المنفى الجماعي


حسن مدن
2020 / 10 / 1 - 00:26     

تنصرف الأنظار عند الحديث عن المنفى، في الغالب الأعم، نحو الأفراد. أي إلى المنفى من حيث هو معاناة فردية، فالمنفي هو شخص حرم من وطنه لسبب من الأسباب، تتصل في غالبها بضروب الاضطهاد الديني أو العرقي أو السياسي، حين يتصل الأمر بأصحاب المواقف السياسية أو الفكرية المختلفة في المجتمعات التي تنعدم فيها، أو تضيق، حرية التعبير.
وكانت تجربة المنفى الفردي موضوعاً أثيراً في الأدب، خاصة في أجناس السرد، والرواية منها على وجهٍ خاص، بما في ذلك في أدبنا العربي، وتحضر في الذهن هنا بعض روايات حنا مينه، خاصة في «الثلج يأتي من النافذة» وعبدالرحمن منيف في «شرق المتوسط» و«الآن هنا»، غير أن النماذج الروائية العربية التي تناولت هذا الموضوع كثيرة.
لكن لا تنصرف الأنظار بالكثافة نفسها نحو تجارب المنفى الجماعي، وهي تجارب أكثر وجعاً وقسوة، حين يجد شعب من الشعوب، أو قوم من الأقوام نفسه محمولاً على النفي القسري، الإجباري، لا لشيء إلا لأنه يحمل صفة الانتساب إلى ذلك الشعب أو القوم والملة.
نحن العرب بالذات شهدنا وعشنا واحدة من أشد تجارب المنفى الجماعي ألماً واتساعاً في العصر الحديث، هي محنة تهجير الشعب الفلسطيني عن أرضه على دفعات، بدأت بالتهجير الأول والأوسع والأقسى في عام 1948، حين أرغمت العصابات الصهيونية الإرهابية أعداداً هائلة من الفلسطينيين على النزوح من بلادهم إلى دول الجوار، في «ترحيل» ظنوه مؤقتاً، سينتهي بزوال أسبابه؛ لكن المحنة طالت، واستمرت حتى اليوم، خلالها ولدت أجيال من الفلسطينيين لم تطأ أقدامهم أرض بلدهم، ولم تقر أعينهم برؤيتها؛ بل تبع ذلك التهجير موجات تالية.
لكن المنفى الجماعي لم يكن قدر الفلسطينيين وحدهم عبر التاريخ، فمثلهم تعرضت أمم وشعوب أخرى للتجربة القاسية ذاتها، وضرب إدوارد سعيد، الذي هو الآخر كان ضحية المنفى بصفته فلسطينياً، بالأرمن مثالاً. وقد اختار سعيد الأرمن بالذات مثالاً؛ لأنهم- حسب وصفه- شعب موهوب تعرض للنزوح مرات عديدة؛ حيث كانت أعداد كبيرة منهم تعيش في شتى أرجاء منطقة شرقي البحر المتوسط، وخصوصاً في الأناضول؛ لكنهم تعرضوا لحملات الإبادة الجماعية على أيدي الأتراك فتدفقوا إلى المناطق القريبة في بيروت وحلب والقدس والقاهرة؛ لكنهم لم يلبثوا أن نزحوا من جديد؛ بفعل الحروب الأهلية أو استشراء المشاعر الشوفينية في المجتمعات التي نزحوا إليها.
محنة المنفى، فردياً كان أو جماعياً، كما شخصها إدوارد سعيد لا تكمن في كون المنفي مرغماً على العيش خارج وطنه؛ بل أيضاً في كونه يعيش يومياً مع ما يذكره بأنه منفي، فلا يتواءم مع المكان الجديد، ولا يتحرر من الوطن الذي حُرم منه.