حوار من الداخل - مسرحية قصيرة -


ناس حدهوم أحمد
2020 / 9 / 24 - 18:20     

حوار من الداخل - مسرحية قصيرة - بقلم ناس حدهوم أحمد
بتاريخ فبراير 1974

بينما كنت أتجول بين زقاق المدينة القديمة . إلتقيت بنفسي فدار بيننا هذا الحديث /
أنا / أهلا بك يانفسي . لا داعي للسؤال عن أحوالك . لأنني أعلم أن هذا لا يروقك . فأنا أعرف أنك مهمومة
كعادتك غير أنني أ رى اليوم ملامحك قد صعدت من درجة حرارتها .
نفسي / دعنا من همومنا
أنا / كيف ندع همومنا وبها تفوقنا عن عاداتنا . ألا تدركين أن همومنا هاته تخجل من الإستتار ؟ إنها هموم كل
حيوان مثلنا . غير أن هناك من يتنكر لهمومه لأنه لا يعرف لماذا يعيش ولا لماذا يموت .
نفسي / إنني أظن كل الطرق على السواء . كما زعم " سارتر " عن حق . فكل الطرق تؤدي إلى نتيجة واحدة في آخر المطاف . وأعني الموت . ومهما فكرنا أم لم نفكر فكل ذلك دون نتيجة إيجابية أو حتى سلبية ألا تظن ياأنا أن الإنسان الذي لم يفكر قط قد يكون قد فكر دون أن يشعر . من الجانب التصميمي ..؟
أنا / إنني لا أعارضك كما أنني لا أوافقك الرأي . فالذي يهمنا هو الحل أو العلاج أو الإصلاح فلك أن تسميه ما تريد .
نفسي / أنت تدرك مثلي أن الحياة أو الوجود غير مفهوم ولا جدوى منه . وتسود فيه الجبرية والحتمية وغير ديمقراطي بالمفهوم العامي المطلوب وبالتالي يسوده الغموض . ومرعب بالنسبة لكل الكائنات ولسيما عند انطفاء شعلة الحيوية . . لكننا وجدنا همومنا وعذبتنا هذه الهموم كي لا نستطيع نكرانها . إذن نحن نعيش لأننا نعاني ونعاني من هذا العالم ومن الكائنات على اختلاف أنواعها - ولا غير هذا - لأننا راحلون نحو العدم . ولكن من هو هذا العدم يا أنا ؟ لأنني لا أفهم هذه الكلمة ولا نستطيع تشخيصها إنها كلمة ثقيلة
لأننا لا نفهمها فكل ما نصر عليه ( سواء شعرنا أم لم نشعر ) هو رغبتنا في الإقامة السرمدية على هذه
الأرض التي خبل من أجلها الناس .
أنا / وأنت يانفسي أتحبين الحياة ؟
نفسي / ( بعد أن إبتسمت بمرارة ) لك أن تجاوب أنت بالنيابة فنحن كتلة لحم واحدة .
أنا / ( بعد لحظة صمت ) نعم . الحياة عزيزة على كل البشر بما في ذلك الحيوان . ولكن هذا لا يكفي . يجب أن نسيطر عليها ونحتفظ بها إلى الأبد . حتى ولو كان ذلك سيخلق أزمة من نوع آخر . ومع الأسف هذا غير ممكن في الوقت الراهن . لأننا الإنسانية مشكلتنا الرئيسية والأساسية هي مشكلة الزمن أو الوقت . أو الإستمرار . إذ ما يثير العجب والشك هو أن كل شيء موجود فهو با لضرورة قابل للفساد . فوحده اللاوجود هو الرمز الوحيد الذي يقدر على الإحتفاظ بوجوده أو بمعناه . فما هو موجود لا يمكن له أن يشعر باللاوجود . ولهذا حاولت مرارا البحث عساني أرى العالم الخفي أو السري بمفهوم يخرج عن نطاق المصطلحات الجاهزة.
نفسي / إنني أنسجم معك في إدراك المأساة الإنسانية . رغم أنه من الممكن أن لا تكون هناك مأساة بالفعل . أو كل شيء وهم ليس إلا . فنحن مهما سمعنا ومهما احتفظنا بالآمال التي وعدتنا بها الإنسانية القديمة نعرف أن الحقيقة الثابتة لم تدرك ولن تدرك . ولعلنا سوف نظل نفاجأ كما فوجيء الذين من قبلنا بحقائق حربائية . لأن الحقائق كذلك ينال منها التطور ويؤثر فيها إذا لم يقم بهدمها كما يحدث أحيانا كثيرة . وهذا ما يمكنني أن أثق فيه حتى الآن . هو التطور . ولكننا من خلال هذا التطور نتعذب ونتفاجأ إن إيجابيا أو سلبيا فلا أحد يعلم ما هو آت بدقة مؤكدة . التطور قوة من خارج الحياة .
أنا / أو قوة من مصدر معين تأتي من اللاوجود . فقد يكون اللاوجود هو وجود بطريقة أو بأخرى . أو نائي عنا بسبب عدم استمراريتنا وعدم قدرتنا على التطاول المطلق . فالكون شاسع ولا حدود له وجبار في لا نهائيته وآه ثم آه كم نحن في أمس الحاجة إلى السرعة لأن عدونا التطور بطيء في تحركاته . إنه يسيطر على الزمن .
نفسي / إسمعني ياأنا . إن التفكير ضعف والمثير للإنتباه فيه هو أنه لا يجدي . ألا ترى أن السعادة تكمن في إغفال الأشياء . فقد صدق من قال " يانفسي لا تطمحي في الخلود بل إستنفذي حقل المعقول " . فلو كنا نهجنا طريق هذه الوصية لما كنا التقينا معا في هذه الفوبيا بين زقاق مدينة قديمة فاقدة الأهمية . ولما كنا قد إنتبهنا حتى إلى أقدميتها أو تلهينا بدروس المحادثة الفارغة التي فرضت علينا .
( وبينما نحن على هاته الحال إذا بشخص كالخيال أو كالسراب خرج من المنعطف ووقف أمامنا بوجه مبتسم وعليه سمة من سيم الوقار وحيانا قائلا ) / السلام عليكم .
نفسي وأنا بصوت واحد / وعليكم السلام . فمن أنت أيها الغريب ؟ فرد قائلا /
هذا هو السيد الجنون . صديق المنفردين
نفسي / أهلا بالسيد الجنون أو السيد المنفرد . فمحادثتك سوف لا تكلفنا مشقة . غير أن هذا يفاجئنا لأننا منذ تعلمنا دروس المحادثة لم نجد في هذه المدينة القديمة من يفهم قصدنا وأسئلتنا . وكلما أحسنا الظن بأحد ما إلا وصدمنا مثل الآخرين . لكن مرحبا وهات ما عندك . فقد سمعنا عنك الكثير. غير أننا لم ننتقص من شأنك إلى غاية أن نقف عليك ونستمع لأمرك ونفهم مهمتك ولا نبالي بإساءة الظن بك من طرف العامة .
الجنون / إن الناس دائما تسيء الظن في الحكماء لأنهم يملكون طريقتهم الخاصة في السير . بينما الناس لا تسير إلا جماعات ولا ترتاح إلا للإزدحام . وأنا لا أداهم إلا الفرادى من الناس والمنعزلين منهم وأعتبرهم مرضى ولا أخفي عنكما أنني طبيبهم .
نفسي / قد تكون كذلك . ولكن إشرح علاجك .
الجنون / علاجي يتطلب ذوقه الخاص وما أظنكما من ذوي الأذواق الحمارية كما تتطلب أفكاركما آذانا خاصة .
أنا / تكلم بصراحة ولا تراوغ من أجل بيع دوائك فقد تكون لنا شيطانا تتلفع في زي الجنون .
الجنون / أنا لست بالشيطان لكنني صديقه فقد حدث والتقيانا مرارا وتحدثنا فكان لطيفا وله منطق لا يخلو من من الجدية والحكمة وعدوه الوحيد هي العبودية . كما لا يحب المبهم وقد صارحني بمرضه غير أن مرضه لم يكن كذلك بل مجرد سوء تفاهم بينه وبين قوة عليا كانت مجرد رؤية في عالمنا هذا الواقع في الأسفل . ولهذا لم أكن أحتاج له إلى دواء . فهو مجرد منعزل ومنفرد محكوم عليه من طرف العامة ظلما وجهلا . ولا أقل ولا أكثر .
نفسي / دعنا الآن من السيد الشيطان فالنميمة ليست من شيم المنفردين إلا إذا فرضت عليهم .واشرح لنا دواءك .
الجنون / إن دوائي ليس كالدواء المعهود كما تطبيبي ليس كالطب المعروف والمحدود . فأنا أنقل المرضى إلى عيادتي وأستئصل منهم العلة المسببة للقلق وأعطيه أشخاصه وأمنع عنه الإتصال بالواقع وأمنع عنه الإتصال بالواقع وأمنحه عالمه الخاص به . حينئذ لا يحتاج إلى تحليل الأشياء وانتقادها فيصطف مع البسطاء ريثما تأتي الحافلة لنقل الأحياء الأموات إلى مكانهم المفترض في حدائق العدم .
نفسي / هذا دواء غير مجدي فبإمكاننا أن نوفره دون حاجة إليك . وبالنسبة إلينا مجرد زجاجة من الخمر من أجل اقتلاع ضرس مسوس . ونحن لدينا ما نحتاج إليه من الشجاعة لكي نفعل مثل هاته الأمور الوهمية .فمرضنا هو مرض الإنسانية ( الكسل والحاجة إلى الإقتناع ) وهو مرض الإنسانية لا دواء له . فالحقيقة لا وجود لها أصلا . ومنها جاءت الأزمة . ونحن لم نخرج بعد عن حدود الإنسان إن لم نكن قد تقهقرنا إلى مستوى الحيوان مصدرنا الذي أتينا منه .
الجنون / المعذرة . فأنتما لن ينال منكما الجنون أو الشيطان أو ما جاورهما فلكما حدودكما الإنسانية وتستحقان حمايتي . لذا سوف أهيء سلاحي ضد أعدائكما وما أكثرهم بهذه المدينة القديمة . فوداعا إلى الأبد .

أنا / ما رأيك يانفسي في هذا السيد إبن السبيل ؟
نفسي / إنه مثلنا مريض في حقيقة الأمر .
أنا / تقولين عنه مريضا وهو الذي يدعي نفسه طبيبا ؟
نفسي / كم من طبيب بقدرته أن يشفي الآخرين غير أنه لا يستطيع علاج نفسه .

أنا / ترى ما مرض السيد الجنون ؟
نفسي وأنا بصوت واحد / مرض الثرثرة لا غير . وهو من عكر علينا صفو الواقع .
أنا / ‘نه مرض المنفردين .
نفسي / ها نحن قد إهتدينا إلى علة شقائنا ياأنا .
أنا / وهل تعلمين إلى من يرجع الفضل ؟
نفسي / إلى السيد الجنون طبعا . إلى السيد الطبيب .
أنا / تماما يانفسي وهنيئا لنا بهذا الشفاء .