المذاهب الإسلامية والحراك الاجتماعي


غازي الصوراني
2020 / 9 / 20 - 16:56     


            المذاهب والحراك الاجتماعي:
يحصر د. عبد الرحمن بدوي التيارات الأساسية في العقائد الاسلامية في المذاهب التالية([1]):
(أ)- المعتزلة. (ب)- الأشاعرة. (ج)- الشيعة. (د)- الخوارج. (ه)- المرجئة. (و)- الباطنية.
لكن "هذا التحول إلى مذاهب متعدده لم يكن يصب في إعادة تشكيل المستويات الاجتماعية المتحجرة –كما يقول عبدالله خليفه- لأن المسيطرين على إنتاج المذاهب انفصلوا عن العاملين، وغدت لهم مصلحة مشتركة في الإبقاء على تخلف وتبعية المنتجين، ومن هنا نرى تضادهم مع مضمون الثورة الإسلامية التاسيسية، ولهذا يركزون على الشكل لدرجة التعصب والعنف، وبالتالي فإن خلافات المذهبيين تغذو شكلية أكثر فأكثر، مثل كيفية الوضوء، أو الوقوف في الصلاة، وإذا كان المستوى الايديولوجي يبدو متضاداً، عبر الاستناد على النص المستقل عن الأئمة أو الموروث عنهم، فإن هذا المستوى الفكري يتحول هو الاخر إلى أشكال مفرغة من بحث القضايا الجوهرية للتحول مثل الملكية العامة والخراج والاستغلال الخ، وهكذا فإن الاقطاع السياسي وقد أسس الدولة المركزية، أو الذي انفصل عنها، فإنه قام لا بتكريس حكمه السياسي فحسب، بل بتكريس المستوى الاجتماعي، التقليدي، الذي تهدف ديمومته إلى إعادة إنتاج الطاعة لدى الجمهور المستلب الإرادة، وفي هذا الجانب، فإن الوعي يلعب دور الوساطة بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي، فالمثقفون الذين ينتجون الوعي والمرتبطون بالأشراف وخدمتهم، يصوغون المبادئ الدينية ويحيلونها إلى اشكال، أي يقومون بنزع وظيفتها التحويلية الأولى، ومواقفها الموجهة ضد الملكية الاستغلالية، ويركزونها على العبادات والمعاملات والعقيدة، ومن ثم تزدادا بعداً حتى عن هذا المستوى، أي تتحول إلى محض عبادات وتستوعب أكثر فأكثر المراحل السابقة للدين كالسحر والخرافة القديمة، مثلما تتعايش مع أساليب الإنتاج السابقة كالرق"([2]).
وإذا حللنا هذه الصياغات بدءاً من نهاية القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث، فنجد "بروز التمذهب الذي كرس البنية "الاقطاعية" بمستوييها السياسي والاجتماعي، وكان دور المثقفين المذهبيين المتعددين هو تكريس هذا الاختلاف عبر الاشكال الدينية التي تناسب القوى المسيطرة المتعددة الألوان، ولهذا سيختلفون حول كيفية الصلوات وعدد الكواكب والنجوم والأرواح التي تهيمن على القضاء الروحي ولكن سيتفقون على استغلال العبيد والنساء والفلاحين، كما وتغدو الاختلافات بين المجموعات الاقطاعية السياسية والدينية (السنة والشيعة ) منصبة على الاشكال، وهي تحولها إلى أدوات للحكم أو لمعارضة الحكم ولكن ليس لتغيير أوضاع الجمهور.
ففي حين كان الإسلام الأول يعتمد على تغيير التاريخ من خلال مصلحة الجمهور ومشاركته،-كما يضيف د. عبدالله خليفه- فإن المذاهب والفرق الدينية تقوم على تجميد التاريخ واستغلال الجمهور لمصالح شخصية ومن أجل الوثوب إلى الحكم الذي يعيد إنتاج التخلف، وقد أدى ذلك إلى غربة النص عن مضمونه، أي عن الظاهرات التحويلية الشعبية التي تشكل في مجراها، فيزداد النص تركيزاً على أشكاله الخارجية، ويعادي أكثر فأكثر عمليات التحويل الحديث و(العدالة)"([3]).
لقد مَثَّلَ "الإقطاع" المركزي تَكَوُّنْ مذهب غير مذهبي –كما يقول عبد الله خليفه-، "أي مذهب إسلامي عام، هو مذهب الاعتزال القابل لأن يكون لكل المسلمين، لأنه محاولة (عقلانية) لتطوير الإسلام في ظروف جديدة، أي هو محاولة لتشكيل ذلك العنصر الثوري التجديدي للإسلام الذي تقوده الفئات الوسطى، لكنها لم تستطع أن تتحالف مع العاملين بل قامت بالتبعية للحكام والقصور، وفي هذه التبعية جعلوا وعي النهضة مفتتاً وجزئياً وغيبياً، أي أن الطبقة الإقطاعية البغدادية الحاكمة استطاعت عبر القمع والشراء أن تمنع تشكيل عملية تجديد عميقة في البناء الاقتصادي، حيث أن الفائض توجه للبذخ، وليس لتجديد قوى الإنتاج، وهكذا عجزت العناصر الفقهية الفلسفية في مذهب الاعتزال من التجمع والتبلور والتحول لتغذو أداة فهم وتحليل للعصر، أي أداة نضال لجعل الفائض الاقتصادي يتوجه للثورة التقنية والاقتصادية، أي أن تتحول إلى قوة سياسية تتحالف مع الجمهور العامل لتغيير بنائه الاقتصادي الاجتماعي المتخلف "([4]).
إن ذلك قد أدى إلى أن تقوم "الطبقة الاقطاعية" المسيطرة في المركز العباسي بشكلنة الإسلام، أي بتحويل الإسلام من ثورة اجتماعية إلى عبادات شكلية، وتغدو الأشكال المسطحة القوالب عنصراً تعصبياً خطيراً في الحياة بدلا من أن تكون أداة للانفتاح على الأعماق في الدين، لذلك أصبحت هذه الأشكال المقولبة للإسلام حسب سيطرة هذه الطبقة ومستواها الفكري، هي جوهر الإسلام الذي يغدو ما هو خارجه كفراً ومروقاً.
إن استعمال الطبقة الاقطاعية العباسية للاعتزال في صياغة البناء الفكري للدولة، يدل دلالة واضحة على تقاربها –كما يقول عبد الله خليفه- مع شيء من العقل لتطور الدولة، ولكن هذه المقاربه، لم يكتب لها النجاح بفعل أن ذلك لم يكن تحالفاً بين الدولة والاعتزال بقدر ما كان الأمر إلحاقاً للاعتزال بخدمة الدولة المستبدة، وكعناصر فكرية جزئية ومنتقاة وليس كمنهج حر يقوم بالحفر في مادة الدين والحياة لخلق حرية على مستوى الإرث الديني وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية الاجتماعية.
إن كل هذه الظروف الاجتماعية والثقافية المتشابكة قادت إلى أن يكون مذهب الاعتزال العقلاني عاجزاً عن التحول إلى ثقافة سائدة، وبالتالي فإن المجرى الآخر الذي كانت تقوم به الدولة، وهو تكريس بعض المذاهب السنية، أو حتى مذهباً سنياً واحداً، وتفريغها من أي دلالة احتجاجية نقدية معارضة، أن هذا المجرى هو الذي انتصر.
بمعنى إن سيادة المذاهب السنية الأربعة كانت تنمو عبر تفريغها من محتواها النقدي الإصلاحي الاجتهادي، ومن هنا كان إضعاف عملية المذهبين الاجتهاديين المالكي والحنفي، لصالح المذهبين غير الاجتهاديين والنصوصيين الشافعي والحنبلي، وهذا ما قاد إلى الشكلنة وهي بطبيعتها متماثلة"([5]).
وإذا كان عهد المتوكل الذي "زُعِمَ –كما يقول عبد الله خليفه- أنه عهد العودة للسنة ومذهب الجماعة، هو بداية ما يعرف بالعصر الثاني، عصر الدويلات والتفكك، وهو عهد حكم الأتراك، فإنه هو بداية عصر الإقطاع اللامركزي، عهد المذاهب المفتتة لجسم الدولة الكبرى.
هكذا عجز العقلُ أن يكون مناخاً فكرياً سائداً في العاصمة، المشروخة حتى في جهازها الإداري بين بغداد وسامراء، حيث عجز ممثلو الفئات الوسطى الواعون عن مراكمة البذور الفكرية والنقدية والموضوعية وتحويلها إلى وعي عام، فغدت المذاهب السنية المفرغة من محتواها المعارض أداة هيمنة للسلطة على الوعي العام، كما إن انعطاف الجهاز السياسي الذي يمثل المسلمين عامة إلى تبنى مذاهب فقهية معينة، كان انشراخاً آخر في رأس الدولة، وهو انشراخ على المستوى الإيديولوجي، فهو يستدعي بالضرورة تسييس المذاهب الأخرى وتوجهها لتكوين دول بمذاهبها"([6]).
في هذا الجانب، "قامت الطبقة المسيطرة بتفريغ المذاهب الإسلامية السنية المختلفة من طابعها المعارض، فقد تمركزت على العبادات والمعاملات الاجتماعية والاقتصادية الجزئية، فغدت الاختلافات بين المذاهب السنية في فروع ضيقة، أما الاختلافات الجوهرية فتضاءلت بسبب عدم تطور منحى الاستقلال الفقهي والسياسي عن الدولة، وكان نمو المذهب الحنبلي في العاصمة التحديثية بغداد، يعبر عن تضاؤل هذه التحديثية، وبدأ أن ثمة فارقاً بين المذاهب الإمامية التي صار العديد من الفرس يؤمنون بها، والمذاهب السنية التي صار الكثير من العرب يؤمنون بها، ونلاحظ هنا كيف انتشرت ثقافة الحديث بقوة في هذا العصر، فهناك عمليات الجمع الكبرى للحديث النبوي، وقد ظهر من الفرس كبار الجامعين كالبخاري ومسلم ومؤسسي الأشعرية كالجويني، وقد تصاعدت عمليات الوضع في الحديث إلى درجات كبيرة، بل أن الفرس ظلوا "هم الأكثر إنتاجاً فكرياً في هذا العصر كذلك، أي أن الفرس ظلوا كما كانوا في المرحلة السابقة هم ( الطليعة) الفكرية للمسلمين عموماً"([7]).
ففي العاصمة كان الصراع بين القوميتين المتواريتين الظاهرتين، العرب والفرس، قد أخذ يتجه للتمظهر في صراع السنة والشيعة، ولم تعد المذاهب السنية هي فقط واجهة الدولة، بل كذلك شَكْل وعي العرب الرئيسي، ولكن هذا الصعود المستمر للمذاهب الإمامية في إيران، لم يكن فقط بسبب ظروف النشأة الإسلامية وحاجة المعارضة القومية لمذاهب إسلامية تلائم المرحلة وتطور الوعي، بل أيضاً بسبب الصراع مع القوميات (الرعوية) المنافسة، المغول والأتراك والأكراد الذين بدأوا يكتسحون المناطق التاريخية للشعب الإيراني"([8]).
هكذا" أخذت (الأمة)، الفارسية تستعيد تاريخها ولغتها وحدودها التاريخية، عبر الصراع مع كل هذه القوميات (الرعوية) وفي إطار "النظام الإقطاعي" السياسي المذهبي، أي أن المذاهب الأمامية المختلفة كانت تبلور وعياً قومياً متعدد الدرجات والأشكال، فتمزج شخصيتها القومية المستعادة بمذهبية معينة عَبَّرت عن صراعاتها ومصالحها المختلفة، هذا ما بدا في النمو الإسماعيلي بداية"([9]).
أما "الشيخ ابن تيمية([10]) المولود في بلدة حران السورية، ثم تواجد في دمشق، وبرز فيها، فكانت مهمته الفكرية كبيرة، وهي أن يقرأ ويستوعب كافة الفرق والمدارس الإسلامية السابقة، مستفيداً من الإرث الفكري النقدي السني الذي تكرس عبر الغزالي والشهرستاني، ولكنه تشكل عبر مدرسة الحديث ورائدها أحمد بن حنبل وكانت الحنبلية هي المدرسة الفقهية التي انطلق منها!"([11]).
وفي هذا الجانب نشير إلى أن أحمد بن حنبل إشتُهِرَ بمواقفه الغيبية المتزمتة حيث اصر على قوله بالالتزام بالنقل ورفض الرأي والاجتهاد، كما اتصف بشدة تمسكه بالنزعة السلفية، وقاوم المعتزلة وعلم الكلام إجمالاً، فسجنه المأمون، ثم أفرج عنه المتوكل.
 


([1]) د. عبد الرحمن بدوي – مذاهب الإسلاميين – دار العلم للملايين – بيروت ، نيسان / ابريل 1997 – ص34
([2]) عبد الله خليفة – الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية– الجزء الاول والثاني- المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – ط1 – 2005 – ص589
([3]) المرجع نفسه –  ص 591
([4]) عبد الله خليفة – الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية– الجزء الثالث-– ص15-16
([5]) المرجع نفسه –ص16-17
([6]) المرجع نفسه –ص18
([7]) المرجع نفسه –ص19
([8]) المرجع نفسه –ص20
([9]) المرجع نفسه –ص22-23
([10]) ابن تيمية ، تقي الدين بن أحمد كان من ألد خصوم الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة، هاجم مدارس الحلاج وابن عربي في صنوفها المختلفة . رسالته الشهيرة رد المنطقيين التي حاول فيها أن يدحض المنطق اليوناني ودعاوي كبار الفلاسفة من أمثال الفارابي وابن سينا.. اتهم بالتجسيم والتشبيه، وبالانتقاص من مقام النبي والأولياء، فحوكم وسجن مرتين، وتوفي في سجنه في دمشق وكان أشهر تلاميذه ابن قيم الجوزية (جورج طرابيشي  - معجم الفلاسفة –  دار الطليعة – بيروت – – ط2 - ديسمبر 1997).
([11])  عبد الله خليفة – مرجع سبق ذكره – الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الثالث - ص456