مبادرة أم صفقة؟


عديد نصار
2020 / 9 / 23 - 10:28     

عندما يشهد الواقع كثيرا من التعقيدات والارتباكات فلا بد من القاء نظرة أبعد اتساعا عليه وأكثر عمقا في تفاصيله كي نتمكن من الإحاطة بجوانبه وتلمس معطياته كما هي لا كما تزينها لنا رغباتنا وتمنياتنا.
فمن ينظر الى المشهد اللبناني اليوم، وبالأخص بعد التفجير الإجرامي الكبير في مرفأ بيروت، لا بد أن يضيع في تفاصيله وتعقيداته الكثيرة، هذه التفاصيل والتعقيدات التي أريد منها التعمية على أن ما جرى في مرفأ بيروت بكل ملابساته وبنتائجه الكارثية هو جريمة كبرى وراءها جهات معينة لها ارتباطات وعلاقات وتشابك مصالح كبرى داخلية وخارجية، وبالتالي لن تكون موضع تحقيق أو مساءلة داخلية وينبغي منع أي محاولة لجرها الى تحقيق دولي محايد وموضوعي وشفاف.
من هنا أُغرق اللبنانيون بكل هذه التفاصيل وبكل هذه الجرائم والأحداث الدموية المتنقلة بين مختلف المناطق، وبتفاقم الأوضاع المعيشية وبالاستدعاءات والتحقيقات على خلفية منشور من هنا أو خطاب من هناك، أو بمبادرة حكومية مترنحة من هنالك.
أما هذا الحنان وهذه الرومنسية التي أغدقهما الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي هرول مسرعا الى لبنان بعيد انفجار الرابع من آب أغسطس الماضي، على اللبنانيين المفجوعين بأرواحهم وممتلكاتهم بعد أن أبى أن يستهل زيارته الأولى للبنان إلا بزيارة المناطق المنكوبة أولا ومعانقة أهليها رغم مخاطر وباء كورونا، هذا الحنان المفرط الذي أريد منه كسب أفئدة اللبنانيين قبل محاولة الإطباق على أذهان أصحاب القرار في السلطة اللبنانية الذين لم يجرؤ أي منهم على زيارة تلك المناطق ولو برفقة مسؤول خارجي بمستوى رئيس دولة كبرى. ولربما أنف ماكرون أن يصطحب أيا من هؤلاء خشية أن يسيء بذلك الى مشروعه.
أكمل ماكرون خطته بالهجوم على زعماء السلطة اللبنانيين وجمعهم كما الأولاد المشاغبين في قصر الصنوبر، ومن ضمنهم رئيس كتلة حزب الله في المجلس النيابي محمد رعد، وكال لهم عبارات التأنيب المناسبة باللغة الدبلوماسية المعهودة وانتزع منهم خطة أسموها بالمبادرة الفرنسية لحلحلة الوضع اللبناني سياسيا واقتصاديا وماليا ونقديا. إضافة الى تنظيم المساعدات للمناطق المتضررة من الانفجار.
أما عن التحقيقات في جريمة المرفأ، أما الحكم الذي كان من المتوقع صدوره عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، فلا حديث ولا كلام!
بين زيارة الرئيس الفرنسي الأولى وزيارته الثانية مطلع أيلول سبتمبر الجاري جرت مياه كثيرة أظهرت مكامن الضعف في ما يسمى "المبادرة الفرنسية"، والتي نشأت عن كونها صفقة أكثر مما هي مبادرة.
ومعالم الصفقة باتت واضحة بين كل من فرنسا من جهة وحزب الله وإيران من جهة ثانية. الرئيس الفرنسي الذي رأى في استمرار علاقاته مع ايران وحزب الله "ميزة" يمكن الاستفادة منها في مشروعه شرقي المتوسط، راهن على هذه الصفقة، وحزب الله الذي انحنى لهذه المبادرة-الصفقة أمام هول التفجير الإجرامي في مرفأ بيروت والذي تشير دلائل كثيرة على تورطه فيه منذ أن استقدمت السفينة روسس الى لحظة الانفجار وما بعيد الانفجار على مستوى العبث بمسرح الجريمة كما على مستوى حرف مسار التحقيقات الجنائية والقضائية، راى فيها ورقة رابحة تنقذه مما هو فيه.
وهذه الصفقة تقضي بإبعاد الشبهة عن حزب الله في قضيتي مقتل الحريري وتفجير المرفأ، وبإعادة إنتاج نظام ائتلاف القوى المافيوية الذي لحزب الله فيه اليد الطولى، مقابل تسهيل حزب الله وايران مهمة الفرنسيين في لبنان كرأس جسر لوجودهم في الشرق وفي مواجهتهم للغطرسة التركية شرقي المتوسط.
أما عن المياه الكثيرة التي جرت بين زيارتي ماكرون الى لبنان فكانت أن حزب الله قد اطمأن الى حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (والتي أصدرت قرارها في الثامن عشر من آب/أغسطس الماضي) الذي يعفي الحزب من دور مباشر في جريمة مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وسقوط حكومة حسان ذياب الذي أعلن عن ضرورة انتخابات نيابية مبكرة، والامساك بمسار التحقيقات في جريمة تفجير مرفأ بيروت وبالتالي ارتياحه لسير التحقيقات.
ولأن الحزب حصل على جل مبتغاه من المبادرة-الصفقة وهو يدرك تماما الأهمية البالغة الجدية للمشروع الفرنسي في لبنان لدى الرئيس ايمانويل ماكرون والذي يهدده بالفشل الذريع إفشالُ مبادرته على مستوى تشكيل الحكومة (حكومة الرئيس المكلف مصطفى أديب) فإنه بات قادرا على تحسين شروطه أمام الفرنسيين ورفع سقف مطالباته الى درجة الوقاحة في التعدي على صلاحيات الرئيس المكلف بحسب الدستور والتعدي على الدستور اللبناني ذاته من خلال المطالبة بتخصيص مقعد وزاري لطائفة.
يتحرك نواب حزب الله في المناطق التي يسيطرون عليها محرضين مهددين: أن لا أحد يمكنه انتزاع ما لديهم من مواقع في السلطة في ظل ما يمتلكون من إمكانات ومن قوة! وكأنهم يؤكدون أن مواقع السلطة في لبنان ليست سوى غنائم ما أن تصل الى أيديهم حتى تصبح حقا حصريا لهم لا يمكن أن يفرّطوا فيها أبدا، شاء من شاء وأبى من أبى! وإنهم يصنعون الأعراف التي لها من القوة ما يجعلها تتفوق على دستور البلاد!
إن نقطة الضعف القاتلة في المبادرة الفرنسية هي كونها صفقة أكثر مما هي مبادرة. صفقة تأخذ بعين الاعتبار أنه ليس ممكنا ولا متاحا الصدام مع حزب الله وأنه بالإمكان الاتكال على سطوة حزب الله لتحقيق مصالح فرنسية في لبنان وفي مواجهة الغطرسة التركية باعتبارهم أن حزب الله سيكون مرتاحا لتلك المواجهة، ولكن المعلومات أشارت الى أن وفدا من حزب الله زار تركيا في عز الأزمة الحكومية في لبنان، أي قبل ايام!
لقد تفوقت غطرسة حزب الله على الغطرسة التركية في شرق المتوسط! هذا الحزب الذي لا يعنيه في شيء لا تشكيل حكومة لبنانية قد تُوقف الانهيارات المتلاحقة على جميع الصعد ولا أحوال اللبنانيين التي بلغت من التردي حد ركوبهم البحر في مراكب الموت التي يعود منها الى الشواطئ اللبنانية أعداد متزايدة من الجثث.
فكيف للفرنسيين أن يتدبّروا مشروعهم إذا كان الحزب قد نال حصته من الصفقة وتنكّر لحصتهم؟