الموقف من العقل لدى -إخوان الصفا- (3/3)


غازي الصوراني
2020 / 10 / 6 - 13:50     

موقفهم من العقل يؤخذ من مصدرين:
1- تصريحهم النصي في اعتماد العقل.
2- مجمل طريقتهم المنهجية في معالجة القضايا المطروحة في "الرسائل".
عند النظر في المصدر الأول –كما يقول د. مروة- "نجدهم يضعون العقل في مكان "الرئيس" لجماعتهم، ما دام لابد لكل جماعة "تريد أن يجري أمرها على السواد وتكون سيرتها على الرشاد" من "رئيس يرئسها، ليجمع شملها ويحفظ نظام أمرها..". لذا هم قد رضوا بالعقل رئيساً على جماعة اخوانهم، وجعلوه الحكم بينهم، فهو "الذي جعله الله تعالى رئيساً على الفضلاء من خلقه".
وحرصاً منهم على الاستسماك بموجبات هذه الرئاسة للعقل، يؤكدون انه "من لم يرض بشرائط العقل وموجبات قضاياه (..) فعقوبته في ذلك أن نخرج من صداقته، ونتبرأ من ولايته، ولا نستعين به في أمورنا، ولا نعاشره في معاملتنا، ولا نكلمه في علومنا، ونطوي دونه أسرارنا، ونوصي بمجانبته اخواننا.
ان لدينا هنا وثيقة صريحة تضع حكم العقل في منزلة المرجع الأول للجماعة. وليس من مجال، في نص كلامهم هذا، لقول قائل بان القصد بالعقل هو "العقل الأول" أو "العقل الفعال" الذي يبنون عليه "عملية" الخلق أو الصدور، فان كلامهم كله ينصب على العقل الانساني، لذا قالوا: "..اذا انضاف إلى عقولهم .." ثم ينبغي ان نتنبه إلى مغزى تلك الكلمات الاخيرة في هذا النص: "..فليس يحتاجون إلى رئيس يرئسهم..إلخ". اليس فيها الماح شفاف إلى اكتفائهم بأحكام العقل عن أحكام الشريعة، أو بـ"العبادة الفلسفية" عن "العبادة الشرعية الناموسية"؟ المسألة –كما نرى- واضحة.
أما المصدر الثاني لتحديد موقفهم من العقل، وهو منجهم في "الرسائل"، فاننا نجد له تجليات عدة يتجلى فيها، ونذكر – على سبيل المثال- بعضاً من هذه التجليات([1]):
أولاً، تعريفهم "العقل الانساني" بانه "التمييز الذي يخص كل واحد من أشخاص الانسان. فما دام العقل هو الخاصة الاساسية المميزة للإنسان، فهل لمن يعترف بذلك، بلهجة التحديد والتعميم، أن يهمله جانباً، فلا يجعله الدليل إلى المعرفة وكشف المجهول واستطلاع حقائق الوجود؟.
ثانياً: انكارهم المعجزات. والعقل هو المستند في انكارها. فهو الذي يستكشف قانون العلاقة السببية بين الاشياء والأحداث وبين أسبابها الموضوعية.
وهو الذي اعتمده "الاخوان" في ادراكهم معنى "العلة" وعلاقتها بـ"المعلول" فحددوهما في رسالة "الحدود والرسوم" التي هي الدليل الاصطلاحي المنهجي لهم في عملهم "الموسوعي" (الرسائل)، اذ قالوا بأن "العلة هي سبب لكون كل شيء آخر ايجاداً"، وأن "المعلول: هو الذي لوجوده سبب من الاسباب".
وعلى هذا الاساس – بالطبع- تأولوا ما ورد في الكتب الدينية من اخبار المعجزات، فأخضعوها لأحكام العلاقة السببية، وجردوها من الهالة "العجائبية" اللاهوتية.
تأولوا، مثلاً، قصة احياء المسيح الموتي بأن الموت هنا هو الجهل، واحياء "ميت" الجهل يكون بالمعرفة، وقصة شفائه الاعمى بأن العمى هنا هو عمى القلب عن الحق، وشفاؤه بالهداية إلى الحق.
ثالثاً: رفضهم التقليد في الدين ما لم تقم البراهين على صحة ما يرثه الوارثون من كل دين.
رابعاً: انهم في مجال نظرية المعرفة، بعد اعترافهم بقيمة المعرفة الحسية يرون أن الاحكام التي يستخرجها العقل الانساني من المبادئ العقلية هي أسمى أنواع المعرفة([2]).
خامساً: أن معظم عملهم الموسوعي في تفسير العالم، يستند إلى مباحثهم في العلوم الرياضية الطبيعية أكثر مما يستند إلى المعارف اللاهوتية.
المحتوى الاجتماعي لايديولوجية "إخوان الصفا":
في تناولنا للجوانب الاجتماعية في فلسفة "إخوان الصفا"، يمكن القول أنهم تفردوا بعنصر يعبرون به عن تقدم ملحوظ على الصوفية في مجال الصراع الايديولوجي لعصرهم، ذلك هو –كما يقول د. حسين مروه- "ارتباطهم الواضح بالواقع الاجتماعي الذي خرج بهذا الصراع عندهم من اطاره الفكري المجرد ليكتسب محتوى اجتماعياً مباشراً.
وبالتالي فإن المحتوى الاجتماعي لفكر "إخوان الصفاء" يتجلى في الجوانب التالية من فلسفتهم:
1- انهم يرفضون فكرة السعي لنقاء الإنسان وسعادته الأخروية منعزلة عن نشاطه الإجتماعي لخير حياته الدنيوية، بل هم يضعون هذا النشاط في أساس ذلك السعي.
2- انهم، اذ يؤكدون الطابع الاجتماعي لنشاط الانسان، يؤكدون قيمة العمل والطابع الاجتماعي أيضاً لأهداف العمل، لذلك هم يضعون تقسيم العمل في المجتمع كأساس لتقدم المجتمع وهنائه، ويضعون الحوافز المادية كأساس لانجاز العمل واتقانه. وفي مجال الحوافز المادية للعمل يقولون في السياق نفسه: "واما ما اصطلحوا عليه من الكيل والوزن والثمن والاجرة، فان ذلك حكمة وسياسة، ليكون حثاً لهم على الاجتهاد في اعمالهم وصنائعهم ومعاوناتهم، حتى يستحق كل انسان من الأجرة بحسب اجتهاده في العمل ونشاطه في الصنائع"([3]).
ان لهذا النص مدلولاً اجتماعياً آخر مرتبطاً بالوضع التاريخي لقضية العمل، وبه يظهر وجه الاختلاف الذي سبقت الاشارة اليه بين المجتمع اليوناني العبودي الذي تمثله الفلسفة اليونانية، وفلسفة أفلوطين بوجه خاص، وبين المجتمع الاقطاعي – التجاري الذي تمثله الفلسفة العربية، منها فلسفة "اخوان الصفاء"([4]).
نعني بهذا المدلول زوال نظرة الاحتقار إلى العمل اليدوي والإنتاجي وإلى الفئات الاجتماعية التي تمارس هذا العمل. تلك النظرية المرتبطة بالمجتمع العبودي. بل نجد عند "الاخوان" نظرة معاكسة تضع هذه الفئات الاجتماعية في مستوى واحد مع الفئات السياسية والعلمية والتعليمية.
3- ان "اخوان الصفاء" وضعوا معارفهم "الموسوعية" المدونة في "رسائلهم" الاحدى والخمسين، لتكون هذه المعارف كلها، بمختلف انواعها ومستوياتها، في متناول مختلف فئات المجتمع دون تمييز بينها، وحاولوا نشرها في أوسع الجماهير، ورتبوا في الرسائل نفسها وسائل ايصال هذه المعارف إلى الناس كافة، بوساطة مجالس منظمة بأعدادها وبمواعيد اجتماعاتها.
نستنتج من ذلك أن تثقيف الجماهير العريضة بالمعارف العلمية المحض كان هدفاً من أهداف "الاخوان" إلى جانب الهدف السياسي، ان محاولة التثقيف الجماهيري، حتى بالموضوعات الدعائية ذات الطابع المذهبي والسياسي، هي بذاتها محاولة ذات مدلول ايديولوجي له محتواه الاجتماعي الصريح وان تعميم المعارف العلمية في المجتمع كله عن الطبيعة والانسان والدين والمجتمع والدولة، بمفاهيم متحررة من المفاهيم الرسمية، هو عمل ايديولوجي يقف في مواجهة ايديولوجية نظام الحكم المسيطر حينذاك، ليحاربها من جهتين: من جهة كونها، أولاً، أداة لحجب المعارف العلمية عن جماهير " العامة"، وحصرها في الفئات العليا من المجتمع وفي الفئات الأخرى الموالية للدولة ونظامها الاجتماعي المسيطر"([5]).
ومن جهة كونها، ثانياً، تقوم على توطيد استبدادية هذا النظام وتأبيد سيطرته المطلقة غير القابلة للاعتراض والنقاش، وتحريم الأفكار المتحررة من مفاهيم الفكر "الرسمي" ومسلماته النظرية، وتوجيه تهمة "الزندقة" أو "الهرطقة" أو "الكفر" سلاحاً لارهاب ذوي الأفكار المتحررة هذه واضطهادهم حتى بالابادة الجسدية.
ان التاريخ يقدم لنا "اخوان الصفاء" كأحد أظهر الامثلة الملموسة على ذلك، بوضعهم السري الغامض، وبالصيغ الحذرة منتهى الحذر التي صاغوا بها "رسائلهم" حتى برزت أفكارهم ملفعة بالرموز والمعميات حيناً، وبالشعارات الدينية الشائعة المحمولة على عدة اوجه حيناً آخر، مدفوعين إلى ذلك كله بعامل الخوف على حياتهم وحياة أفكارهم من جهة، وبعامل الحرص على فتح الطريق امام أيديولوجيتهم ومعارفهم إلى أذهان أوسع الجماهير من جهة ثانية.
وقد نفذ المستشرق "دي بور" إلى هذا الجانب من قضية "الاخوان" اذ استنتج من آرائهم "أنها تبدو مذهب جماعة مضطهدة تطل النزعات السياسية منه بين حين وآخر، ونرى من خلاله بعض ما عاناه أصحاب هذه الرسائل من آلام، وما قاموا به من كفاح، وما استهدفوا له هم وأسلافهم من جور..".
4- ان "الاخوان" ينطلقون، موضوعياً، في فلسفتهم الاجتماعية من نظرة طبقية عفوية، ولعل تحديد موقعهم الطبقي ليس عسيراً اذا أخذنا الوضع التاريخي بالحسبان، نعني به الوضع التاريخي للوعي في العصور الوسطى، وفي مجتمع يحكمه نظام اجتماعي تسيطر ايديولوجيته اللاهوتية سيطرة مطلقة على وعي مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، ولا يسلم من سيطرتها حتى المفكرون المناهضون لهذا النظام ولايديولوجيته.
فاذا نحن لم نلحظ هذا الوضع التاريخي لصورة الوعي العام في تلك العصور، لم نستطع أن نحدد الموقع الطبقي لاخوان الصفا من خلال فلسفتهم الاجتماعية المعروضة في "الرسائل"، بل ربما وقعنا في خطأ الاستنتاج أن هناك تناقضاً بين نظرتهم الطبقية والمحتوى الايديولوجي لمجمل افكارهم الفلسفية ولخط اتجاههم "الستراتيجي"، وذلك انهم ينطلقون في فلسفتهم الاجتماعية من نظرة طبقية، وهذا أمر طبيعي ما دمنا نتحدث عن موقف ايديولوجي لهم ونبرهن على وجود هذا الموقف، وانه لأمر طبيعي كذلك – للسبب نفسه- ان يكون للوضع الطبقي لمجتمعهم انعكاس ما في مجمل فلسفتهم ومجمل موقفهم الايديولوجي، ولكن المسألة أن ظاهر النصوص التي ينعكس فيها هذا الوضع الطبقي، يوحي بانهم يسايرون هذا الوضع ويقرونه ويؤكدون صورته التي تلائم أيديولوجية النظام الاجتماعي المسيطر، رغم كونهم – وفق استنتاجاتنا السابقة كما يقول د. مروة- يفكرون ويعملون لهدم هذا النظام ونسف الأسس النظرية لأيديولوجيته، ويريدون اقامة نظام آخر له أيديولوجية مخالفة، فهم، مثلاً، حين يتصورون المجتمع الامثل "لمدينتهم" التي يفترض أن تبنى عليها "دولة الخير"، يتصورون تركيبه الطبقي على الوجه التالي: يتألف من أربع مراتب (ولنقل: أربع طبقات أو فئات اجتماعية): "أحداها، مرتبة أرباب الأركان الأربعة ذوي الصنايع. والثانية، مرتبة ذوي الرياسات. والثالثة، مرتبة الملوك ذوي الأمر والنهي. والرابعة، مرتبة الالهيين ذوي المشيئة والارادة.
فهذا هو التركيب الطبقي نفسه لمجتمع الدولة التي يعارضونها، زائداً الطبقة الرابعة، التي هي مرتبة الالهيين (الحكماء الفلاسفة)، وهذا هو سلم الترتيب الهرمي التقليدي لطبقات هذا المجتمع: ذوو الصناعات (القوى المنتجة) في القاعدة، ثم ذوو الرياسات (حكام الاقاليم والمحافظات والبلديات وسائر الاداريين)، ثم "الملوك ذوو الأمر والنهي". وأخيراً: الالهيون ذوو "المشيئة والارادة"([6]).
فاذن، يقر "الاخوان" الحكم الملكي، ويجعلون له الأمر والنهي، كما في ظاهر النص. بماذا تتميز "دولة أهل الخير" (دولة الاخوان) اذن، من الوجهة الطبقية؟. هذا أولاً وأين الموقع الطبقي للاخوان، ثانياً؟..
الجواب عن المسألة الأولى أن نعود إلى الوضع التاريخي، لكي نقول انه ليس مطلوباً، ولا يمكن أن يكون مطلوباً من "الاخوان"، أو من مفكرين آخرين، ان يخرجوا على عصرهم أو يتجاوزوا حدود وضعه التاريخي، فمجتمعات عصرهم مجتمعات طبقية. والصورة التاريخية للتركيب الطبقي لهذه المجتمعات هي الصورة نفسها التي يعكسها "الاخوان" ولا يمكن أن نطلب منهم أيضاً صورة غيرها، والنظام السياسي القائم على الملكية، هو جزء لا ينفصل من الصورة ذاتها والوضع التاريخي ذاته، ولا يمكن – مرة أخرى- أن نطلب منهم تصور نظام سياسي آخر لم يكن داخلاً في هاجس تلك العصور بعد"([7]).
أما الأمر الذي تتميز به الصورة الطبقية، بل الايديولوجية كذلك، في نظام "الاخوان"، فهو نفسه الأمر الذي يمكن أن نحدد به موقعهم الطبقي. وهذا يتمثل في جانبين من الصورة:
الجانب الأول، هو المركز الذي يحتله الملوك في سلم النظام الاجتماعي وسلطته السياسية. فقد رأينا هذا المركز يقع في مرتبة تحت مرتبة "الالهيين"، ورأينا فوق سلطة "الأمر والنهي" التي للملوك، سلطة أعلى منها هي "المشيئة والارادة" التي أسندها "الاخوان" إلى "الالهيين" (الفلاسفة).
فهنا اذن خطوة ثورية، أيديولوجية تسترعي الانتباه الجدي. لاننا هنا نفاجأ بانتزاع السلطة المطلقة من أيدي "ملوك" العصر الاسلامي الوسيط، ووضع المشيئة الأولى والارادة الأولى بأيدي الفلاسفة والحكماء، بحيث تكون لهم الرقابة النافذة على تصرف "الملوك" (نقرأ هنا : الخلفاء). ان ذلك مرتبط، اذن، بالمواجهة الايديولوجية التي أشرنا اليها.
الجانب الثاني، هو الموقف من "ذوي الصنائع" (القاعدة الطبقية للمجتمع = القوى البشرية المنتجة). نلحظ هنا أولاً قولهم أثناء تصنيف مراتب فئات المجتمع: "... أحداها مرتبة أرباب الاركان الأربعة ذوي الصنائع".
ماذا يعنون بـ"أرباب الاركان الأربعة"؟. نفهم ذلك حين نتابع هذا النص لنرى كيف يفسرون العلاقات بين "مراتب أهل المدينة" (طبقات المجتمع). فلنقرأ النص التالي:
"وينبغي أن يكون تدبير ذوي الصنائع سارياً في المرؤوسين كسريان الضوء في الهواء، وكسريان القوى النامية في الأركان الأربعة التي هي: النار، والهواء، والماء، والأرض، ويكون سريان سياسة ذوي الرياسات سارياً في أرباب ذوي الصنائع كسريان الالوان في الضياء، أو كسريان القوة الحيوانية في القوة النامية([8]).
ويكون نفاذ أمر الملوك ذوي السلطان سارياً في الرؤساء ذوي السياسة كسريان القوة الباصرة في إدراك الالوان، وكسريان القوة الناطقة في القوة الحيوانية. ويكون سريان مشيئة الالهيين ذوي الارادة سارياً في الملوك ذوي السلطان كسريان العقل في المعقولات، أو كسريان القوة الملكية([9]) في القوة الناطقة، فاذا انتظم أمر المدينة على هذه الشرائط، فهي السيرة الكريمة الحسنة التي يتعامل بها أهل المدينة فيما بينهم".
نستنتج من هذا النص، أولاً، ان وصف "ذوي الصنائع" بـ"أرباب الاركان الأربعة" مصدره نظرة "الاخوان" إلى منتجي الخيرات المادية (ذوي الصنائع) كنظرتهم إلى العناصر الأربعة (النار والهواء والماء والأرض) من حيث كون هذه العناصر هي الأصول الأولى الأساسية للحياة في الكائنات المادية.
ونستنتج –تبعاً لذلك- أن "الاخوان" يناظرون بين مراتب طبقات المجتمع ومراتب "تطور" الكائنات المادية.
فكما تكون هذه الكائنات في المرحلة الأولى من "تطورها" عبارة عن "القوة النامية" (القوة النباتية) المتكونة بفعل العناصر الطبيعة الاساسية، ثم "يتطور" إلى "القوة الحيوانية"، فالى "القوة الناطقة" (الانسانية)، فالى "القوة الملكية" (الملائكة) – هكذا تتصنف مراتب الفئات الاجتماعية من الأدنى إلى الأعلى: من "ذوي الصنائع"، إلى "ذوي الرياسات"، فإلى "الالهيين" (الحكماء، الفلاسفة).
إذا صرفنا النظر عن الطابع الميكانيكي لهذا التناظر بين المراتب الاجتماعية الطبقية وبين مراتب "تطور" الاحياء في نظرية "الاخوان"، أمكن –كما يقول د. حسين مروة- ان نستخلص منه نظرة ذات وجهين:
الوجه الأول، كون "ذوي الصنائع" في المرتبة الدنيا من المجتمع. وهذا هو الوضع التاريخي الذي قلنا –قبل- انه ينبغي أن يؤخذ بالحسبان عند تحديد موقع "الاخوان" الطبقي.
ان هذا واقع تاريخي ينعكس عندهم بالضرورة انعكاساً واقعياً، وليس منتظراً أن يتجاوزوه، وما كان ممكنا ذلك. وهو في التاريخ حتى عصر الاشتراكية، وسيبقى ممتداً إلى أن يسود المجتمع اللاطبقي عالمنا كله.
أما الوجه الثاني، فهو كون "الاخوان" ينظرون إلى الفئات الاجتماعية التي تخلق للمجتمع حاجاته المادية، نظرتهم إلى قوة أساسية تصنع للمجتمع قاعدة صيرورته مجتمعاً بالفعل، أو إلى شرط أساسي لانتظام "أمر المدينة" (المجتمع) وفقاً لتعبيرهم ونظريتهم.
اننا نحتاج هنا إلى التنسيق بين هذه النظرة إلى مكانة "ذوي الصنائع"، كما استنتجناها من النصوص الأخيرة، وبين نظرتهم الاخرى إلى الطابع الاجتماعي لنشاط الانسان، والطابع الاجتماعي لأهداف العمل، ونظرتهم إلى تقسيم العمل كأساس لتقدم المجتمع وهنائه، وإلى استحقاق كل انسان من الأجرة بحسب اجتهاده في العمل، كما استخلصنا ذلك سابقاً"([10]).
ان التنسيق بين هذه المواقف النظرية كلها، يوصلنا إلى رؤية ما وراء هذه المواقف من منطلق أيديولوجي يتحدد – في رأينا- بأنه أحد التعبيرات التاريخية عن أيديولوجية الفئات الاجتماعية المستمثرة والمضطهدة في ظل النظام الاجتماعي لدولة الخلافة العباسية.
ولكي يكون "الاخوان" من المعبرين عن أيديولوجية هذه الفئات الاجتماعية الواسعة المتنوعة طبقياً، ينبغي ان يكون لهم أساس انتماء إلى فئة أو أكثر من هذه الفئات، وان كانوا وقت وضع موسوعتهم الفلسفية قد أصبحوا، كمثقفين، في مكان من المجتمع ربما أبعدهم – بحكم انصرافهم الفكري- عن صفوف الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي انحدروا منها.
ولكن المسألة لا تتوقف على استمرار وجودهم الفعلي في صفوف طبقتهم أو فئتهم الاجتماعية الاصلية، بقدر ما تتوقف على استمرار انحيازهم الايديولوجي اليها، وعدم تحولهم إلى صف طبقة جديدة لها أيديولوجيتها المعاكسة([11]).
نظرية المعرفة في فلسفة إخوان الصفا:
في هذا الجانب، علينا – كما يقول د. مروة- "أن نرى بالتعيين حدود موضوع المعرفة في موسوعة "الاخوان"، ثم ان نرى المصادر المعتمدة عندهم للمعرفة، والاصول والمقاييس التي يأخذون بها.
أما الموضوع فنرى حدوده تتجه وجهتين أساساً: الأولى، نحو معرفة الله وعلاقته بالعالم. والثانية، نحو العالم ذاته ولذاته بنوع من الاستقلال عن الوجهة الأولى.
وباختلاف الوجهتين تختلف حدود المعرفة نفسها، وإن لم تختلف المصادر والأصول والمقاييس الا قليلاً.
لننظر أولاً في مسألة معرفة الله:
يقرر "الاخوان" هنا أن هذا النوع من المعرفة، هو "أشرف العلوم وأجل المعارف". ولا نتوقع أن يقرروا غير ذلك، سواء من حيث علاقتهم بالعصر التاريخي، أم من حيث علاقتهم بظروف المجتمع الذي يتوجهون بمعارفهم اليه.
وأول نقطة في المنهج أنه لا يقاس طلب هذه المعرفة على طلب معرفة "الاشياء الجزئية المحسوسة".
والنقطة الثانية في المنهج، هي استخدام المقولات في ايضاح الفرق بين هذين النوعين من المعرفة. فان معرفة كل من المحسوسات والكليات المذكورة تطلب للاجابة عن أحد الاسئلة المتعلقة بهوية الشيء، أو ما هيته، او كميته، أو كيفيته، أو وضعه، او مكانه، او زمانه، أو علته، أو مميزاته.
أما معرفة الله فتطلب للاجابة عن سؤالين ليس غير من هذه الاسئلة، هما :هل هو؟ من هو؟ أي عن هويته، وعن صفاته.
يستنتج من ذلك أن معرفة الإنسان عن الله لا تتناول ماهيته، لا لان هذه المعرفة فوق قدرة العقل البشري – فهذا أمر لم يقولوه، وانما قالوا ما يفهم منه العكس – بل لان الذين طلبوا هذه المعرفة من "العلماء" كما يعبر "الاخوان" – لم يصلوا اليها، لا بسبب من خفاء سر الله، وانما بسبب "من شدة ظهوره وجلالة نوره"([12]).
"فالاخوان" لا ينظرون في المسألة اذن على الأساس التقليدي، أي على أساس الحكم بعجز العقل البشري عن معرفة ماهية الله، بل أن المسألة في نظرهم تتصل بأمر آخر، هو أنه لا يسأل عن ماهية الله، لانه هو مبدع الماهيات، كما لا يسأل عنه من حيث الكم والكيف والمكان والزمان والعلة، لانه هو مبدع الكميات والكيفيات والامكنة والازمنة والعلل كلها، فهذه المقولات لا تنطبق على ذات الله، لانه منزه عن الجسمية وحالاتها وأعراضها مطلقاً.
ولننظر – ثانياً- في الجانب الاخر، أي في موضوع المعرفة خارج عالم اللاهوت، نعني موضوعها في العالم المادي. ولنسأل، في البدء: هل العالم المادي هذا يكون موضوعاً للمعرفة في فلسفة "اخوان الصفاء"؟.
هذا السؤال ينحل –في الواقع- إلى سؤال آخر هو الأساس هنا: هل "اخوان الصفاء" يعترفون بالوجود الموضوعي للعالم الخارجي (المادي)؟.
يمكننا القول –كما يؤكد د. مروة-: نعم. انهم يعترفون له بهذا الوجود فمن الطبيعي – اذن- ان يكون موضوعاً، أما مصادر المعرفة التي يعتمدها "الاخوان"، فان الاساس فيها هو ما يخضع لتيار النزعة العقلانية في الغالب. فانهم حتى في مجال ما يسمونه بـ"العلوم الالهية" لا يبتعدون عن هذا الاساس، غير ان هذا الأصل لا يبقى وحده دائماً مصدراً لمعرفة "العالم الروحاني". فان التحفظ والحذر اللذين يسيطران، في معظم "الرسائل"، على تفكير "الجماعة" يدفعانهم أحياناً إلى اضفاء ستار غيبي على استنتاجاتهم ذات النزعة العقلانية والمادية، ومن هنا يشتد الالتباس في نصوصهم لدى الباحثين، فيجد المثاليون منهم في هذا الالتباس مجالاً لطمس تلك النزعة، أو لعدم رؤيتها كامنة وراء ذلك الستار الغيبي الذي يكون حيناً كثيفاً وحيناً شفافاً يكشف ما وراءه.
اذا  كانت معرفة الله و"العالم الروحاني" بأسره، تستند إلى العقل والمعارف العقلية والعلمية، فبالأولى أن تستند معرفة "العالم الجسماني" إلى هذه الوسائل نفسها، بل نرى هنا عملية التفكير بكاملها تنكشف، في نصوص "الاخوان"، عن ميل مادي عندهم ينطلق من نظرة تطبيقية مقاربة للواقع"([13]).
"اخوان الصفاء" عند تفسيرهم عملية التفكير، يضعون في البدء قاعدة انطلاق الإنسان إلى المعرفة.
وهي ذات أركان ثلاثة مترتبة من الأدنى إلى الأعلى: أولها الحواس الخمس ثم العقل. والعقل هنا معناه الإدراك العام للمبادئ العقلية الأولية، أي بدهيات الأمور، أو المسماة في الفلسفة القديمة بـ"المبادئ الأولى" كإدراك أن النقيضين لا يجتمعان.
لذا هم يعتبرون هذا الإدراك اداة للمعرفة مشتركة بين الناس البالغين جميعاً، لان العقل، بهذا المعنى العام، غير موصول وحده إلى العلم، فلا بد اذن من مرحلة أعلى منه للوصول إلى العلم. وهذه هي مرحلة الركن الثالث: البرهان([14]).
فالمعرفة العلمية -بناء على ذلك – تحتاج إلى الاركان الثلاثة معاً وفق ترتيبها السابق: الحس، والعقل، والبرهان، وهم –أي "الاخوان" – يرون أن البرهان، لكي تكتمل به المعرفة العلمية لابد أن يتأسس على النظر في الرياضيات والهندسة والمنطق. هذه هي الوسائل لتحصيل المعرفة بمختلف مراتبها.
ان قراءة التفاصيل في نصوصها الاصلية في "الرسائل"، تضع أمامنا بعض الاستنتاجات المعرفية البالغة الأهمية في نظرنا، وهي([15]):
1.                                       ادراك "الجماعة" حقيقة الترابط المادي العضوي بين كل من عملية الحياة وعملية الاحساس وعملية التفكير.
2.                                       ان ادراك الترابط العضوي بين العمليات الثلاث لدى "اخوان الصفاء"، كما لدى غيرهم من فلاسفة العرب الاسلاميين في عصرهم، أمر تنطق به نصوصهم جميعاً، أي أن هذا الادراك، هو من الظاهرات المعرفية للعصر بكامله.
ولكن، ينبغي الفصل بين هذا الموقف الفلسفي المادي هنا والموقف الفلسفي المثالي في مسألة النفس، حيث يفترض "الاخوان" ثنائية النفس والجسد.
فالانسان –حسب فرضيتهم المثالية- "جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الاحوال، ومشتركان في الاعمال العارضة والصفات الزائلة.
3.                                       الاستنتاج الثالث، ان وصفهم عملية التفكير، بمختلف مراحلها واجهزتها، ينكشف، خلال النصوص نفسها، عن توصلهم إلى رؤية الاساس المادي لهذه العملية، بل رؤية حركتها الداخلية مرتبطة باجهزة الحياة والاحساس العضوية في الجسم، رغم كون هذه الرؤية ظلت قاصرة عن جعل الاساس المادي هذا منطلقاً إلى رفض فكرة "روحانية" النفس البشرية.
خاتمة:
لم يكن "اخوان الصفاء" ممثلين مذهبيين محدودين، أي تابعين فقط لمذهب الاسماعيلية. "انهم –في الواقع- ممثلون لاحدى ظاهرات عصرهم ومجتمعهم البارزة، وهي ظاهرة البحث الموسوعي بشموليته، مع عناية خاصة ببحث أوسع المعلومات عن الطبيعة بالمستوى الذي بلغته صيغة هذه المعلومات في مباحث الفلاسفة – العلماء العرب آنذاك.
فالمعارف التي تحتويها مجموعة "اخوان الصفاء"، متحولة من كونها "معارف هلينية" أصلاً، إلى كونها معارف العصر والمجتمع اللذين يعبر عنهما "اخوان الصفاء"، ولان الاتجاه العام لهذه المعارف يستجيب لمصالح الكثرة العريضة من فئات هذا المجتمع، وهو – لذلك- يعد تعبيراً أيديولوجياً أيضاً عن هذه الفئات العريضة نفسها"([16]).
إن "جماعة إخوان الصفا" بقدر ما كانت بمثابة تعميم لمعارف عصرها عن قوانين الطبيعة، وبقدر ما كان ذلك بمثابة تعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية المستَغَلَّة والمضطَّهَدة (بالفتح)، كانت تحمل الميل الجدي إلى المعرفة الموضوعية عن الطبيعة والمجتمع.
يتجلى هذا الميل لا في منهج البحث وفي الاستنتاجات التي يتوصل اليها البحث فحسب، بل يتجلى كذلك بالتعبير الصريح المباشر عنه حين يوصي مؤلفو المجموعة اخوانهم "أن لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتاباً من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب.
ان تركيز اهتمامنا "على هذه الحقائق، لا يعني أننا نقصد إلى اغفال الجوانب الاخرى من فلسفة "اخوان الصفاء"، التي يبرز فيها وجههم المثالي، فالفرق بين الصوفية واخوان الصفاء، ان هؤلاء الاخيرين متقدمون على الصوفية في مجال الصراع الايديولوجي، من حيث انهم أكثر ارتباطاً بالواقع الاجتماعي، في حين ظل الصوفية بعيدين عن هذا الواقع، وظل موقفهم الايديولوجي منحصراً في المدلول الفلسفي لتجربتهم الداخلية"([17]).
ومن مظاهر ارتباط اخوان الصفاء بالواقع الاجتماعي:
أولاً، انهم يضعون النشاط الاجتماعي في أساس سعي الإنسان إلى السعادة.
ثانياً، انهم يؤكدون قيمة العمل الجسدي وأهدافه الاجتماعية.
ثالثاً، انهم وضعوا معارفهم عن الطبيعة والمجتمع في متناول الجماهير، واجتهدوا في نشرها بين مختلف الفئات الاجتماعية.
رابعاً، انهم ينطلقون في فلسفتهم الاجتماعية من نظرة ذات أبعاد طبقية تؤكد على العدالة ، علاوة على انها فلسفة مستنيرة وعقلانية .


 


([1]) حسين مروة – مرجع سبق ذكره - النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية - الجزء الثاني – ص388
([2]) المرجع نفسه - ص389
([3]) المرجع نفسه - ص377
([4]) المرجع نفسه - ص378
([5]) المرجع نفسه - ص379
([6]) المرجع نفسه - ص380
([7]) المرجع نفسه - ص381
([8]) المرجع نفسه - ص382
([9]) الملكية: (بفتح اللام) من الملائكة. فان "اخوان الصفاء" يرون أن رتبة الملائكة هي الرتبة العليا التي تنتهي اليها النفوس البشرية الصالحة. وهي، من حيث كونها انتقالاً "تطورياً" للبشر الصالحين، تساوي في نظرهم أعلى مراتب "تطور" الاحياء المتصاعدة من القوة النباتية حتى القوة الناطقة فالملائكية (راجع الرسائل : ج2، ص172). وهم يربطون بين الطبيعة والملائكة، بل الملائكة تعبير –عندهم- عن الطبيعة القائمة في النفس الكلية (الرسائل : ج2، ص55، ص108-109).
([10])  حسين مروة –  مرجع سبق ذكره - النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية - الجزء الثاني – ص383
([11]) المرجع نفسه - ص384
([12]) المرجع نفسه - ص391
([13]) المرجع نفسه - ص392
([14]) المرجع نفسه - ص393/ 396
([15]) المرجع نفسه - ص398
([16]) المرجع نفسه - ص435
([17]) المرجع نفسه - ص435-436