علم الكلام


غازي الصوراني
2020 / 9 / 22 - 16:27     


علم الكلام
عَرَّفَ المفكر الشهيد د. حسين مروة علم الكلام بقوله: "إن علم الكلام هو، في بنيته الأساسية، فلسفة لاهوتية تقوم على وحدانية الحقيقة الدينية المتمثلة في الشريعة، والمرتبطة بالمصدر الالهي الأوحد، في حين ان الفكر الفلسفي ينزع إلى نشدان الحقيقة التي يكون منطق العقل البشري هو طريق الوصول إليها دون المصادر الغيبية"([1]).

نشأ علم الكلام في ظروف غامرة بالاختلافات والانقسامات فيما يتعلق بالاجتهادات الدينية، ثم تطورت تلك الاختلافات بين الرؤى الفلسفية من ناحية وبين الدين من ناحية ثانية، وتفاقمت بين أصحاب النقل الرافضين للعقل أو التفسير العقلاني للدين، وبين الفلاسفة المستنيرين الذين أكدوا على استخدام العقل وترجيحه في تفسير النقل، وهذه المواقف الرافضة للفلسفة والعقل نجدها في كافة الأديان .

السؤال هنا: ما حدود العلاقة بين علم الكلام والفلسفة.. وهل هناك حدود بينهما؟ الجواب –كما يقول د. حسين مروه – نعم ، إذ ان "لكل من علم الكلام والفلسفة مرحلة، مستقلة نسبياً، في طريق تطور الفكر العربي الإسلامي، وهذا الواقع بالضبط هو الذي يقرر حدود العلاقة بينهما بصورة أولية، ولكن الذي يقرر هذه الحدود بصورة علمية هو كون علم الكلام مارس التفكير الفلسفي كوسيلة لبحث القضايا المثارة في المجتمع العربي بعد الاسلام، متخذا شكل البحث الديني في العقائد، في حين ان الفلسفة ظهرت في المجتمع العربي – الاسلامي، بعد ان استوفى علم الكلام نضجه، لتبحث قضايا الوجود والطبيعة والمجتمع والتفكير، كمفاهيم، منعكساً فيها العالم المادي بصفة مجتمع معين بظروفه وخصائصه التاريخية المعينة واشكال علاقاته الاجتماعية المعينة انعكاساً غير مباشرة.. أي ان الفلسفة تميزت من علم الكلام بامرين اساسيين:

أولا، بأنها انطلقت من المفاهيم، لا من القضايا المثارة في المجتمع بصورة مباشرة.

ثانياً، بأنها لم تتخذ من عقائد الاسلام قاعدة للبحث، وان حاولت ان تخفي التناقض بين النتائج التي يصل اليها البحث الفلسفي وبين العقائد الايمانية الاسلامية. ومحاولاتها هذه هي التي سميت "توفيقاً" بين الفلسفة والدين، تسمية غير صحيحة"([2]).



تعريف علم الكلام وتطوره التاريخي:
"علم الكلام" –كما يقول د.حسين مروة- بدأ أول الأمر "كلاماً" في مسألة القدر، ولم يكن علماً حينذاك، بل كان شكلاً فكرياً من أشكال التحول الكيفي لتراكمات النقمة الاجتماعية (ضد الدولة الأموية)، أي نقمة جماعات الموالي، وشغيلة الأرض، وصغار مالكي الأرض، وشراذم من العبيد هنا وهناك يعملون اما في الأرض أو في الخدمات العامة، وعدد كثيف من الفقراء والمعدمين في المدن، ومنهم صغار الكسبة ومستخدمو المحلات الحِرَفية.

ففي الوقت الذي كانت تتفجر فيه الانتفاضات المسلحة بوجه الحكم الأموي في مناطق عدة ومتباعدة من الامبراطورية الوسيعة، كانت مدرسة الحسن البصري ومن تفرع عنها من مثقفين ومفكرين ومن علماء بارزين في علوم العريضة والشريعة، يتخذون شكلاً آخر لمعارضة السيطرة السياسية المطلقة الاموية ولمعارضة ايديولوجيتها الجبرية المطلقة أيضاً.

لقد كان صوت الحسن البصري وواصل بن عطاء ومعبد الجهني وغيلان الدمشقي وامثالهم، "اول صوت للفكر العربي – الاسلامي يرتفع ليتحدى الفكر الرسمي، ويتحدى جبرية الفئة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، مجاهراً ان: لا قدر يحكم ارادة الإنسان حكماً جبرياً مطلقاً، ففي سياق هذه المعارضة الفكرية المرتبطة، أساساً، بالمعارضة الاجتماعية – السياسية، كانت مسائل جديدة تطرحها حركة تطور المجتمع الجديد أَمام الفكر المعارض كلما تراكمت الأسباب الدافعة للمعارضة من جهة، وظروف التطور الاجتماعي الدافعة لتعميق النظر أكثر فأكثر في هذه المسائل المطروحة، من جهة ثانية، وعلى أساس مسألة القدر، من حيث علاقتها بقضية حرية الإنسان في اختيار افعاله، وعلاقة هذه القضية بالموقف من السلطة السياسية القائمة حينذاك، تحركت قضايا الصراع الاجتماعي – السياسي كلها، ولكن باشكالها الفكرية ذات الطابع التركيبي الجديد القائم على النظر العقلي التأملي المجرد"([3]).

ومن أهم هذه القضايا: حكم مرتكب الكبيرة، العلاقة بين العقل والايمان، مفهوم العدل في الاسلام، الموقف من الحاكم الجائر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفهوم تنزيه الله وتوحيده الخ.

" لقد بقيت المباحث التي عالجت هذه القضايا وما يدور في اطارها، خلال عشرات السنين منذ اثيرت مسألة القدر أول مرة، مباحث متفرقة ومتوزعة بين مباحث الفقه واصول الفقه، واحياناً مباحث الفلسفة والتصوف وعلوم الطبيعة دون تحديد "لهويتها" العلمية، ودون ترابط بينها، حتى بلغ تطور الفكر العربي مرحلة القدرة على مثل هذا التحديد والتمييز"([4]).

حينذاك انتقلت هذه المباحث من وضعها التراكمي الكمي إلى كيفية محددة، متميزة، بحيث صُنِّفَت عِلماً مستقلاً باسم "علم الكلام"، أي انها بذلك دخلت مرحلة التصنيف العلمي التي دخلها الفكر العربي بجملته، وهي مرحلة متقدمة بالفعل، إذ لم تكن قبل ذلك تعرف الفوارق الاساسية بين علم وعلم في الغالب، فكثيراً ما كانت تضيع الحدود، مثلاً، بين الفقه وأصوله وأصول الدين، أو بين النحو والبلاغة والأدب، أو بين الحديث والتفسير والتاريخ والتراجم.

ذلك لأنه لم تكن لكل علم حدوده ومفاهيمه ومقولاته المميزة الواضحة، من هنا رأينا اسم "علم الكلام" كمصطلح خاص يتأخر في الظهور ولا يتردد في الكبت والجدل والمعارك الفكرية، إلا من عصر المأمون، أي بين نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجريين (القرن التاسع الميلادي).

يُرَجِّحْ د. حسين مروة، ان "اسم "علم الكلام" كمصطلح خاص يدل على هذا العلم الذي استقل بموضوعاته ومقولاته ومفاهيمه وضوابطه، قد أُطلق تثبيتاً و"تكريساً" لتعبير عام كانوا يستخدمونه، عفوياً، حين يتحدثون عن بحث مسألة من هذه المسائل التي أصبح ينتظمها هذا العلم، كما أظهرت لنا الادلة التاريخية ان حركة التدوين والتأليف عند العرب بدأت في القرن الأول الهجري (=السابع الميلادي). ان هذا يعني ان حركة التأليف في المسائل الكلامية بدأت منذ ذلك العهد"([5]).

لان أهم المسائل الفكرية التي كان يدور عليها الجدل وتشتد حولها المعارك المذهبية والايديولوجية منذ النصف الثاني لذلك القرن، هي تلك المسائل التي أُثيرت حول حرية اختيار الإنسان افعاله وما تلاها من مسائل العدل والصفات ومفهوم الايمان وعلاقته بالعقل ومرتكب الكبيرة الخ.. وهذه جميعاً هي مسائل العلم الذي صار إسمه بعد ذلك "علم الكلام"([6]).

غني عن القول أن علم الكلام –حسب معظم المصادر – "ظهر وتطور أول الأمر في إطار المناظرات التي دارت بين المسلمين أنفسهم، وذلك بظهور مختلف الفرق الدينية – السياسية (الخوارج، المرجئة، القدرية، الجبرية..)، وكذلك بين المسلمين وبين أبناء الديانات الأخرى،كما تبلورت في مجرى هذه المناظرات جملة من السمات، التي صارت مميزة لطريقة المتكلمين في البحث، وأهمها: اللجوء إلى تأويل النصوص القرآنية ؛ اعتبار حجج العقل هي وحدها الحاسمة في النقاش والبرهان، كما تبلورت أيضاً القضايا الأساسية في "جليل الكلام: التوحيد، وضمناً العلاقة بين الذات والصفات الإلهية؛ قِدَمْ القرآن أو خَلْقه (حدوثه في زمان)؛ القدر الإلهي وحرية الإرادة البشرية، أو التسيير والتخيير، معنى الإيمان، وخاصة العلاقة بين النظر والعمل فيه، إلخ"([7]).

"ولعل من أوائل المفكرين، الذين اشتغلوا بالكلام، كان الجعد بن درهم (قتل عام 742/743م) وينسب إليه إنكار وصف الإله بشيء من صفات المخلوقات، والقول بخلق القرآن، وبحرية الارادة البشرية، وبرز بعده تلميذه الجهم بن صفوان (قتل عام 745م)، الذي باسمه ترتبط مدرسة "الجهمية"([8]).

هذا أحد وجهي مسألة علم الكلام، أما وجهها الآخر، "فهو أن ظروف تطور الصراع الاجتماعي والأيديولوجي، في المجتمع الأموي، ثم في المجتمع العباسي، "خلال القرن الثالث الهجري الحافل بأخصب أنواع التناقضات والمفارقات التاريخية، كانت ظروفاً بالغة التعقيد بحيث كانت تتطلب شكلاً أعلى من الشكل الكلامي اللاهوتي للتعبير عن كل من الوعي النظري والصراع الايديولوجي في ذلك المجتمع"([9]).

وفي كل الأحوال، إزدهر علم الكلام من خلال صراع الأفكار وتراكمت معارفه كمياً؛ بما أفضى إلى تحول كيفي يتمثل في ظهور الفلسفة الاسلامية التي ولدت من رحم علم الكلام.

"نشأة علم الكلام إذن، إسلامية خالصة دون أدنى تأثير أجنبي، وفي ذلك يصدق قول د. حسن حنفي "نشأ علم الكلام نشاة داخلية دون أن يتأثر بمؤثرات أجنبية؛ لذلك فهو أكثر تعبيراً من الفلسفة عن الفكر الاسلامي، وهو الذي ظهرت فيه أصالة المسلمين؛ فكان تصويراً لأحداث الواقع وتطوره، وبعد الترجمة تأثر علم الكلام بالحضارات الأخرى؛ مما ساعد على تطوير آراء الفرق الكلامية، وخفف من وطأة العقائد، وأدخل العقل في التفكير.. علم الكلام إذن ليس علم تاريخ مقدس، ويخطئ من يُوَحِّد بينه وبين العقيدة الدينية؛ فهناك فرق كبير بينهما، علم الكلام محاولات إجتهادية لفهم العقيدة أو تنظيرها، وتخضع هذه المحاولات للظروف التاريخية وللأحداث السياسية وللغة العصر ومستوى الثقافة"([10]).

وحسب حفريات وتدقيقات طرابيشي –كما يقول صادق العظم- "فإن ( التدوين عَرَفَ نقلة حاسمة إلى الأمام مع نقل الأمويين عاصمة الخلافة من المدينة إلى دمشق، فمعاوية " أول من سأل في التاريخ واستقدم العلماء وأول من أمر بالتدوين"). كما يذكر نقلا عن المسعودي في "التنبيه والإشراف"، ( أن هشام بن عبد الملك أمر بأن ينقل له من الفارسية إلى العربية " كتاب عظيم " في تاريخ الفرس اسْتُقِيَتْ مادته " مما وُجِدَ في خزائن ملوك فارس – ويشمل على علوم كثيرة من علومهم وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياساتهم ). كما يذكر نقلا عن ابن النديم أن سالماً المكنى أبا العلاء، كاتب هشام بن عبد الملك الذي كانت خلافته بين 105 - 125، نَقَلَ له رسائل أرسطاليس إلى الإسكندر.

"على أرضية هذا السياق التاريخي، تم استدعاء الفلسفة لأول مرة في الثقافة العربية، عبر ترجمة أو تعريب الفلسفة اليونانية، أو كما كانت تسمى آنذاك ( علوم الأولين ). فاستمرت وكثرت الترجمات في العهد العباسي لاسيما في عهدي المأمون والمنصور. وتبلورت نتيجة لذلك ثلاث مجالات للنظر العقلي في الحضارة العربية الإسلامية الوسيطة وهي: علم الكلام، الفلسفة، التصوف"([11]).

"غير انه من المثير للاسف أن يكون ما أُلِّفَ في ذلك العهد من مسائل الكلام ومن مؤلفات المعتزلة بالأخص، لم يصل حتى إلى العصر الذي جاء بعد عصره مباشرة، أي العباسي، والا لوصلنا بطريق العصر العباسي شيء من مؤلفات الكلام والمنطق في العهد الأموي.

هذا الواقع التاريخي يثير التساؤل المشروع عن سبب ضياع هذه المؤلفات. ونرجح ان يكون السبب هو كون الفكر المعتزلي، في ذلك العهد، اخصب نتاجاً وأكثر انتشاراً واجتذاباً لناس مجتمعه، لانه أكثر تحدياً للفكر الرسمي الأموي، ولذا نرى انه ليس ببعيد ان تكون السلطة السياسية السائدة يومئذ والفئات الفكرية الموالية لها، قد تعاونت على طمس نتاج هذا الفكر، بل إعدامه كما يظهر، بحيث لم نستطع ان نتعرف عليه الا من مؤلفات خصومه بالاغلب، أما ما بعد منتصف القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، ومنذ خلافة المأمون بخاصة، فقد نشطت حركة التأليف في علم الكلام إلى حد يكاد يصح معه القول ان مؤلفات هذا العلم والمعارك الفكرية التي تثيرها هذه المؤلفات أصبحت الظاهرة الأكثر بروزاً لمجمل الحركة الفكرية حينذاك.

وبقي الأمر كذلك حتى ظهور الفلسفة كعلم منفصل عن علم الكلام، بل كطرف مقابل له، وكسلاح ايديولوجي من نوع جديد أكثر تقدماً منه.

ان "مصدر هذا النشاط الملحوظ لحركة التأليف الكلامي في تلك المرحلة، هو احتدام المعركة فيها بين المعسكرين الرئيسين اللذين احتلا ساحة علم الكلام كلها تقريباً: معسكر المعتزلة، معسكر الاشاعرة"([12]).

أخيراً، نشير إلى أن علم الكلام في مسيرته الطويلة، من عهد مؤسس مذهب الاعتزال واصل بن عطاء (131ه / 748م)، حتى عهد اشهر المتكلمين السلفيين المتأخرين ابن تيمية (661 – 728ه / القرن الرابع عشر الميلادي)، فاننا يمكن ان نستخلص أمرين أساسيين([13]):

أولاً- ان علم الكلام ينتظم جملة المسائل ذات الشكل الديني – العقائدي التي اثارتها أنواع الصراع الاجتماعي – السياسي في المجتمع العربي – الاسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين، ثم تحولت إلى مركبات من الأفكار عن عالم ما وراء الطبيعة حتى كادت تحتجب ابعادها الاجتماعية وراء ضباب من التجريدات، مضافة إلى نظرات ذات اتجاه فلسفي عن العلم الطبيعي من زاوية نظر لاهوتية.

وقد تعددت الفرق والمذاهب الكلامية على مدى تلك المسيرة الطويلة لهذا العلم ولكن المسائل التي تعالجها هذه الفرق والمذاهب، أو تختلف عليها، بقيت هي ذاتها مدار المعالجة والخلاف.

على ان المنطلقات الاساسية لاختلاف الآراء في كل من هذه المسائل، او في بعضها، أو في مجموعها، كانت دائماً – اذا نظرنا إلى أبعد من الظاهرات الشكلية للافكار – منطلقات واقعية اجتماعية، أي انها ناشئة، بأبعد جذورها، عن مواقع اصحاب هذه الأفكار في التركيب الاجتماعي العام لمجتمعهم.

ثانياً- ان علم الكلام قطع مرحلتين رئيستين خلال تلك المسيرة التي استغرقت نحو ستة قرون: مرحلة علم الكلام المعتزلي، ومرحلة علم الكلام الاشعري.

وفي كل الأحوال، فإن دراسة علم الكلام على اساس الاتجاه الفكري والايديولوجي لا بد ان تصل بنا إلى هذا الاستنتاج، أي رؤية اتجاهين رئيسين تقاسماً تاريخ هذا العلم إلى مرحلتين متعاقبتين ومتعارضتين بقدر ما بين اتجاه الفكر المعتزلي من تعارض مع اتجاه الفكر الاشعري.

الإيمان والعقل لدى أصحاب علم الكلام:
" في ظروف سيادة الإيديولوجية الدينية تغدو مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل، الدين (او اللاهوت) والفلسفة، إحدى النقاط المحورية في الصراعات الفكرية، وقد اكتسبت هذه المسألة في الأوساط الكلامية صيغة العلاقة بين العقل والنقل، وانحاز المتكلمون، في حَلِّهم للمسألة، إلى طرف العقلانية، فقالوا بتقدم العقل على النقل، وأنكروا التقليد والمقلدين، وأكدوا على الشك مرحلة تمهيدية تسبق الأخذ بأي من الآراء والمذاهب.

وقد قوبلت نزعة المتكلمين العقلانية والنقدية بالعداء المستحكم من قبل رجال الدين الرافضين للعقل والتأويل، كما كانت المعارضة لعلم الكلام قوية أيضاً بين أنصار المذاهب الأخرى، المالكية (نسبة إلى مالك بن أنس، ت:795) والشافعية (نسبة إلى محمد بن إدريس الشافعي، ت:820) والحنفية (نسبة إلى أبي حنيفة، نعمان بن ثابت، ت:767)، ومن أبرز خصوم المتكلمين كان البربهاري (ت:941) وابن الجوزي (ت:1200) والمقدسي (ت:1223) وابن تيمية (ت:1328) من الحنابلة، وابن حزم (ت:1063) من الظاهرية، وابن عبد البر (ت:1071) من المالكية، والذهبي (ت:1348) من الشافعية"([14]).

وقد تجسد العداء للكلام وأهله في جملة من الأقوال والمأثورات، التي نسبت إلى كبار رجال الدين في الإسلام، وبينهم مؤسسو مختلف المذاهب الفقهية، ومن ذلك:

- "لا يفلح صاحب الكلام أبداً". "علماء الكلام زنادقة" (ابن حنبل).

- "لأن يبتلي العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في الكلام" (الشافعي).

- "من طلب العلم بالكلام تزندق"؛ "العلم بالكلام جهل، والجهل بالكلام علم" (مالك بن أنس)؛

وترتب على المتكلمين الرد على مثل هذه الإتهامات، والدفاع عن حق العقل في النظر في كافة المسائل، الفلسفية منها واللاهوتية.

ففي مرحلة تطور علم الكلام فترة نهوض وانتشار المعتزلة، كان علماء الكلام يجاهرون بالتطلع للتضلع في علوم الفلاسفة. فيتحدث الجاحظ عن المتكلم الحقيقي بقوله: "وليس يكون المتكلم جامعاً لأقطار الكلام، متمكناً من الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يُحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة. والعالم عندنا هو الذي يجمعهما"([15]).

أولوية العقل :
" لم يلجأ المتكلمون، وهم يعملون لمجابهة الإيمانية وإرساء العقلانية، إلى التسلح بالآيات القرآنية، الداعية إلى التأمل والنظر، فقط، بل واستندوا أيضاً إلى جملة من الأحاديث، المروية عن النبي، في امتداح العقل والثناء عليه.

وقد عرفت مجموعات مثل هذه الأحاديث بـ"كتب العقل". ومن أوائل تلك الكتب كان ما وضعه داؤد بن المحبر، الذي كان معروفاً بالحديث، ثم تركه "وصحب قوماً من المعتزلة".

ومن أشهر الأحاديث الواردة في كتاب "العقل" لابن المحبر كان الحديث، الذي عرف لاحقاً بـ "حديث العقل": "أول ما خلق الله العقل. فقال له : أقبل، فأقبل. ثم قال له : أدبر، فأدبر. فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أكرم عليَّ منك. فبك آخُذ، وبك أعطي، وبك الثواب والعقاب"([16]).

" ومن الأحاديث الرائجة في ذلك العصر، والتي تشيد بالعقل وفضله : "إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد، فما يجزي يوم القيامة إلا بقدر عقله"؛ "تُفَكِّر ساعة خير من عبادة ستين سنة"..

في هذا الجانب، نؤكد على أن العقل عند المعتزلة، هو "وكيل الله" على الأرض، وخلافاً لأصحاب الحديث وأهل السنة، الذين يرتبون الأدلة على النحو التالي- الكتاب، فالسنة، فالإجماع، أضاف المعتزلة إلى هذه الثالثة دلالة العقل، وقدموه عليها جميعاً، وهم يعللون ذلك بانه قبل الاستناد إلى السُّنة أو الكتاب يجب أن نعلم بأن ثمة إلهاً، أنزل الكتاب وبعث الرسول، والعلم بذلك لا يأتي إلا من طريق العقل. "فالدلالة أربعة: حجة العقل، والكتاب، والسُّنة، والإجماع؛ ومعرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل" ([17])، وبذلك استحق المعتزلة لقب "فرسان العقل في الإسلام"، فقد "رفض المعتزلة والأشاعرة صحة إيمان المقلد، حتى وقالوا بتكفيره، إذ اشترطوا في صحة الإيمان أن يكون قائماً على الاستدلال العقلي، وكان تعصب المتكلمين للعقل، وسعيهم للسير بالعامة والجمهور على دروب النظر والاستدلال، تعبيراً عن نزعتهم التنويرية، ولم تكن مطالبهم بتعويد الناس، ومنذ الصغر، على التفكير النقدي، مجرد نداءات طوباوية مجردة، معزولة عن الواقع والحياة، وتدل على ذلك، مثلاً، الحلقات العديدة التي أقامها المعتزلة لتثقيف الناشئة يرسلون إليها أبناءهم وبناتهم"([18]).

إضافة إلى ما تقدم، نشير إلى أن "مجالس المتكلمين" لم تكن مجرد حلبات للتباري في الجدل والمناظرة، بل وكانت أيضاً، بالنسبة للفئات الواسعة من الجمهور، بمثابة مدارس للتفكير النظري، والنقدي منه خاصة، وكانت الموضوعية الأخلاقية عند متكلمي المعتزلة وثيقة الصلة بنزعتهم العقلانية. فهم يرون أن العقل قادر لوحده، قبل "ورود السمع" أي قبل سماع ما يأتي به الرسل من الشرع المنزل، على معرفة الخير والشر، "فاتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجبة قبل ورود السمع، والحُسْنُ والقُبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك (بالعقل).

لكن على الرغم من موضوعية الرؤية العقلانية، وصوابيتها لدى المعتزلة خصوصاً، إلا أن العقلانية الكلامية كانت تبدو لقوم من خصوم الاستدلال والنظر من الإيمانيين تهديداً لـ"الدين الحنيف" و"الإيمان الصحيح"([19]).

" كان المتكلمون لا يُسلِّموَن بالتسلسل إلى غير نهاية فيما مضى، وكانوا يتصورون انتشاء العالم في الزمان على غرار سلسلة الأعداد الطبيعية، التي لها ابتداء (الواحد)، ولكن ليس لها انتهاء، بيد أن بداية العالم هذه ليست من طبيعة فيزيائية، بمعنى تقدم الزمان عليه، وإنما هي ميتافيزيقية بالأحرى، ذلك أن الزمان نفسه عند المتكلمين (كما عند أفلاطون) ذو بداية، متناه من الماضي، حادث بحدوث العاَلم، ومن هنا يمكن نعت العالم بأنه مُحْدَثْ أزلي.

وإذا كان العالم – شأن الزمان – ذا بداية، فإنه غير ذي نهاية، فالمتكلمون، كما يقول ابن رشد، "متفقون مع (الفلاسفة) القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل"([20]).

علم الكلام وإشكالية التوفيق بين الفلسفة والدين:
إن اشكالية التوفيق بين الفلسفة والدين، ظلت اشكالية معقدة وصلت إلى درجة العداء بين الفريقين، وأدت إلى حالة من الانقسام بين اتجاهين (فريقين):

الفريق الأول: اعتبر الفلسفة معادية للدين وأحكامه وكل من يأخذ بها كافراً أو مروج للكفر.

الفريق الثاني: رأى ان هناك توافقاً بين الدين والفلسفة، فكلاهما يقود الانسان إلى الوصول إلى الحق أو معرفة الحقيقة الالهية، لكن الدين طريقه الوحي، والفلسفة طريقها إعمال العقل والبراهين المنطقية.

لكن يبدو أن الفريق الأول تمكن من السيطرة في هذا المجال منذ ذلك الزمن إلى يومنا هذا مستنداً إلى ما يلي:

1. الدين يقوم على مسلمات بديهية لا يمكن الخوض فيها، أما الفلسفة فهي من صنع الانسان تحتمل الخطا والصواب.

2. الدين يشتمل على كل الحقائق السماوية والدنيوية حسب النص القرآني، ولا حاجة للفلسفة لتوضيح أي شيء أو اجتهاد مهما كان، ولذلك لا يمكن الجمع بين الفلسفة والعلم الالهي.

"ففي مجال التشريع تبلورت، ومنذ صدر الإسلام، مدرستان متعارضتان، أولهما مدرسة "أهل الحديث"، وكان هؤلاء يعرفون بالاعتداد المفرط بالحديث، حتى الضعيف منه، وفي مقابل هؤلاء قامت مدرسة "أهل الرأي"، التي انتشرت في العراق خاصة، والتي تميز أصحابها بقلة روايتهم للحديث وإهمالهم له، وبتدقيقهم في الأدلة، وبتحكيمهم العقل في الآراء، وبتغليبهم القياس على النقل، وقد تتوجت مدرسة "أهل الرأي" بأبي حنيفة (نعمان بن ثابت، 699، 767). إمام المذهب الحنفي، الذي عرف بتوسعه وسماحته عموماً، وأما نزعة مدرسة أهل الحديث فتجسدت على أشدها في المذهب الحنبلي، وتوسط المذهبان المالكي والشافعي بين المدرستين، وفي ميدان العقائد توزع المسلمون إلى فرق جمة، فقد نشب الجدل بينهم حول "الامامة" ("الخلافة")، من الأحق فيها بعد الرسول، وهل تكون بالاتفاق والاختيار (بالبيعة والاستفتاء والشورى) أم بالنص والتعيين، وهل يجمع الإمام بين السلطتين الزمنية والروحية، إلخ. وكان ذلك، مثلاً سبب تمايز السنة والشيعة"([21]).

وتناقضت الآراء في التسيير والتخيير، القضاء والقدر، فذهبت "الجبرية" إلى أن الأفعال كلها لله، وقالت "القدرية" بان الإنسان خالق "قدره"، خيره وشره.

ولم يأت القرن العاشر حتى صار مؤرخو الفرق والاخباريون يرون صعوبة بالغة في حصر الفرق الإسلامية، وأدى الحوار بين هذه الفرق إلى تفهم تعذر الاعتماد على النص، حتى القرآني منه، حجة حاسمة لنصرة هذا المعتقد أو ذاك، "فالقرآن حمال أوجه"، " وما من فرقة إلا ولها في كتاب الله حجة"، وفي خضم هذه المشادات ظهرت وتطورت النزعة العقلانية في "علم الكلام"، أول التيارات الفلسفية في الفكر العربي الإسلامي"([22]).

وإذا كان علم الكلام وليد المناقشات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين ممثلي الديانات الأخرى، "فإن "الفلسفة" بالمعنى الخاص للكلمة، جاءت وليدة "حركة الترجمة" وأما الفارق بين هذين الاتجاهين فكان بعض المتكلمين (أصحاب علم الكلام) يرونه في انهم ينطلقون من المسائل التي يمليها الدين، ويسيرون على "قانون الإسلام"، أما الفلاسفة فيجرون على "قانون العقل"، وافق الإسلام أم لا، ولكن السمة، التي تجمع بين الكلام والفلسفة، كانت التعويل الأول على النظر العقلي والاستدلال المنطقي، وذلك خلافاً للايمانيين النصيين من الفقهاء ورجال الدين"([23]).

ففي ظروف الاختلاف والتناقض بين أصحاب النقل وأصحاب العقل، نشأ علم الكلام في محاولة للرد العقلاني على المختلفين من أصحاب النقل الرافضين للعقل، وبالتالي نشأت المحاولات المعرفية للتوفيق بين الدين والفلسفة، وكان من بين أهم من بدأ المحاولات التوفيقية بين الدين والفلسفة الفيلسوف أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (805 م- 873م) الذي حرص على عملية التوفيق بين الدين والفلسفة باعتبار أن هدفها الوصول إلى الحقيقة.

في تلك المرحلة "ظهرت فرقة المعتزلة (منتصف القرن التاسع الميلادي) الذين يعتبروا بحق فرسان العقل في الإسلام، وكان لهم الريادة في تأسيس علم الكلام، على الرغم من محاولات أهل السُّنة طمس الحقيقة ونسبتها إليهم إلى جانب العديد من الفرق الاسلامية التي كانت تُكَفِّر بعضها البعض وتَعْتَبر كل فرقة نفسها "الفرقة الناجية" فيمقابل "أهل الأهواء والبدع"، لكن من بين أهم وأوسع هذه الفرق، أهل السُّنة الذين لم يعترفوا بدور المعتزلة وأفضالهم في تأسيس هذا العلم.

من ناحية ثانية، " أسس المعتزلة علم الكلام للبرهنة على بطلان معتقدات"أهل الحديث" الذين يرون في ظاهر الوحي مبدأ لا يقبل المناقشة؛ بينما ذهب المعتزلة "إلى اعتباره موضوع برهنة"، لذلك لم يُخطئ أدونيس حين كتب عن "الثابت والمتحول" في الفكر الاسلامي، وأناط المتحولات بقوى المعارضة التي كان المعتزلة متكلميها بامتياز"([24]).

لذلك كله أثرى فكر المعتزلة – في عصر الازدهار – علم الكلام وأكسبه طابعاً اجتماعياً؛ بعد أن كان جدلاً مجرداً، كما "أثرى جوانب الحياة بمحتوى أخلاقي دون مساس بالإيمان، كذلك بقيام مختلف العلوم على أساس عقلية"؛ وربما تجريبية مبكرة، وأخيراً مهد علم الكلام – المعتزلي على الخصوص– لظهور الفلسفة الاسلامية "ونقل طرق التفكير إلى مرحلة تطورية متقدمة"([25]).

كذلك ساهم اخوان الصفا (في القرن العاشر الميلادي) في هذه العملية التوفيقية بين الفلسفة والدين، وأكدوا ان لا مجال لنقاء الدين إلا بتطهيره بواسطة الفلسفة وقالوا ان الدين هو من الحقائق الفلسفية.

أما أبو نصر محمد الفارابي (872 م – 950 م)، فكان من أوائل المساهمين في تأسيس الفلسفة الاسلامية، وذهب إلى التوفيق بين الحكمة/ الفلسفة والدين، كما أعلى من شأن الفلسفة أكثر من شأن الأنبياء، حيث قال "إن النبي حصل على معارفه من الوحي الإلهي، أما الفيلسوف فهو ممن نذر نفسه للمعرفة بجهوده حتى وصل إلى الحقيقة"، فالفلاسفة عند الفارابي أفضل من الانبياء.

أما الفيلسوف أبو علي الحسين بن سينا (980 م- 1037م)، فقد حاول دمج الفلسفة بالدين مؤكداً على الترابط بين الفلسفة والدين رغم الاختلافات بين الفلسفة والشريعة.

أما أبو حامد الغزالي (1058 م – 1111 م)، فقال "إن الفلسفة عاجزه كما العقل عاجز عن الوصول إلى الحقيقة، ولا يجوز التقريب بين الفلسفة والدين، بل عمل على هدم الفلسفة التي تناقش المسائل الدينية".

أما أبو الوليد ابن رشد (1126 م – 1198 م)، في رده على الغزالي، قال "إننا إذا سلمنا بغياب العقل وعجزه كما يقول الغزالي، فمعنى ذلك ان هذا العجز يمتد إلى اثبات النقل"، خاصة وان الغزالي يؤكد على عجز العقل.

واعتبر ابن رشد ان العقل هو هبة من الله، ومن المستحيل ان يخلق الله شيئاً ويرفضه، فالحق لا يرى إلا الحق، وبالتالي فإن الفلسفة واجبه – كما يقول ابن رشد- بنص الدين والقرآن، ما يعني أن (الفلسفة والدين) في حالة اتفاق من حيث الجوهر، وإذا وجد أي اختلاف في النقل مع العقل لابد من أن نلجأ إلى تأويل النص القرآني.

في ضوء ما تقدم، فإن "ما يميز علم الكلام عن علم اللاهوت هو توجهات المتكلمين الابيستيمولوجية (المعرفية)، المنافية للنصية والإيمانية والصوفية، فالمتكلمون، قالوا بالعقل مرجعاً أعلى في الحكم على المسائل النظرية والفكرية، بما فيها اللاهوتية"([26])، لكن هذه الرؤية العقلانية الأقرب إلى المعتزلة، تراجعت بفعل التأثير السلبي للأشاعره، الأمر الذي أدى إلى احتدام التناقض بين علم الكلام والفلسفة –كما يقول د. حسين مروة- فقد "كان لابد ان يحتوي دياليكتيك العلاقة بين الكلام والفلسفة تناقضات جدية بينهما، منذ بدأت تظهر ضرورات الاستقلال النسبي لكل منهما عن الآخر عند منتصف القرن الثالث الهجري (بعد منتصف التاسع الميلادي).

ولعل أهم مصدر لهذه التناقضات –كما يضيف د. مروه- "هو ان علم الكلام حينما بلغ نضجه في مرحلته المعتزلية، وهو متوافق مع الفكر الفلسفي من حيث فسحه للعقل مجالات التفكير، وتحصيل المعرفة، حتى في ما وراء الطبيعة، كان من الطبيعي – وفقاً لقوانين التطور العامة- ان يتخلى علم الكلام للفلسفة عن مكانه في حركة تطور الفكر العربي- الاسلامي بناء على كونه -أي علم الكلام- قد استوفى حاجة وجوده، واستنفذ مهماته التاريخية، وحان الوقت لأن يتحول إلى كيفية فلسفية خالصة، ولكن "ردة الفعل" المحافظة لمواجهة الفكر المعتزلي في عهد الخليفة العباسي المتوكل، ثم ظهور المذهب الكلامي الأشعري الذي كان تجلياً من نوع جديد لردة الفعل هذه، كان لهما نتيجة مختلفة عما كان منتظراً.. "كانت هذه النتيجة أن مكان علم الكلام المعتزلي احتله علم الكلام الاشعري من جهة، والحركة الفلسفية المنفصلة عن علم الكلام ككل من جهة ثانية. أي ان التحول كان تحولاً تناقضياً من بدايته، بمعنى أن هذا التحول تحقق عملياً بحدوث طرفين تناقضيين: الفلسفة، وعلم الكلام الاشعري"([27]).

من هنا رأينا تلك الظاهرات التاريخية التي برزت بأشكال من العداء والخصومات العنيفة بين علم الكلام "المابعد المعتزلة" والحركة الفلسفية بمختلف مذاهبها منذ حركة "اخوان الصفاء" حتى فلسفة ابن رشد.

فالتناقض العدائي بينهما، اذن "قائم على أساس ايديولوجي من حيث أسباب نشوئه ذاتها. اذ- كما رأينا- بدأ علم الكلام الاشعري يشكل عودة إلى السلفية السنية بهدف هدم البنيان العقلاني الذي شيده الفكر المعتزلي، وان حاول الاشعريون الظهور بمظهر "عقلاني" لم يتجاوز النطاق الشكلي المحض، ومنذ ذلك الوقت صار واضحاً ان الصراع بين علم الكلام والفلسفة هو -في الواقع- صراع أيديولوجي بالدرجة الأولى: صار علم الكلام مُعَبِّراً عن الايديولوجية "الرسمية" ، وصارت الفلسفة – بالإضافة إلى التصوف- معبرة عن أيديولوجية مختلف الفئات الإجتماعية المعارضة للسلطة الحاكمة المركزية، بدليل ان الإضطهاد ، المُخْتَلِف الأشكال، الذي عانته الفلسفة طوال قرون كان يبدأ اضطهاداً فكرياً في مؤلفات المتكلمين، ثم يتحول إلى اضطهاد مادي وجسدي من قبل السلطات المسيطرة"([28]).

من هذه الصورة يصبح واضحاً، انه لم يكن مصادفة في أوروبة القرون الوسطى، ان تتخذ الرجعية اللاهوتية هناك من آراء الغزالي الكلامية الأشعرية المعادية للفلسفة، سلاحاً لها في محاربة الفلسفة المعارضة للفلسفة اللاهوتية، كما فعل -مثلاً- ريموندمارتن R.Martin المعاصر لتوما الاكويني، في كتابه "الدفاع عن الايمان" الذي ألفَّه بطلب من ريموند بونيافورت Raymond Puniaforte رئيس هيئة الدومينيكيين، وأدخل فيه كثيراً من آراء الغزالي والأشعري.

ليس هذا مصادفة –كما يستنتج بحق د. مروة- "بل هو أحد المظاهر التي تجلى بها انتقال المعركة الأيديولوجية في اواخر القرن الرابع عشر الميلادي، من ميدانها في الشرق إلى ميدان جديد في أوروبة، بعد أن اخذ المجتمع العربي – الاسلامي ينهار اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، واخذت بذور النهضة الأوروبية تتحرك للنماء في مناخ التقدم التكنيكي الذي كانت طلائعه تظهر عند نهايات القرون الوسطى"([29]).

" كانت مرحلة علم الكلام المعتزلي مرحلة تحضير لولادة الفلسفة العربية، حين كادت تبلغ هذه المرحلة نهايتها ليتخلى علم الكلام عن مكانه في حركة تطور الفكر العربي للفلسفة وحدها، جاءت ردة الفعل (الأشعرية) المحافظة تلك هي محل الفلسفة، لكن هذا لم يكن ممكنا، لان التحضير لولادة الفلسفة كان قد نضج وكان لا بد من ولادتها.

لذلك "رأينا مكان علم الكلام المعتزلي يحتله طرفان متناقضان: من جهة، علم الكلام الاشعري المحافظ الذي حاول ان يقطع تطور الفكر العربي ليعود به إلى طريقة اهل السنة.. ومن جهة أخرى، الفلسفة التي كانت هي التحول الكيفي الطبيعي لتراكمات التطور، كان المظهر الملموس لهذا التناقض يتجلى في حملات الارهاب الفكري حينا والمادي حيناً ضد الفلسفة والفلاسفة بل ضد العلوم الطبيعية والرياضية كذلك، وقد لعب الغزالي الدور الاهم والاشد تأثيراً في عملية الارهاب هذه، حتى اتخذت الفلسفة اللاهوتية في القرون الوسطى من افكاره سلاحاً ضد خصومها في أوروبة حينذاك"([30]).




([1]) حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الثاني – دار الفارابي – بيروت 1985- ص 11

([2]) حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الأول– دار الفارابي – بيروت – الطبعة الأولى 1978 - ص 874

([3]) المرجع نفسه – ص839

([4]) المرجع نفسه - ص840

([5]) المرجع نفسه - ص841

([6]) المرجع نفسه - ص841

([7]) أرثور سعدييف و د.توفيق سلوم – "الفلسفة العربية الإسلامية " –دار الفارابي – بيروت / لبنان – ط1 – 2000- ص 29

([8]) عُرِفَ الجهمية بنزعتهم الجبرية الخالصة، التي تعكس توجههم نحو مذهب وحدة الوجود (البانتيئية Pantheism). وكان من أبرز أعلامهم ضرار بن عمرو (ت:815) وبشر المريسي (ت: 833) وتلميذه الحسين النجار، وسرعان ما أخلى الجهمية مكانهم للمعتزلة، الذين شاركوهم رؤيتهم للإله وصفاته، واعتقدوا مثلهم بخلق القرآن.

([9]) حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الثاني – دار الفارابي – بيروت 1985 - ص 11

([10]) د. محمود إسماعيل – سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور الازدهار (3) .. فكر الفرق.. علم الكلام.. الفلسفة.. التصوف – ص 56

([11]) معاذ حسن – حاجة العرب إلى الفلسفة (1-2) – موقع: الأوان – 22 آذار (مارس) 2008.

([12]) حسين مروة – مرجع سبق ذكره - النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الأول– ص842

([13]) المرجع نفسه - ص848

([14]) أرثور سعدييف و د.توفيق سلوم – الفلسفة العربية الإسلامية – دار الفارابي – بيروت / لبنان – ط1 - 2000 – ص 39

([15]) المرجع نفسه – ص 45

([16]) المرجع نفسه - ص 49

([17]) المرجع نفسه - ص 50+51

([18]) المرجع نفسه - ص 53

([19]) المرجع نفسه – ص55 / 58

([20]) المرجع نفسه - ص 69

([21]) مرجع سبق ذكره - ص 18

([22]) المرجع نفسه - ص 19

([23]) المرجع نفسه - ص 21

([24]) د. محمود إسماعيل – سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور الازدهار (3) .. فكر الفرق.. علم الكلام.. الفلسفة.. التصوف – ص 51

([25]) المرجع نفسه – ص 77

([26]) أرثور سعدييف و د.توفيق سلوم- مرجع سبق ذكره - الفلسفة العربية الإسلامية – ص 25

([27])حسين مروة – مرجع سبق ذكره - النزاعات المادية في الفلسفة الإسلامية- الجزء الأول – ص874

([28]) المرجع نفسه – ص875

([29]) المرجع نفسه – ص876

([30]) المرجع نفسه – ص887