أربعة أسباب لأهمية دراسة الثورة الروسية

سيد صديق
2020 / 10 / 5 - 23:42     

ترجمة سيد صديق

كانت المرة الأولى التي يستحوذ فيها العمال على سلطة الدولة
في أكتوبر 1917، تمادت الطبقة العاملة في روسيا إلى أبعد مِمَّا بَلَغَته أيُّ طبقةٍ عاملة قبل ذلك أو مذاك الحين، إذ استولَت على السلطة السياسية من أيدي الحكومة الرأسمالية وحلَّت محلها بسيطرةٍ من العمال ولأجلهم.

قام هذا الشكل الجديد للحكومة على السوفييتات، أو مجالس العمال. كانت هذه السوفييتات جهازًا تمثيليًا مختلفًا تمامًا عن البرلمانات ذات الامتيازات وغير الخاضعة للمحاسبة في المجتمعات الرأسمالية. كان المندوبون يُنتَخَبون من مواقع العمل، وظلوا في هذه المواقع، وتقاضوا الأجر نفسه للعامل الماهر، فيما كانوا عرضةً للاستدعاء الفوري والاستبدال. كان هذا يعني أنهم معروفون بشكلٍ مباشر ويمكن محاسبتهم على أيدي من انتخبوهم بالأساس.

تأسَّسَت السوفييتات خلال ثورة فبراير، التي أطاحت الديكتاتورية القيصرية، وتطوَّرَت كشكلٍ للتنظيم والنقاش ودفع النضال إلى الأمام. حدَّدَت السوفييتات على مستوى الضواحي والمدن يوم العمل بثمان ساعات لا أكثر، وأدخلت الديمقراطية في الجيش. تأسَّسَت أيضًا سوفييتات للجنود والفلاحين، وفي مواقع العمل كانت لجان المصانع تنظِّم كلَّ شيء؛ من إدارة العمل إلى الاجتماعات السياسية.

المهم أيضًا بصورةٍ حاسمة هو أن هذه المنظمات الديمقراطية تجاوَزَت ذلك الفصل الرأسمالي بين السياسة والاقتصاد. ليست السلطة الحقيقية في ظلِّ الرأسمالية كامنةً في يد المُمَثِّلين المُنتَخَبين، بل في يد المليارديرات ومجالس إدارة الشركات الكبرى، ونادرًا للغاية ما تتعدَّى البرلمانات على سيطرتهم على الاقتصاد، وحين تفعل ذلك، يمكن للطبقة الرأسمالية التغلُّب عليها.

كانت سلطة السوفييتات، القائمة في المصانع، تستند إلى تحكُّم العمال في الإنتاج، وقد تحدَّت هذه السلطة العمالية حكم الرأسماليين بشكلٍ مباشر. وحين وقَّع سوفييت مدينة بتروجراد، في مارس، اتفاقًا مع إحدى منظَّمات رجال الأعمال لتحديد يوم العمل بثمان ساعات، لم يكن ذلك إلا إقرارًا بحقيقةٍ فَرَضَها العمال بأنفسهم في عملية الإنتاج.

وفي أغسطس من العام نفسه، حين حاوَلَ الجنرال اليميني كورنيلوف سحق الثورة، استخدَمَ عمال السكك الحديدية والبرق سيطرتهم على وسائل النقل والاتصال لردع محاولة الانقلاب العسكري.

كان للثورة تأثيرٌ هائل على الحياة اليومية من خلال إرساء الديمقراطية في مواقع العمل. تحوَّلَ كلُّ مصنعٍ وثكنة إلى مكانٍ للنقاش والجدال. تزعزعت الافتراضات والقيود القديمة. وفي مجتمعٍ غارقٍ في التمييز الجنسي، انخرطت النساء بصورةٍ متزايدةٍ في الحياة السياسية.

في البداية، كانت السوفييتات تعمل جنبًا إلى جنبٍ مع حكومةٍ رأسماليةٍ مؤقَّتة تألَّفَت من بقايا من نوابٍ غير مُنتَخَبين في برلمان القيصر سابقًا. وفي أكتوبر، أُطيحَت الحكومة الرأسمالية وحلَّت السلطة السوفييتية محلَّها، لتكشف أنه بإمكان العمال قيادة ثورة اشتراكية وإدارة المجتمع من أجل مصالح الأغلبية الساحقة فيه.

دشَّنَت الدولة السوفييتية سلسلةً من الإصلاحات الرائدة في الرعاية الصحية والتعليم والعمل، وحقَّقَت تقدُّمًا هائلًا في حقوق النساء ومجتمع الميم، علاوة على أنها أنهت مشاركة روسيا في المجزرة الإمبريالية في الحرب العالمية الأولى. أظهَرَت الثورة الروسية أن سلطة العمال هي الطريق من أجل التغيير الجذري الذي نحتاجه.

أبرزت دور الحزب الثوري
لم تكن هذه الثورة ليُكتَب لها النجاح لولا الحزب البلشفي. كان البلاشفة حزبًا اشتراكيًا ثوريًا، بل كانوا أكثر القوى السياسية جذريةً في روسيا. دعوا إلى إسقاط الحكومة الرأسمالية المؤقَّتة وانتقال كلِّ السلطة إلى سوفييتات العمال والجنود والفلاحين.

في بداية الثورة، لم يكن البلاشفة وسياساتهم الجذرية يحظون بدعمٍ إلا من أقليةٍ في الحركة العمالية. تمثَّلَت الأحزاب الأكبر في السوفييتات في الاشتراكيين المعتدلين الذين رأوا ضرورة الاستمرار في الدعم السياسي للحكومة المؤقَّتة. وهذا بدوره أبقى على السلطة في يد الرأسماليين.

حتى في ذروة النضال، قد يظل العمال يتمسَّكون بالأفكار التي تشرَّبوها خلال سنواتٍ طويلة من الاضطهاد الرأسمالي. لأغلب الوقت لا يكون لدى العمال وغيرهم من الناس العاديين أيُّ رأيٍ في كيفية إدارة المجتمع. يتَّخِذ أرباب العمل والمديرون القرارات بشأن العمل، وتتَّخِذ مجالس إدارات الشركات الكبرى القرارات الاقتصادية، وتُقرَّر السياسات الحكومية بواسطة السياسيين والبيروقراطيين لدى الدولة. حين يفكِّر الناس فيمن يتمتَّع بالسلطة لإعادة تشكيل المجتمع، فإنهم ينظرون إلى الحكومة. وفي أوساط الطبقة العاملة، هذا بالذات ما يُعزِّز الإصلاحية، التي تسعى إلى تطبيق الإصلاحات الاشتراكية من خلال المؤسَّسات البرلمانية.

ظلَّت هذه الأفكار صامدةً حتى بعد ثورة فبراير، وكانت مدعومةً بجدالاتٍ ساقها الاشتراكيون المعتدلون هنا وهناك. وبينما سَحَبَ أغلب العمال ثقتهم في النخب غير المُنتَخَبة للحكومة المؤقَّتة، دَفَعَت الأحزاب المعتدلة باتجاه المصالحة والتوافق مع هذه النخب، وحتى منحهم مناصب قيادية في الحكومة.

كان الدعم المتواصل للحكومة المؤقَّتة يعني أن تظل الكثير من تطلُّعات العمال والجنود والفلاحين الثوريين كما هي دون أن تُلبَّى. استمرَّت مشاركة روسيا في المذابح الوحشية للحرب العالمية الأولى، وظلَّت الأرض في أيدي الإقطاعيين الأغنياء. وقد استلزَمَ الأمر تدخُّلًا من حزبٍ ثوري مثل البلاشفة لتجاوز تأثير الاشتراكيين المعتدلين.

عبر سنواتٍ عديدة، عَكَفَ البلاشفة، وزعيمهم المركزي لينين، على بناء ذلك الحزب عبر المشاركة المستمرَّة في النضالات والجدالات داخل الحركة العمالية الروسية. وعبر مراحل الصعود والهبوط في النضال الطبقي وقمع الدولة، انخَرَطَ البلاشفة في جدالاتٍ مع التيارات السياسية المختلفة، وأقاموا اتصالاتٍ مع العمال المناضلين وكافحوا إلى جانبهم. وكان هذا يعني أنهم، بحلول العام 1917، كانوا في موضعٍ سَمَحَ لهم بالتدخُّل في الجدالات المُثارة في الثورة ونضالاتها. كَشَفَ هذا النضال مواطن ضعف الاشتراكيين المعتدلين، وأوضح للجماهير أن البلاشفة كانوا على صواب: كان لابد من إطاحة الحكومة المؤقَّتة وإحلال السوفييتات محلَّها.

تمكَّن البلاشفة من النمو من حزبٍ يتألَّف من آلافٍ معدودة ويُشكِّل أقليةً داخل السوفييتات والجيش، بينما يقبع الكثير من أفضل قادتهم في المنفى، إلى حزبٍ جماهيري للطبقة العاملة بعضويةٍ تناهز الربع مليون وأغلبيةٍ في السوفييتات. في كلِّ منعطفٍ في الصراع الطبقي، كانوا يطرحون ضرورة تأسيس سلطة العمال، وصولًا إلى الانتفاضة التي كُلِّلَت بالنصر في أكتوبر. أطاحت هذه الانتفاضة الدولة الرأسمالية وأسَّسَت حكومةً من السوفييتات؛ المرة الأولى على الإطلاق التي يستحوذ فيها العمال على سلطة الدولة.

يُظهِر تاريخ البلاشفة أن العمال يمكنهم تنظيم أنفسهم في النضال من أجل السياسات الاشتراكية الثورية. يُظهِر هذا التاريخ أن الثورات يمكن أن تحرز النصر ضد أعدائها بمنظماتٍ مثل هذه. هذا هو التنظيم الذي نحن بحاجةٍ لبنائه اليوم.

أوضحت لماذا نحتاج سياساتٍ أممية
اختتم ماركس وإنجلز البيان الشيوعي بالنداء الشهير من أجل التضامن الأممي “يا عمال العالم، اتحدوا”. خلال حياتهم السياسية، أسَّسا منظمةً وحَّدَت الحركة العمالية في بلدانٍ مختلفة، وعُرِفَت باسم “الأممية الأولى”.

في ظلِّ النظام الرأسمالي، تتنافس رؤوس الأموال ضد بعضها سعيًا من أجل حصد الأرباح. وتدفعهم هذه المنافسة إلى السعي من أجل الولوج إلى أسواقٍ جديدة والحصول على موارد جديدة في مقابل خصومهم. وعلى المستوى العالمي، يؤدِّي هذا إلى تقسيم العالم بين القوى الإمبريالية. أما أممية الطبقة العاملة، فهي إقرارٌ بحقيقة أن العمال ليس لديهم مصلحةٌ في هذه المنافسة. والانحياز إلى صالح أمتـ”نا” ليس من شأنه إلا أن يربطنا بمَن يستغلِّوننا، بينما يفصلنا عن عمال البلدان الأخرى.

في العقود السابقة على الثورة الروسية، بدت مثل هذه الأممية غير قابلةٍ للجدال بين الاشتراكيين. كانت أحزاب الطبقة العاملة جزءًا من الحركة الاشتراكية الأممية، في تحالفٍ يجمعهم تحت لواء “الأممية الثانية”. وَقَفَت هذه الأممية ضد التهديد المتصاعد بالحرب، ذلك التهديد الذي كان سائدًا في مطلع القرن العشرين. لكن حين اندلَعَت الحرب في 1914، انقَسَمَت هذه الحركة. تخلَّت معظم أحزب الأممية الثانية عن مبادئها الأممية، إذ انضمَّت إلى طبقاتها الحاكمة في دعم إرسال العمال إلى المذبحة الإمبريالية.

كان البلاشفة أحد الأحزاب القليلة التي وَقَفَت ضد الحمى القومية، ودعوا إلى ثورةٍ عمالية من أجل إنهاء الحرب. لقد قادوا المقاومة ضد الحرب حيثما استطاعوا، بينما أدَّى الواقع الوحشي للحرب إلى تجذير العمال ودَفَعَهم إلى المزيد من التمرُّد. وعلى المستوى الأممي، عمل البلاشفة من أجل وحدة الاشتراكيين المناهضين للحرب ووضعوا حجر الأساس لإحياء الحركة الاشتراكية الثورية.

مثلما دَفَعَ النظام المتشابك عالميًا إلى حربٍ عالمية، خَلَقَت الخبرة المشتركة للفظائع المُتولِّدة عن هذه الحرب القاعدة التي تقوم عليها الثورة العالمية. ومع وشوك الحرب على وضع أوزارها، بدأ ذلك يتحوَّل إلى حقيقةٍ واقعة.

أدَّى انتصار الثورة الروسية إلى تغييرٍ جذري في السياسات العالمية. امتدَّت الثورة إلى أوروبا الغربية، وانتشرت الانتفاضات الجماهيرية عبر العالم. كانت الثورة العالمية عاملًا حاسمًا بالنسبة لنجاح الثورة في روسيا. فالرأسمالية نظامٌ عالمي، فيما كانت روسيا مجتمعًا متأخِّرًا؛ ريفيًا في معظمه. كان البلاشفة يدركون أن ثورتهم سيُكتَب عليها الهزيمة إن لم تنتشر، إذ لا يمكن بناء مجتمعٍ اشتراكي في روسيا الواقعة في براثن الفقر وحدها. كان أملهم الوحيد هو انتصار الثورة في بلدانٍ أخرى. امتدَّت الانتفاضات بالفعل خارج روسيا، لكنها هُزِمَت في النهاية، وتراجَعَت إثر ضعف الحركات الثورية، ومن ثم عُزِلَت الثورة الروسية، وحوصِرَت بالرجعية الرأسمالية.

لابد أن تكون الاشتراكية مُناهِضةً للإمبريالية، أن تكون حركةً أمميةً مرتكزةً على بناء التضامن بين العمال عبر أرجاء العالم. إذ لا يمكن أن تُبنَى الاشتراكية في بلدٍ واحد على حساب الآخرين.

شكَّلَت هزيمتها السياسات العالمية في القرن التالي
أرست هذه العزلة الأساس لهزيمةٍ لا تزال أصداؤها تتردَّد حتى يومنا هذا. انهار الإنتاج في روسيا، ومعه سلطة الطبقة العاملة. ظلَّت السوفييتات موجودةً بالاسم فقط، والحياة الديمقراطية التي دبَّت الروح في أوصال السوفييتات دُمِّرَت بالفقر والمجاعة. وبشكلٍ متزايد، كانت بيروقراطية الدولة هي التي تتولَّى زمام المجتمع.

صار ستالين زعيمًا سياسيًا لهذه البيروقراطية المتنامية، وفي نهاية المطاف قاد ثورةً مضادة سَحَقَت مكتسبات الثورة. انطلقت حملةٌ شرسة من إرهاب الدولة وقمعها استهدَفَت المعارضين السياسيين. حُظِرَت المعارضة، وتمركزت السلطة الاقتصادية في يد البيروقراطية.

كان لهذه الثورة المضادة نتائج مدمِّرة في روسيا، لكن تأثيرها على السياسات العالمية كان أكثر تدميرًا. فبينما قَلَبَت البيروقراطية الجديدة جوهر الأفكار الماركسية رأسًا على عقب، واصَلَت زعمها أنها تحمل لواءها. نَتَجَ عن ذلك أن ارتبطت الاشتراكية بالنظام الستاليني، بدلًا من أن ترتبط بالنضال الأممي للطبقة العاملة.

بعد الثورة الروسية، اكتسبت الأحزاب العمالية الثورية عضويةً وحشودًا غفيرة من الأنصار من أوساط الطبقة العاملة، إذ استلهَمَت الشعوب نموذج هذه الثورة. لكن هذه الأحزاب الشيوعية تحوَّلَت إلى أداةٍ في يد الطبقة الحاكمة الجديدة في روسيا. أصبحت هذه الأحزاب حائلًا أمام تحرُّر العمال. في ألمانيا على سبيل المثال، دمَّرَت سياسات الحزب الشيوعي إمكانية النضال الفعَّال ضد هتلر.

صدَّت الستالينية أجيالًا من النشطاء عن الاستكشاف الحقيقي للأفكار الاشتراكية. حُرِّفَت الماركسية وشُوِّهَت بارتباطها بنظام ستالين، وقد أدَّى ذلك إلى انفصال النشطاء والثوريين عن تراث السياسات الثورية للطبقة العاملة، تلك السياسات التي تظلُّ تمثِّل الحلَّ الوحيد في مواجهة فظائع الرأسمالية العالمية.

فقط من خلال الدراسة والفهم الحقيقي لكيفية تشويه الستالينية وخيانتها تراث الثورة يمكننا إنقاذ دروس هذه الثورة والبناء على منجزاتها. تظلُّ الثورة الروسية تمثِّل ذروة سياسات الطبقة العاملة. وطالما أننا مستمرون في النضال ضد الرأسمالية، فنحن بحاجةٍ إلى العودة إليها ودراستها، من أجل التعلُّم من نجاحاتها، وفهم هزيمتها وإعادة بناء التراث الحيِّ للاشتراكية الثورية.

– المقال بقلم: توم جيلكريست – موقع “ريد فلاج” الأسترالي.