألتقي فلاديمير ميخائيلوفيتش، قوميندانت السكن، عجوز تخطى السبعين يجمع بين دقة الإدارة ومكرها وبين الطيبة الروسية. بقية من رجال السوفيات ما زال يمشي على قدميه" (الرواية ص 64). لكن سمتي الطيبة والبساطة هما من طبائع شخصية الانسان الروسي على مر الزمن. قراء الأدب الكلاسيكي الروسي يحسون بذلك جيداً ويعيشونه.
التقسيم الذي أقامه أحمد الرحبي للرواية بين جزئين: البحث عن حورية، وأنا وماريا، يحملنا على الاعتقاد بأن هاجس بطله سعد الله منذ لحظة أن إستقر في روسيا، التي قادته إليها المصادفة وحدها، حين تأخر قبوله في إحدى جامعات فرنسا كما كان برغب، هو التحرر من قمع الجسد في البيئة الآتي منها، إلى مجتمع لا يقيم القيود والتابوهات على حرية هذا الجسد، لذا فإننا نقف على بضع تجارب ومحاولات لسعدالله في الإقتراب من الجنس الآخر، من خلال فتيات من جنسيات مختلفة بحكم البيئة الطلابية المتنوعة التي يعيش فيها، وهو أمر نصادفه في غالبية الروايات العربية التي ناقشت العلاقة مع الآخر الغربي، فما أن تطأ أرجل الرجل العربي أرض هذا الآخر، حتى تنتابه الرغبة في التحرر من محظورات الجسد التي عانى منها في وطنه الأم، حين يجد أن بيئة أخرى توفرت له تجعل من الممكن تحرير هذا الجسد من كوابحه، وهو ما وجدناه أيضا في شخصية "شكري" بطل رواية صنع الله إبراهيم:"الجليد" الذي ما أن حلَّ بموسكو حاملاً معه الكبت الشرقي، حتى أضحت المدينة الجليدية في نظره مجرد سعير من الاشتهاء الدائم، وتـوق محموم إلى الإشباعٍ الغريزي.
وبموازاة هذا التوق للجسد، أو البحث عن الحورية، نجد سعدالله ، بطل " أنا والجدة نينا" يواجه ما يمكن أن نطلق عليه احتكاك الثقافات والأديان، ينشأ ذلك أول مرة مع صديقته صوفيا الصربية الفارة، هي وعائلتها، من البلقان بعد حرب البوسنة، حين يواجهه شعور بالمقت والكراهية من قبل صديق شقيقتها الصغرى، الصربي هو الآخر، الذي أزعجه وجود عربي أو مسلم في حلقة معارف صديقته، أي سعد الله نفسه، فراح يتحدث، بغيظ وتشفٍ، في إحدى سهرات تلك الحلقة عن حرب الصرب والمسلمين في البوسنة. (الرواية ص 96).
وسيتكرر الأمر نفسه في العلاقة مع جار الجدة نينا الساكن في الشقة المجاورة، الذي شعر سعد الله أنه ينظر اليه شذراً، حيث إنصرف تفكيره إلى أن السبب في ما وجده من سوء معاملة له من قبل هذا الجار عائد لكونه يهودياً: " أخبرتها بأنه إنسان كريه يحمل الضغينة للبشر، ولا يتوانى في إلحاق الأذى بالجميع. أوليس يهوديا بالمصادفة – سألتُ الجدة فأكدت قولي انه يهودي يعيش مع والده الذي ظل يرعاه بعد وفاة امه في صغره"، هذا قبل أن يبسط سعد الله أمام الجدة نينا خريطة فلسطين وينهمك في شرح ما إقترفته اسرائيل من جرائم بحق شعبها. (الرواية ص 15)، ولكن وعي الجدة ومعرفتها بالحياة جعلاها في وضع يمكنها من التمييز بين جرائم اسرائيل وبين الإنتماء الديني لليهود، فلا يؤخذون، جميعاً، بجريرة الصهيونية.
بعد رحلة إلى منطقة الكنائس خارج موسكو، تخلفت عنها الجدة قاصدة، لتتيح لسعدالله وحفيدتها ماريا فرصة الإنفراد ببعضيهما، تنتهي الرواية نهاية مفتوحة، ذكية ولماحة، بعد نحو 180 صفحة، يبحث فيها سعد الله عن ذاته في مرآة الآخر، الروسي بشكل رئيسي، دون أن نبلغ الإجابة عما إذا كان قد وجد هذه الذات، ام تراه تماهى مع هذا الآخر.
نحن إزاء رواية حرّة من الهوس بالأحداث أو النهايات التراجيدية، ومن الغوص فيما يعرف بالقضايا الكبيرة، تتميز بسرد أنيق مقتضب، متقشف إلى حدما، لكنه ممتع. وهي إذ تؤكد شيئاً، فلن يكون سوى أن الرواية كفنٍ تتحول، أكثر فأكثر، إلى تجارب متنوعة، غير نمطية، لا تكسر بالتأكيد قواعد الرواية من حيث هي جنس أدبي، لكنها تأبى أن تحبس نفسها في قالب مكرر. ونحن نبلغ نهاية "أنا والجدة نينا"، ينتابنا الشعور بأننا ننتظر أعمالاً أخرى لا تقل جودة من أحمد الرحبي.