من المسؤول؟


عباس علي العلي
2020 / 9 / 22 - 20:40     

من المسؤول ؟
في معرض قراءتي لما كتبه أحد الأصدقاء عن تأثير جائحة الكورونا على واقع المجتمع العراقي، وخاصة في الجانب المتعلق في مهنته كمحامي وما وجده في زياراته لبعض المحافظات العراقية ولقاءاته مع القضاة والمحامين ورجال القانون والسلطة، كانت مفاجأته أكبر من أن يجد تفسيرا مقنعا ولو بالتبرير عن فظاعة وتدور واقع القيم الأخلاقيات الأجتماعية التي سادت في هذه المرحلة وكنتيجة لما فرضه الوباء من واقع حال ضرب الكثير من نواحي الحياة وعطل الكثير مما كنا نعيشه قبل ذلك، الشيء الذي أثار حفيظة وأستغراب صديقي هو هذا الانحدار المروع للشعور بالمسئولية الاجتماعية وتعاظم مستويات الجريمة وتنوعها للحد الذي كان لا يخطر على بال أحد في المجتمع أن تصل قيمنا وأخلاقياتنا ونحن في مجتمع له تقاليده الدينية والاجتماعية والحضارية التي لا تألف ولا تتوافق مع ما وصل إليه الحال .
من ضمن ما قرأته وفي معرض التحليل النقدي أشار الكاتب إلى موضوع الأقتصاد ودوره في إنهيار المنظومة الأخلاقية والأجتماعية للمجتمع نتيجة التأثر الحاد والمباشر للجائحة على نظام وعمل الجانب الأقتصادي للمجتمع والدولة والأسرة، والحقيقة أن لا أحد ينكر هذا ولا أحد يمكنه أن يتجاوز علاقة الواقع الأقتصادي في بناء وتركيبة القيم الأجتماعية، بل أنا واحدا من الذين يركزون دوما على غلبة المحرك الأقتصادي على كل المحركات الأجتماعية الأخرى في بناء المنظومة الأخلاقية، وحتى الدين والمثل العليا لم تنجح في فرض قيمها الأخلاقية على المجتمع بعيدا عن تأثير العامل الأقتصادي، لكن الذي لا أوافق عليه أن الأنهيار الأخلاقي السريع وإن عرته وكشفته نتائج الجائحة وأظهرته من غير تستر ولا تزويق كان قدا بدأ قبل ذلك بكثير، بدأ منذ أن تحولت القيم الأجتماعية ذاتها إلى سلع للمتاجرة بها وتسويق كل ذلك لجل مصالح أقتصادية وسياسية وتحت عناوين تظهر أن المسوق والمتاجر بها إنما يريد أن يكون رقما صعبا في معادلات التحول والتغيير الاجتماعي نحو هدف أو أهداف محددة وقد تكون لا تعني إلا المزيد من الخراب والنكوص الاجتماعي.
القيم الأقتصادية واحدة من محركات التغيير كما هي القيم الأخلاقية والدينية والمعرفية، وتتحكم بقوة تأثيرها ودرجة هذا التأثير على عمق دورها الحقيقي في عملية بناء المجتمعات، وحتى تكون القيم والمحركات لها منتجة وحقيقية لا بد أن تكون أيضا تلعب دورها وفقا لمعايير صحيحة وصادقة وشفافة، عندما يدخل الغش والكذب والخداع في عمل هذه القيم وتكون جزء من منهاجها وألياتها لا يمكن لنا أن نحصد قيم اصيلة ولا يمكن أن نبني مجتمعا بها، الكذب والتدليس والخداع هو من حطم الأديان وهد الحضارات وأسقط رموزا أنتجها المجتمع حينما كان صحيحا وصادقا مع نفسه، السياسي والديني والاقتصادي عندما يمارس دوره في المجتمع وهو مخادع وكاذب وغير صادر مع نفسه ومع هدفه إنما يحطم جيلا كاملا ويزرع به سرطان الخداع والوهم، فيبدو كل شيء عظيم وكبير وزاهي ولكنه في جوهره وداخله خراب ولا شيء وكانه مجرد ديكور من الكارتون ينهد مع أول ريح تعصف به فتحوله هباء منثورا.
في علم الأجتماع وكما هو في علم النفس المجتمعي تكون للتأثيرات القيمية دورا مهما في بناء الشخصية الفردية والأجتماعية قيمة حقيقية لما تكون هذه الشخصية تحتكم إلى القيم الحقيقية وبصدق ووعي، وخلاف ذلك تخرج عن طورها الطبيعي وتشذ في لحظة عن مساراتها الطبيعية فتتحول تلك الشخصية بفعل الزيف والكذب وعدم الإيمان بجدية المثل التي تؤمن بها، فتولد لنا حالة من النكوص والخلل القيمي لأنها خرجت عن دائرة ما هو المطلوب وما هو الجاد في بنائها بشكل سليم، لذا فعندما يكون هناك مشروع بناء أو مشروع تطوير وتجديد فاقدا لقيم الصدق والحقيقة لا نتفاجأ أن تكون النتائج مدمرة وكارثية على المجتمع، لأن الفرد والمجتمع قد لا ينجح في التفريق بين ما هو حقيقي وبين ما هو وهم وزيف وكذب، فتتسيد القيم الخادعة المرحلة وينجرف المجتمع والإنسان باللا وعي وتحت تأثيرات الخطأ والخطيئة للمضي بعيدا في عملية الهدم والتخريب ويظن أنه يفعل ذلك ليس إرضاء ليقينه وضميره وعقله، وإنما مماشاة وتطبع وعدم معارضة القوة المتحكمة التي تقود هذا المشروع وتتبناه كخيار أستراتيجي.
إذا مفعول العامل الأقتصادي وقيمه ليس معزولا ولا خارج قاعدة الجدية والصدق في أهمية تأثيره على عملية البناء الأجتماعي ولا منفصلا عن كل العوامل الأخرى أخلاقية كانت أو مثالية بما فيها الدين، ليس صحيحا مثلا أن يكون مجتمع ما متمسكا بقيم دينية وأجتماعية متقدمة وهو لا يفرضها بقوة على مناحي الحياة العامة يمكن أن بكون قادرا على معالجة أختلالاته العلائقية مهما كانت هذه القيم قوية، ولكنها تسخر وتزيف لمصلحة الخراب والوهم والتحريف بطريق الغش والخداع الظاهر والمبطن بعنوان الفضيلة، حتى الله في طرحه لقيم الدين كان يشدد على الصدق في التعامل معها ومنح الصادقين والمصدقين بها درجة عالية من التقدير وذم الكذب والنفاق والمراءات لأنها عوامل هدم وتخريب للرسالات وللدين وأخيرا للإنسان المستهدف بها.
مشكلة المجتمع العراقي اليوم تنحصر في الكذب والمراوغة والتزييف التي مورست بحقه على مدى أجيال وأجيال وانشأت صراعات وتناقض وأختلاف هادم نتيجة عدم الصدق في التعامل مع القيم والأخلاقيات، السياسيون والدينيون والاقتصاديون كلهم في صراعاتهم يخفون أمرا ويعلنون نقيضه وبذلك أسسوا لثقافة النفاق والكذب والدجل، وهم بعيدون جدا عن كل المثاليات التي يطرحونها بأفكارهم ونظرياتهم، لأنهم ينطلقون من الهدف الحقيقي وليس من الهدف المعلن والذي يمنحهم القدرة على الحركة المعاكسة لقيم المجتمع المعنونة دوما بالفضيلة والشرف والاخلاقيات المثالية، هذه هي العلة التي يتسائل عنها صديقي ويسأل في مقالته عن المسؤول عما يجري في العراق من وضع كارثي ينذر بالكثير مما يخشاه على بنية المجتمع وحتى وجوده الحقيقي,