سلامة كيلة، سنتان على غيابه


عديد نصار
2020 / 10 / 2 - 23:40     

في أواخر شهر ايلول/ سبتمبر2018، كتب سلامة كيلة آخر مقالاته في العربي الجديد، "زاوية الخميس" بعنوان: في الموقف ضد الاستبداد، نشرت بتاريخ 27 من الشهر نفسه. وكان قد انقطع عن زاويته تلك لأسبوع أو أسبوعين بسبب اشتداد المرض عليه، وعندما قرأت مقاله الأخير اطمأنيت الى سلامته.
لكن سلامة كان قويا وقادرا على طرح أفكاره حتى في عز الشدة التي عانى منها، الشدة التي أوقفت نبض قلبه بعد خمسة أيام، أي في الثاني من تشرين أول/أوكتوبر.
وكأني بسلامة قد أودع في مقاله الأخير وصيته الأخيرة للشباب العربي ولقوى التغيير وللكوادر والرفاق الذين أمضى سنوات طوال، خصوصا سنوات الانتفاضات والثورات الشعبية العربية المتنقلة، في التواصل معهم والاستماع اليهم محاولا إيصال ما اكتنزه وعيه لهم من رؤية وتحليل وأفكار تكون لهم بمثابة منطلق يؤسسون عليه في سعيهم الدائب الى التغيير الموعود، التغيير الذي لا بد أنه آت، بشهادة الانتفاضات الشعبية والثورات التي انطلقت ذات سابع عشر من ديسمبر من ناحية سيدي بوزيد في أقاصي تونس المهمشة لتعم الوطن العربي كله ولتصل ارتداداتها الى قلب نيويورك، وول ستيرت، وسواها من المدن العالمية، والتي استتبعت بموجة ثانية في العامين الأخيرين اللذين تليا وفاة سلامة كيلة في السودان والجزائر وفي العراق ولبنان.
ولم يفوت الرجل فرصة للانتقال من دمشق قبل نفيه، الى القاهرة التي شهد فيها على ثورة الخامس والعشرين من يناير، الى تونس الى المغرب الى بيروت الى اسطنبول.. ليلتقي مع الشباب العربي وغير العربي ليس ليملي عليهم ما لديه، بل ليناقشهم في ما عندهم وليدلي بدلوه، إذ لم يكن أستاذا أو لم يلعب دور الاستاذ معهم، بل كان بمثابة المثقف العضوي، بحسب توصيف كميل داغر، الذي يؤدي دورا تفاعليا مع الناس.
مثلت تلك الانتفاضات والثورات التي خرجت من قاع اجتماعي أنهكته الضغوط المعيشية وإذلال أصحاب السلطة، زلزالا مباغتا لجميع القوى السلطوية في العالم. لكن سلامة كيلة كان ينتظره. فقد كتب قبل سنوات قليلة عن الانتفاضات السابقة والانتفاضات القادمة "طريق الانتفاضة". لم يكن يتنبأ بها، بل كان يرى ما لم يرد أن يراه كثيرون، وتحديدا ما كان يعتمل في القاع الاجتماعي من عوامل تفجير وضغوطات على مدى عقود. وهذا ما لخصه في مقاله الأخير حين قال:
"دمّرت النظم السياسة وأنهت الأحزاب، لكنها لم تفعل ذلك بـ "قوة خارقة"، بل نتيجة قدرتها على استقطاب أو تحييد جزء كبير من الشعب، بما حقّقته له من مصالح. وبالتالي، فإن تحقيق مصالح شعبية في لحظة ما يفرض نهاية الحركة السياسية التي نشأت للتعبير عن هذه المصالح، هذا هو أساس الانهيار، على الرغم من عنف النظم الاستبدادية ودورها في سحق كل معارضة، ومن ثم تعميم ثقافة "التفاهة". لقد باتت المعارضة من الماضي، لأن البيئة التي أنتجتها انتهت، بفعل ما حققته النظم التي تشكلت من أحزابٍ شبيهة بها، وربما لهذا السبب تلقي كل اللوم على الاستبداد، متجاهلةً أن هذه النظم الاستبدادية كسبت قطاعات شعبية، بالضبط لأنها حققت مطالبها في تلك اللحظة، قبل أن تعيد نهبها. وبالتالي، كان على "النخب" أن تلمس وضع الشعب "الجديد"، أي الذي نهبته هذه النظم، وأن تؤسس سياساتها على ضوء الوضع الجديد. لكنها اكتفت بالردح ضد الاستبداد، وقد أصرَّت على عدم رؤية وضع الشعب، ربما لأنها تعرف أن انحيازه للنظم هو الذي همّشها، من دون أن تفهم سبب ذلك، وما عليها فهمه لكي تلاقي الشعب من جديد."
هذا الوضوح الذي افتقدته المعارضات السياسية العربية على مدى عقود، هو الذي مكن سلامة كيلة من توقع خروج الملايين بصورة كان وقعها على تلك المعارضات ربما أقوى من وقعها على النظم الاستبدادية التي كانت تدري ما فعلت وما تفعل. وهذا الوضوح هو الذي جعل سلامة كيلة يندفع في تأييد الانتفاضات والعمل من داخلها ولها في وقت وقفت أحزاب يسارية وشيوعية كثيرة في المقلب الآخر، وتخاذل آخرون عن اللحاق بها.
لم يعلن سلامة كيلة قط، هزيمة الثورات العربية، بل كان دائما يصر أنها ستستمر حتى يحدث التغيير الذي يمس جوهر حياة الناس. قد تتوقف مدة من الزمن هنا لتستأنف هناك، لكنها ستواصل في صيرورة تاريخية قد تأخذ سنوات طويلة كونها لا تواجه فقط منظومة محلية مهما كان دهاؤها زمهما كانت قوتها ودمويتها، بل تواجه منظومة عالمية تسعى الى استمرار الواقع على ما هو عليه من ترد على الرغم من تفاقم الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للغالبية الساحقة من الناس.
سنتان على غياب سلامة كيلة شهدتا موجة جديدة من الانتفاضات العربية لم تنس أن تبعث التحايا له، من السودان الى الجزائر، الى العراق ولبنان، وها هي تعود الى مصر. سنتان أخريان من الانتفاضات الشعبية التي كان يراها سلامة كيلة ولا يراها كثيرون.