طريق انتصار انتفاضة أكتوبر بعد عام من انطلاقها


مؤيد احمد
2020 / 10 / 1 - 16:07     

طريق انتصار انتفاضة أكتوبر
بعد عام من انطلاقها
القسم الأول
اندلعت انتفاضة أكتوبر في العراق في الأول من أكتوبر 2019 واستمرت عدة أيام، تلتها وبعد اقل من ثلاثة أسابيع وتحديدا في 25 أكتوبر اندلاع الانتفاضة الشاملة وفي جميع الجبهات وبزخم وقوة وإصرار لم يشهده تاريخ العراق الحديث واستمرت بدرجات متفاوتة من الشدة والاتساع ولحد كتابة هذه الأسطر. راح ضحية هذه الهبة الجماهيرية الثورية وهذه الحرب الاجتماعية ومعاركها أكثر من 800 من المنتفضين والمنتفضات، وسقط في صفوف الانتفاضة عشرات الآلاف من الجرحى وأعداد كبيرة من المعتقلين والمخطوفين.
ان القوى الاجتماعية المحركة للانتفاضة وعمودها الفقري، وكما عبرنا عنها مرات عديدة، هي قوى طبقية عمالية وكادحة ومحرومة. كانت الانتفاضة ومنذ الأيام الأولى من اندلاعها، و لا تزال، ومن حيث الأساس، مبادرة سياسية جماهيرية لــ: العمال والكادحين، مئات الآلاف من المعطلات والمعطلين عن العمل، الشابات والشباب الثوريين، الطالبات والطلاب، الصفوف الواسعة من العاملين في قطاع العمالة الهشة، العمال الأجراء اليوميين، وقطاعات من الفئات الدنيا من البرجوازية الصغيرة في المدن والمثقفين المستاءين من بطش السلطات وتدني مستواهم المعيشي.
الحديث عن انتفاضة أكتوبر اليوم، وبعد سنة على استمرارها بالنسبة لاي منتفضة ومنتفض، واي مناضل ماركسي واشتراكي، ليس سرد وقائع الماضي البعيد، ولا هو مجرد أحياء الذكرى السنوية الأولى لهذا الحدث السياسي والاجتماعي البالغ الأهمية، إنما هو الحديث عن انتفاضة حية وجارية، وان لم يكن بزخم واتساع العام الماضي، وبحث سبل انتصارها والتغلب على نقاط ضعفها، وبالتالي هو الحديث عن الانخراط الواعي والعمل الهادف في العملية الثورية وهذا الحراك الثوري الجاري في العراق والنضال من اجل تقدمه وتطوره وانتصاره.
من المعلوم ان الانتفاضة انبثقت من رحم المجتمع، من رحم النظام الرأسمالي في العراق، من عملية تاريخية جارية داخل أعماقه، وهي المنتوج الخاص والمحدد لهذه العملية. لذا لا يمكن تفسير انتفاضة أكتوبر وفهم سير حركتها، وبالتالي السعي لتسليحها بالسياسة والأفق الثوري، إلا من أعماق هذا المجتمع وهذه التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الرأسمالية، والاهم من ذلك من موقع الطبقة الاجتماعية الكادحة المعاصرة المناهضة لمجمل هذا النظام والمتطلعة الى التحرر.
ان الانتفاضة بوصفها حربا سياسية للجماهير المحرومة والكادحة وبوصفها ظاهرة لهذه العملية التاريخية، وإحدى تجليات التناحر والصراع الطبقي للبروليتاريا المعاصرة ضد البرجوازية الحاكمة في العراق وضد نظام العلاقات الاقتصادية البرجوازية ونظامها السياسي، الانتفاضة، بهذه الخصوصية، لا تنتصر ولا تحقق أهدافها ولا تكسب مطالبها إلا بتحقيق أهداف ومطالب هذه الجماهير الكادحة والمضطهدة. وهنا تكمن الصعوبة وهنا تكمن في الوقت نفسه إمكانية انتصار الانتفاضة.
من حيث المسار التاريخي، ومن حيث ميزان القوى الطبقية الفعلية الحالية بين البروليتاريا والبرجوازية في العراق، فإن مصير الانتفاضة كحراك سياسي ثوري جماهيري والذي رفع شعار إسقاط النظام السياسي الحاكم بهدف الخلاص من مجمل الوضع القائم، مرهون بمدى تفاعله وتامين ارتباطه الوثيق بالعملية الثورية والصراع الطبقي الأشمل للعمال والكادحين الجاري على صعيد المجتمع، ليس هذا فحسب، بل وبمدى تأثيره على تقدم النضالات التحررية لجميع الفئات المضطهدة والمسحوقة في البلاد. من هنا نقول لا يمكن للانتفاضة ان تكسب الانتصار النهائي وتحقق أهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إذا لم تتحول الى ثورة جماهيرية تقدم على دك مجمل أركان النظام السياسي والاجتماعي القائم. وهذا ما يربط مصير الانتفاضة، بطبيعة الحال، بمصير النضال الطبقي الأوسع للبروليتاريا للتحرر من بأس راس المال ونظامه السياسي الإسلامي والقومي القمعي الفاسد، وفي المحصلة النهائية يربط مصير الانتفاضة بمدى تقدم النضال الاشتراكي للطبقة العاملة لاستبدال السلطة الحالية بسلطة العمال والكادحين وإرساء التغيير الاشتراكي المنشود.
ان أي تقدم في مسيرة النضال الطبقي العمالي الاشتراكي، وخطو أية خطوة لتطوير العلاقة العضوية الفعلية بينه وبين الانتفاضة، يبعث الأمل والاندفاع في صفوف بروليتاريا وكادحي العراق والمنطقة للانعتاق من كابوس راس المال ونظامه السياسي. ان هذا الأمل ينشر الذعر في صفوف التيارات والأحزاب والقوى البرجوازية الحاكمة والمعارضة، وفي أوساط الدول المنخرطة في الصراعات على ترسيم مصير العراق السياسي وبالأخص أمريكا وإيران. إن هذه التيارات والأحزاب والدول تعمل ليل نهار لاحتواء انتفاضة أكتوبر والإجهاز عليها بشتى الطرق ومحو تقاليدها الثورية من أذهان الجماهير.
انطلاقا من هذه المنصة الرجعية وهذه الاستراتيجية المضادة للثورة، تعمل القوى البرجوازية الإصلاحية كذلك لتأطير وكبح جماح الانتفاضة في إطار تحقيق الإصلاحات الصورية المبتورة والتطبيل لحكومة الكاظمي والانتخابات المبكرة وغيرها. ومن نفس المنصة تحاول أمريكا وحلفائها البرجوازيين القوميين داخل العراق استغلال الانتفاضة لصالح تقوية موقع جناحهم في السلطة القائمة، ناهيك عن مساعي تيارات الإسلام السياسي وأحزابهم وقواهم الميليشية المختلفة، من الصدريين واتباع المرجعية ومختلف القوى الميليشية للنظام وأجهزة مخابراته، لإجهاض الانتفاضة من الداخل والقضاء عليها نهائيا.
ان مشاهد ساحة التحرير في بغداد هذه الأيام، وهي شبه خالية من الجماهير المنتفضة، مشاهد لآثار احتلال قوى الثورة المضادة، قوى الإسلام السياسي وحلفائهم المساومين، لإحدى خنادق الثورة، ولكن هذا هو احتلال مهزوز بامتياز حيث إن هذه القوى المحتلة تعيش رعب انتعاش الانتفاضة هذه الأيام وبعد سنة من استمرارها. وهي مرعوبة من عودتها الى ساحات المعركة، وهي أكثر تنظيما ووعيا سياسيا وأكثر إصرارا وقوة في عر ض البلاد وطولها.

المكانة السياسية للانتفاضة
ودورها التاريخي
لبحث مكانة الانتفاضة ودورها من الضروري بدأً تحديد طابع الانتفاضة الاجتماعي والطبقي ومن ثم ما أنجزته ومثلته على الصعيد السياسي. إن الحكم على حركة سياسية جماهيرية معينة كالانتفاضة لا يمكن ان يكون فقط من خلال ما تقول هذه الحركة عن نفسها، إنما أساسا من خلال واقعها الاجتماعي والنزاع المادي الذي انبثقت منه والذي يعيد إنتاجها.
كتب ماركس في مقدمة كتابه مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي ما يلي:".... عند دراسة مثل هذه التحولات ينبغي التمييز دائما بين التحولات المادية للظروف الاقتصادية للإنتاج التي يمكن ان تحدد بدقة العلم الطبيعي وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والجمالية والفلسفية – وباختصار الأيديولوجية – التي يعي بها الناس النزاع ويقاتلون حتى حله. وكما رأينا ان فردا ما لا يقوم على ما يعتقده عن نفسه فإننا لا نستطيع ان نحكم على مثل فترة التحول هذه بوعيها هي، بالعكس ان هذا الوعي ينبغي بالأحرى أن يفسر ابتداء من تناقضات الحياة المادية، من النزاع القائم بين قوى الإنتاج الاجتماعية وعلاقات الإنتاج". ما يقوله ماركس هنا يساعدنا كثيرا لتقيم انتفاضة أكتوبر تقيما موضوعيا وعلميا.
بالرغم من كل ضبابية في أهداف انتفاضة أكتوبر والخطوات العملية لتحقيق تلك الأهداف لدى أوساط واسعة من المنتفضين، وبالرغم من كل الأوهام الأيديولوجية والسياسية، وهي بالأساس مستعارة من البرجوازية، في أوساط قواها الطبقية العمالية والكادحة والشبيبة، وبالرغم من إحاطة الآفاق والأجندات السياسية البرجوازية المختلفة بالانتفاضة والتي تنشرها قوى البرجوازية في أوساطها باستمرار، وأخيرا وبالرغم من كل محاولات هذه القوى البرجوازية المحلية ومساعي الدول الإمبريالية والقوى الإقليمية لإجهاض الانتفاضة واستغلالها لصالحها ولصالح الصراعات الدائرة فيما بينها، فان الحكم على الانتفاضة لا يقوم على هذه الصعد، بل من حيث الأساس، يقوم على صعيد أرضيتها المادية الاجتماعية وقواها الطبقية الرئيسية وارتباط الانتفاضة الوثيق بالصراع الطبقي الجاري في المجتمع.
من هذا المنطلق، وبالرغم من كل ما تمت الإشارة اليه من التشويهات والمساعي لاستغلالها، كانت الانتفاضة ولا تزال ظاهرة حية من ظواهر الصراع الطبقي ومبادرة سياسية ثورية للفئات الواسعة للطبقة الكادحة الرئيسية، أي أقسام من البروليتاريا المعاصرة وفئاتها المفقرة وبشعاراتها الثورية. ان شعار إسقاط النظام الميليشي الفاسد برمته الذي رفعته الانتفاضة، موقفها المناهض لكل من النظام الإسلامي في إيران ودولة أمريكا الإمبريالية، مناهضتها للطائفية والتمييز على أساس القومية والدين و الجندر و اللون و غيرها، ونشرها للقيم و التقاليد السياسية الثورية، هي بمجملها تعبير سياسي و فكري ثوري لهذه الحركة الاجتماعية والطبقية.
من شارك في هذه الانتفاضة وناضل من اجل انتصارها، بإمكانه ان يقدر أهميتها بكل سهولة ويقيم موقعها ودورها وتأثيرها على رسم الحياة السياسية والفكرية للعراق لسنوات عديدة قادمة. هنا نود الإشارة الى قسم مما أوجدته الانتفاضة:
هبتها الثورية وتصديها البطولي الجماهيري لميليشيات الإسلام السياسي المجرمة والقوات الأمنية والقمعية الدموية للنظام الاستبدادي الحاكم، والتي راح ضحيتها أكثر من 800 من ثوار الانتفاضة وقواها الشابة، أصبحت انتفاضة أكتوبر قوة سياسية جبارة وإحدى أطراف المعادلة السياسية في العراق، وسجلت بداية عهد جديد في هذا البلد. ان الانتفاضة وجهت ضربة قاصمة للبرجوازية المحلية وحلفائها الإقليميين والبرجوازية الإمبريالية وآمالهم بترسيخ استبدادهم السياسي على غرار ما جرى في إيران قبل أربعة عقود على أيدي الإسلاميين، وقبل حوالي ستة عقود في العراق على أيدي البعثيين الفاشيين، أو كما حصل في مصر بعد تولي السيسي زمام الحكم عام2013. ان إغلاق باب هذا الاحتمال الهادف لإرساء الفاشية والحكم الاستبدادي بشكل نهائي في العراق مرهون بقوة هذه الانتفاضة واستمرارها وانتصارها.
وضعت الانتفاضة مانعا كبيرا أمام انزلاق المجتمع الى الهاوية وسقوطه رهينة بأيدي القوى الميليشية للإسلام السياسي والقوميين الذين كانوا منشغلين بنشر أخطبوط حكمهم في كل زاوية من زوايا حياة الجماهير، وإعداد أنفسهم لحكم البلاد بالحديد والنار لسنوات عديدة قادمة. على العكس من ذلك، فإن الانتفاضة أحدثت أزمة عميقة متفاقمة باضطراد في صفوف النظام الحاكم وأحدثت خللا مدمرا غير قابل للإصلاح في توازن القوى فيما بين أجنحته المتصارعة. لقد أسقطت الانتفاضة حكومة عادل عبد المهدي بعد اقل من شهرين من اندلاعها، وأصبحت الانتفاضة القوة السياسية التي يخيم شبحها على كل ما تقوم به البرجوازية الحاكمة من أفعال وتمارسه من السياسات. فشطب كل هذه التغييرات من الحسابات، عند الحديث عن الانتفاضة جدير فقط بمن يعيش في عالم الأوهام والخيال لا في عالم تمزقه حرب طبقية لا هوادة فيها.
مع اخذ كل ذلك بنظر الاعتبار، أحدثت انتفاضة أكتوبر هزة كبيرة، ليست في حكم الإسلام السياسي فحسب، بل في مجمل أركان وجوده الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي وهيمنته السياسية والأيديولوجية على مقدرات الفئات الكادحة والمحرومة. وكسرت قبضته، وبالأخص قبضة الصدريين على حياة جماهير العمال والكادحين والشبيبة، وأحدثت شرخا كبيرا في تحكم الصدريين بمقدرات هذه الجماهير بحيث لم يعد بإمكانهم التعافي منه لحد الآن.
هذا، وإن الانتفاضة فتحت الأبواب أمام النساء وبالأخص الشابات والطالبات بان يلعبن دورا ثوريا فيها، حيث شاركت المراة بحماس متحدية الذكورية الإسلامية وقواها الميلشية وناضلت بكل قوة واستقلالية من اجل تحقيق اهدفها التحررية والداعية الى المساواة. لقد نمى وارتقى نضال قطاعات من النساء ومساعي الشابات والشباب والطالبات والطلاب وجموع من الكادحات من اجل كسر أغلال عبودية المراة والقيم الذكورية الإسلامية والقومية، بطرق مختلفة، عملية وتحريضية سياسية وأدبية وفنية. إن إصدار نشرة "نساء الانتفاضة" نصف الأسبوعية والإقبال عليها وتداولها على منصات السوشيال ميديا بشكل واسع نسبيا، واستمرار إصدارها لحد الان، دليل على جانب من هذا التنامي في نشاط المراة التحرري. لقد كان الاحتفال الحاشد بـ 8 آذار، يوم المراة العالمي، لهذا العام علامة فارقة في تاريخ الحركة النسوية التحررية في العراق من حيث حجم الحضور ومن حيث الشعارات الراديكالية النسوية.
لا يخفى على أحد ما حققته الانتفاضة بالضد من الطائفية، فهي حققت الشعار الشائع في الساحات والقائل: " الانتفاضة دفنت الطائفية الى الأبد". وطوت صفحة النزعات الطائفية وفتحت الأبواب أمام عهد جديد والانخراط في عالم النضال الرحب من اجل الحرية والرفاهية والعدالة للجميع.
لقد كانت الانتفاضة ضربة موجعة للكيان السياسي القومي والطائفي ونظامها الانتخابي البرلماني، وتصديا ثوريا لكل الأحزاب الإسلامية والقومية الحاكمة والمعارضة، ولآليات حكمها وميليشياتها وبرلمانها وانتخاباتها، وهي لم تقبل باية حكومة تتمخض عن هذه المنظومة. تمثل هذه السياسة الثورية، وبالرغم من جميع التقلبات وتلاعبات القوى المناوئة للانتفاضة، روح الانتفاضة الحية وقلبها النابض لحد الآن.
لم تستطع الانتفاضة، نتيجة لضعفها السياسي والتنظيمي والفكري، من ان تنظم نفسها بالشكل المطلوب وتؤسس أدوات حكمها وتعمل بمثابة سلطة بديلة. ولم تستطيع ان تزيح سلطة وسيطرة أحزاب الإسلام السياسي وميليشياته عن كاهل الجماهير في الأحياء والمناطق. غير إنها وجهت لهم ضربة قوية في الساحات والشوارع وعلى الصعيد العام وفضحت جوهرهم الحقيقي المعادي للانتفاضة.
ان التيار الصدري والحزب الشيوعي العراقي المتحالف معه، أجهزا على احتجاجات 2015 وما تلتها من احتجاجات، ووقفا منذ البداية موقفا معاديا لانتفاضة أكتوبر ودعيا الجماهير الى عدم المشاركة. فانفضح أمرهم بشكل مخجل وتهمشت مكانتهم في الحركة الاحتجاجية والانتفاضة وسوف لن يكون بإمكانهم العودة إليها وإعادة التاريخ الى الوراء. لم يبق لهم خيار غير الدخول خلسة في الانتفاضة وبدون أي خجل، وهذا ما فعلوه عند توهج شرارة انتفاضة أكتوبر، بغية احتوائها من الداخل، ومن ثم قيام الصدريين، أصحاب "القبعات الزرق"، بأعمال البلطجة ضد المنتفضين في الساحات على غرار ما يمارسونه من قمع وترهيب وحشي ولحد الآن في الأحياء والمناطق الواقعة تحت سيطرتهم. لقد أخرجت انتفاضة أكتوبر هؤلاء من صفوفها ومن الحراك السياسي الاحتجاجي، ان بقاء الصدريين في ساحات الانتفاضة تدلى الى دور طفيلي يعتاش على دم وجسد الانتفاضة الحي.
ان الانتفاضة، وبحضور مئات الآلاف من المنتفضين والمنتفضات في الشوارع والساحات الرئيسية في مدن وسط وجنوب العراق، وتصديهم للقمع والهجمات الميليشية وللأجهزة القمعية للنظام، كانت بالفعل حربا ذات جبهات واسعة. وهي لم تحمل السلاح خوفا من إفلات الأمور من أيديها وتكرار سيناريوهات سوريا واليمين، ولكن قاومت بزخمها الجماهيري وببسالة قل نظيرها أمام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع. لقد كانت هذه القوة الجماهيرية سلطة حقيقية متواجدة داخل الساحات والشوارع، ولكنها لم تكن منتظمة ولم تؤسس مجالسها ولجانها للملمة قواها وتوجيهها وتنظيم نضالها المتشعب. بالرغم من ذلك كانت قد أظهرت للعالم بانها سلطة فعلية بديلة وممكنة ومحل دعم العمال وأكثرية الجماهير على الصعيد البلاد.
الانتفاضة، بشعار "الإطاحة بالنظام" وسحب الثقة من جميع الأحزاب الحاكمة وانتخاباتها وبرلمانها، وازدرائها حتى بمصطلح الأحزاب ووضعه في رديف اللصوصية والقمع والفساد، كانت قد خلقت الأجواء الفكرية والسياسية لانبثاق نظام حكم آخر وسياسة أخرى وتنظيمات وأحزاب أخرى تكون مرتبطة بالجماهير المنتفضة وبجمهور الكادحين والمهمشين. غير ان ضعف الوعي السياسي ونقص الاستعداد التنظيمي للمنتفضين والتشتت في صفوفهم لم يدع لهم المجال للتفكير بالسلطة البديلة، واكتفوا بالدعوة الخاطئة للابتعاد عن كل تنظيم وكل حزب وكل سياسة، هذا في الوقت الذي كانت الانتفاضة هي نفسها أرقي أشكال العمل السياسي والتنظيمي. فاكتفوا بدائرة إدارة وتنظيم حياة الجماهير الحاشدة في الساحات وإدارة الأعمال المتعلقة بالإسعافات والأعمال اللوجستية. ان النقاشات السياسية والحوارات العامة داخل أوساط المنتفضين وانتعاش الأدب والشعر الشعبي الثوري والفن والرسوم واللوحات الثورية وجمالية التعبير الفني للملاحم البطولية للانتفاضة وضحاياها، كان بمجمله يعطي الاندفاع والأمل والتطلع الى مستقبل مشرق. وبالرغم من هذه النشاطات ودورها المؤثر، كانت الانتفاضة تعاني من نقص التحرك لتنظيم صفوفها والعمل على امتدادها الى المناطق و الأحياء و نيل درجة من رؤية مشتركة حول لائحة سياسية ثورية والمبادرة بتأسيس السلطة البديلة.
وجهت الانتفاضة ضربة قوية لمجمل المنظومة السياسية المبنية على تقسيم المجتمع وفق الطائفة والقومية والدين وأعاده إنتاج التنافر القومي والطائفي. ان راس رمح الانتفاضة كان موجها ضد السلطة وأحزابها وقواها الميليشية وفسادها ولصوصيتها ونهبها لثروات البلاد، ومن هنا كانت الانتفاضة تبعث برسالتها الثورية لجميع كادحي وعمال وشبيبة العراق ومن ضمنهم كوردستان والمنطقة الغربية. ان التوجه السياسي العام السائد في الانتفاضة كان و لا يزال مناهضة النزعة والتعصب القومي والطائفي، ان انتقاد الجماهير المنتفضة للأحزاب القومية في كوردستان كان بشكل عام مرتبطا، ومن حيث الجوهر، بكون هذه الأحزاب جزءً من النظام السياسي القائم في العراق، والذي كانت الانتفاضة في حرب دموية معه. لذا نرى، ان الأهداف والمطالب والشعارات الثورية للانتفاضة وجدت صداها في صفوف قطاعات الجماهير المحرومة في كوردستان والتي كانت ولا تزال تعاني من جور الأحزاب القومية الحاكمة وبالأخص الحزبين الحاكمين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. لقد خففت الانتفاضة من آثار التناحر القومي ودفعت به وبالنعرات القومية الى الحواشي، تلك النزعات والتعصب الذي تعمل الأحزاب القومية والإسلامية على طرفي النزاع على تغذيته باستمرار. لذا، وبالتالي، فتحت الانتفاضة الأبواب على مصراعيها امام النضال المشترك الثوري للجماهير الكادحة والمضطهدة في كلا المنطقتين ضد برجوازية القوميتين العربية والكردية وسلطتهما، التي هي مصدر بؤس الجماهير. ان الأجواء السياسية والفكرية في كوردستان باتت متأثرة بهذا الحدث وبهذه النهضة للجماهير المحرومة في العراق والتي ستسهل عمل المناضلين الثوريين والاشتراكيين والطبقة العاملة في كوردستان بمديات أوسع.
كما واتخذت الانتفاضة موقفا سياسيا ثوريا ضد التدخل الخارجي حيث رفعت شعار "لا لأمريكا، ولا لإيران". لم تتأثر الانتفاضة بأوهام المشاعر "ألقومية" و"الوطنية" و"الطائفية" التي كان الإسلاميون المناهضون لأمريكا يروجون لها، كما ولم تتأثر بمساعي القوميين الموالين لأمريكا ودول الخليج لاتخاذ موقف يتمثل فقط في مناهضة تدخل إيران. إن الانتفاضة أحبطت هذه المحاولات ورفعت شعارها المناهض للدولتين ودعت الى سحب قواهما من العراق وعاملتهما كأعداء الانتفاضة.
ان الجماهير الكادحة والمحرومة في المنطقة الغربية التي تئن تحت وطأة الأوضاع الكارثية التي أوجدتها الدواعش من جهة، والظلم والتمييز الطائفي الذي تمارسه سلطة الإسلام السياسي الشيعي و ميليشاتها بحقهم من جهة أخرى، كانوا يترقبون ويتطلعون الى انتصار الانتفاضة ويأملون في توفر الفرص مع تقدمها لنيل حياة آمنة والرفاهية والعدالة. ان الانتفاضة أعطت الحل للمأزق الذي تعيشه جماهير العمال والكادحين والشبيبة في هذا المنطقة، وهذا الحل يتمثل بتوحيد النضال ضد الأحزاب والقوى الطائفية والقومية المتسلطة في المنطقتين. لقد عبرت الانتفاضة من خلال حربها ضد قوى النظام وبشعاراتها وأهدافها الثورية عن كون خلاص الجميع مرهون بتوطيد التضامن النضالي لكادحي كل العراق بوجه قامعيهم ومستغليهم.
ان الانتفاضة باتت احدى القوى الأساسية بموازاة وبالضد من السلطات وجميع القوى البرجوازية الإسلامية والقومية والليبرالية الحاكمة والمعارضة وكسرت الحاجز أمام الجماهير المحرومة للتدخل في الحياة السياسية بشكل مستقل.
احتلت الانتفاضة في العراق مكانها المتميز في مساعي الجماهير الكادحة في بلدان المنطقة في لبنان وإيران للتخلص من حكم الأنظمة الإسلامية والقومية الجاثمة على صدورها منذ عقود. فهي قاومت ميليشيات الإسلام السياسي المجرمة والأجهزة القمعية للنظام ودفعت ثمنا غاليا في هذه المقاومة واستطاعت أن تستمر طوال سنة كاملة بالرغم من جميع المصاعب المعيشية والقمع والاغتيالات وبالرغم من مخاطر جائحة كورونا. هذا وان الانتفاضة جزء من مساعي البروليتاريا المعاصرة، في هذه البلدان الثلاث وكذلك السودان والجزائر ومصر وبلدان العالم الأخرى، المناهضة للنظام الرأسمالي ونمطه الاقتصادي النيو ليبرالي وما فرضه من فقر وعوز وتهميش على البلايين من سكان هذا الكوكب.
ان الانتفاضة في العراق ومن حيث منشئها الاجتماعي والاقتصادي ومطالبها وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية أممية الطابع، وهي منبثقة من داخل التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية لراس المال الذي بطبيعته عالمي. يضاف الى ذلك، ان الأهداف والمطالب السياسية للانتفاضة بدءً بشعارها، إسقاط النظام السياسي القائم وقواه، وصولا الى مناهضتها للقوى الإقليمية والإمبريالية المتدخلة في العراق، جزء مكمل لنضال البروليتاريا في البلدان الأخرى في المنطقة ضد الأنظمة السياسية القائمة، والتي هي بدورها حماة للراس المال، والبؤس والبطالة والفساد الملازم له.
وعليه، فان تقدم الانتفاضة في العراق وتقدم نضال الجماهير الكادحة في المنطقة برمتها، مرتبطان بعضهما ببعض، وان اي تقدم في نضال هذه الجماهير في أي بلد، لا بد وان يقوي هذا النضال في البلد الآخر. هذه الحقيقية عبرت عن نفسها بقوة من خلال تأثير انتفاضة أكتوبر على تنامي النضال ضد النظام الإسلامي في إيران، في شهر تشرين الثاني(نوفمبر) 2019 وفي التأثير المتبادل لاحتجاجات الجماهير الكادحة في لبنان والعراق.
كُتب في 28 أيلول 2020

القسم الثاني والأخير من هذا المقال في العدد القادم