ديمقراطية على طريقة الويسترن الأمريكي


نوفل شاكر
2020 / 9 / 19 - 09:47     

يقول المفكر الفرنسي ارنست رينان :"الوسيلة الأكثر فعالية لتوضيح أهمية فكرة ما، هو محو تلك الفكرة وإظهار ما سيكون عليه حال العالم من دونها".

في عام 1970 فاز سلڤادور أليندي بالانتخابات وأصبح رئيساً لدولة تشيلي. وضع برنامجاً متكاملاً للنهوض الاقتصادي بالبلاد. أمم المصانع ونقل إدارتها إلى العمال بعد أن كانت في أيدي الأمريكيين. لم يرق الأمر للأميركان فقد رأوا في هذه الحكومة خطراً حقيقياً وأنموذجاً ثورياً يمكن أن يُحتذى به من قبل الدول الأوربية، وبذلك تهديد خطير لأميركا و" أمنها القومي".

ماذا فعل الأميركيون؟ دبّر وزير الخارجية هنري كيسنجر انقلاباً على الحكم الديمقراطي بقيادة قائد الجيش بينوشيه. حوصر الرئيس في القصر الرئاسي ورفض الاستسلام وظل يقاتل حتى الرمق الأخير فتم قتله في 11 سبتمر 1973 وحكم بينوشيه البلاد بالحديد والنار لمدة27 عاماً، ألغى الأحزاب، وقمع المعارضين، وأعلن عداءه للمفكرين، وأقام حكماً عسكرياً دكتاتورياً، جرى في خلاله القضاء على المدنية وفرّ المعارضون إلى الخارج ومن بينهم الروائية التشيلية العظيمة إيزابيل أليندي ابنة أخ الرئيس القتيل. وأصبح النظام الإنقلابي التشيلي أنموذجاً في أميركا اللاتينية لقيام دكتاتوريات أخرى في بنما والدومنيكان...

هذا أنموذج لأميركا وتأريخها الدموي في تدمير الشعوب. الديمقراطية مجرد شعار ترفعه... خدعة كمصاحف ابن العاص في صفين... مجرد ذريعة لنشر الإرهاب في العالم. دولة إرهابية تريد تشكيل العالم على ذوقها السياسي. أمريكا تحارب الديمقراطيات وتستعيض عنها بالانقلابات العسكرية. امريكا تستخدم الدبابة كمفردة للغزل السياسي في مشروعها للهيمنة على العالم ودمقرطته أمريكياً. قصة الديمقراطية الأميركية تذكرني بالمقولة الشهيرة " التأريخ حكايات مجانين تُروى لأغبياء"!

الديمقراطيات بحاجة إلى التراكم، والتراكم يحتاج إلى الإستقرار السياسي، أعطني دولة وامنحني مائة عام استقرار سياسي ساعطيك نظاماً ديمقراطياً. هكذا تكلمت السوسيولوجيا التاريخية . بمعنى ان الاستقرار وبالتالي التراكم بكل أشكاله هو شرط انتاج الديمقراطية، وهو ما لاتريده أميركا رغم رفعها للشعارات السياسية البراقة، الشعارات الأميركية في حقيقتها مجرد أزياء تنكرية سياسية تخفي تحتها نظرة فوقية و ضغينة تنافسية على الهيمنة.

دمرّوا التجربة الديمقراطية الفتية في تشيلي عبر عملائهم... أعلن اليمين حربه القذرة، وكان أرباب السلطة الذين فقدوا الحكومة لايزالون يحتفظون بالأسلحة والقضاء، والجرائد والاذاعات. لم يكن الموظفون يؤدون أية وظيفة ، كان التجار يحتكرون البضائع، وأرباب الصناعة يخرّبون، والمضاربون يلعبون بالعملة. وظّفت الCIA وسائل الإعلام لشيطنة الحكم الوطني، وتشويهه دولياً. الصحف تكتب، والتلفزيونات تعبيء، والأموال تدفع، والقادة تُشترى، والعملاء تُجند... انقلبت الدنيا على رئيس ديمقراطي كل ذنبه أنه أراد إسعاد شعبه، وتحقيق المساواة والقضاء على الفقر.

قال كيسنجر أن في مقدور "الفيروس التشيلي" أن يؤثر حتى على الدول الأوربية، لذا فأنه من اللازم إبادة هذا الفيروس، وهذا تماما ما قاموا بفعله. منطق شقاوات... مقولة رجل كاوبوي ... صائد جوائز في أفلام ويسترن، وليس وزير خارجية دأبت الأدبيات السياسية على وصفه بأنه يمثل إتجاه " الدبلوماسية الواقعية في السياسة الأميركية"!.

أصبح الإرهاب والمروق عن النظام الدولي، تعويذة سحرية كتعويذات المانا المستخدمة من قبل القبائل البدائية القديمة تستخدمها أميركا لتفسير وتبرير كل شيء لا يعجبها. الإيديولوجيا غالباً ما تخفي تحتها النوايا الدفينة.
الافكار الكاذبة تقتل كما يقول البير كامو .. العسكر والحرية هما تناقض أضداد فلسفي وعملي.. الدبابة والحرية هما مفارقة فلسفية وواقعية. مفارقة لا يفهمها هنري كيسنجر ولا منظومته الإيديولوجية التي تنظر لشعوب العالم نظرة فوقية... نظرة الرجل الأبيض ذو الدماء الزرقاء النبيلة، والمصالح الكبيرة، الذي يجوز له ما لا يجوز لغيره.

حوصر الرئيس الشرعي وطلب الانقلابيون منه الاستقالة، فارتدى الوشاح الرئاسي وحمل البندقية ليدافع عن التجربة الديمقراطية وعن شعبه الذي انتخبه قبل أن يسقط قتيلاً وكانت آخر كلماته التي أذاعها في الراديو:

" ” أعلن أني لن أتنازل، اني مستعد أن أقدم حياتي دفاعاً عن السلطة التي ائتمنتني الشغيلة عليها، أن هروبي سيكون أقذر من خيانة هؤلاء الجنود الذين خانوا وطنهم…عاشت تشيلي، يحيا الشعب، يحيا العمال! هذه هي كلماتي الأخيرة، وأنا واثق من أن تضحيتي هذه لن تكون عبثية.وستكون العقاب المعنوي للجبن والخيانة ”