ظهور الفلسفة العربية الاسلامية


غازي الصوراني
2020 / 9 / 18 - 13:43     


نشير إلى أن "ظهور الفلسفة العربية الإسلامية وتطورها، ارتبط بتاريخ دولة الخلافة التي أقامها العرب بعد الفتح الإسلامي، فقد شيّدوا امبراطورية واسعة، مترامية الأطراف، امتدت من الهند شرقاً وحتى البيرينيه غرباً، وَوَحَّدتْ – ولأول مرة بعد الاسكندر المقدوني – الشرق والغرب، العالم المتوسطي الهيلينستي والعالم الهندي الفارسي، كما غدت اللغة العربية، أداة فعالة في التفاعل والتكامل الثقافي بين العرب والفرس والأتراك والبربر وغيرهم من شعوب دولة الخلافة، وقد جاءت الفلسفة العربية الإسلامية وثيقة الصلة بالتقاليد الفلسفية اليونانية القديمة، التي كانت قد انتشرت في آسيا. كما نشطت "حركة الترجمة"، التي كان للنساطرة السريان دور مرموق فيها. واكتسبت حركة الترجمة طابعاً منظماً من مطلع القرن التاسع الميلادي، وذلك بعد مبادرة الخليفة العباسي المأمون (813-833) بانشاء "بيت الحكمة" في بغداد، حيث لمعت في هذا البيت، طائفة من المترجمين، بينهم سهل بين هارون، وحنين بن اسحق، وابنه اسحق بن حنين، وحبيش بن الحسن، وثابت بن قرة، وعيسى بن يحيى وغيرهم.

وقد أسهم علماء العالم الإسلامي، في إغناء العلوم في تلك المرحلة، كما تَعَرَّفْ المسلمون على المدارس الأساسية في الفلسفة اليونانية القديمة، وإن كان أرسطو محط اهتمامهم الأول. "وإلى أواخر القرن التاسع كانت قد نُقِلَتْ إلى العربية الأعمال الأرسطية الرئيسية، إما مباشرة من اليونانية أو بتوسط السريانية، ونُقِلَتْ إلى العربية بعض حوارات أفلاطون، بينها "النواميس" و"السوفسطائي"، ولكن معلم أرسطو هذا كان أقل نفوذاً ورواجاً من تلميذه عند العرب "([1]).

فقد "جذبَ أرسطو أنظار الشرق إليهِ، حيث تلقّـى المسلمون المنجز الأرسطي بكثير من الاهتمام والتقدير، وكان الالتقاء الحضاري بين الفكر الفلسفي اليوناني والحضارة العربيّة الإسلاميّة، أكثر من فعّـال ومُثمـر، وسيمتدّ أرسطو في كثير من المصنّفات العربيّة التي أتتْ على ذكر اسمه، وشرح فلسفته، وتحليـل الكثير من القضايا الواردة فيها، ولم يعدْ العرب بعد ذلك مجرّد نَقَلَة لأرسطو الذي ينتمي إلى حضارة أخرى، بل أصبحوا مُتفاعليـن مع أفكاره، شارحين لها، ومُضيفين إليها ما يمكن أن يتناسب ومنظومة قيّمهم العقائديّة والثقافيّة والاجتماعيّة، كما تجلّتْ في ذات الوقت مواقفهـم النقديّة من خلال شروحاتهم وتعليقاتهم لكتبه وآراءه. ويظهر هذا الاهتمام والتفاعل الإيجابي وآثار الفكر النقدي في كتب الفلاسفة المسلمين لاحقاً، كـالكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد على سبيل المثال لا الحصر"([2]).

كما تَعَرَّفَ العالم الإسلامي أيضاً، على آراء أفلوطين والافلاطونيه المحدثه، التي عَبَّرَتْ عن أشد الأفكار الرجعيه الغيبيه منذ القرن الخامس الميلادي في اوروبا وامتدت طوال العصور الوسطى، ففي المجتمع الإسلامي، القائم نظرياً على المساواة، برز إلى موقع الصدارة ما سبق أن أخذ به الأفلاطونيون والرواقيون من تقسيم الناس إلى صفوة مثقفة، "خاصة"، وإلى "عامة" أو "جمهور".

أما في مجال التشريع، فقد "تبلورت، ومنذ صدر الإسلام، مدرستان متعارضتان، أولهما مدرسة "أهل الحديث"، التي أظهر ما كانت في الحجاز، والتي كان أنصارها لا يتجاوزون النص (من قرآن وسنة) فإن سُئِلوْا عن شيء وعَرَفوا فيه آية أو حديثاً أفتوا، وإلا توقفوا، لا يقولون شيئاً، وكان هؤلاء يُعْرَفون بالإعتداد المفرط بالحديث، حتى الضعيف منه، وفي مُقابلهم قامت مدرسة "أهل الرأي"، التي انتشرت في العراق خاصة، والتي تميز أصحابها بقلة روايتهم للحديث وإهمالهم له، وبتدقيقهم في الأدلة، وبتحكيمهم العقل في الآراء، وبتغليبهم القياس على النقل، وقد تتوجت مدرسة "أهل الرأي" بأبي حنيفة (نعمان بن ثابت، 699، 767)، إمام المذهب الحنفي.

وأما نزعة مدرسة أهل الحديث فتجسدت على أشدها في المذهب الحنبلي، وتوسط المذهبان المالكي والشافعي بين المدرستين"([3]).

أما على صعيد العقائد، فقد توزع المسلمون إلى فرق جمة، فقد نشب الجدل بينهم حول "الإمامة" ("الخلافة")، مَنْ الأحق فيها بعد الرسول، وهل تكون بالاتفاق والاختيار (بالبيعة والاستفتاء والشورى) أم بالنص والتعيين، وهل يَجْمَع الإمام بين السلطتين الزمنية والروحية، إلخ. وكان ذلك، الانقسام سبباً في تمايز السنة والشيعة، ثم الصراع التناحري بينهما.

اختلف المسلمون أيضاً حول مسألة "صاحب الكبيرة"، وما يتصل بها من قضايا العلاقة بين النظر والعمل، والإسلام والإيمان، فغالى الخوارج في تشددهم، إذ حكموا بأن صاحب الكبيرة كافر، مخلد في النار، واعتبروا العمل شرطاً للإيمان، وبالمقابل، تمادى " المرجئة" في تسامحهم، فتوقفوا عن تكفير صاحب الكبيرة، وتركوا الحكم فيه لله، وفصلوا العمل عن الإيمان، واعتبروا أن "الله وحده هو الذي يَعْلَم خائنة الأعين وما تخفي الصدور"، فليس لأحد أن يكون رقيباً أو حسيباً على ضمائر الناس، أما فرقة المعتزله، فقد كانوا بالفعل "فرسان العقل" في الإسلام، فقد كان العقل هادياً ومرشداً لهم في التفسير والموقف.

على أي حال، استمر التناقض في الآراء حول التسيير والتخيير، القضاء والقدر، فذهبت "الجبرية" إلى أن الأفعال كلها لله. وقالت "القدرية" بان الإنسان خالق "قدره"، خيره وشره، ودار الجدل حول قضية الصفات والذات الإلهية، واختلفت المواقف، فتطرف بعضهم في إثبات الصفات والأخذ بحرفيتها كما جاءت في القرآن (من "يد" و"عين" ..)، حتى وصلوا إلى التشبيه والتجسيم، وغالى آخرون في تأويلها (اليد – بمعنى القوة والاستيلاء، والعين – بمعنى الغاية والارشاد...)، فخلصوا إلى "النفي" و"التعطيل". ولم يأت القرن العاشر حتى صار مؤرخو الفرق والاخباريون يرون صعوبة بالغة في حصر الفرق الإسلامية"([4]).

إن قراءة التاريخ العربي / الاسلامي عبر تحليله من خلال جذوره في الماضي، هو "أمر سيفتح مستويات وعي البنية العربية / الإسلامية، فهذا الوعي العربي المتنامي أخذ عناصر فكرية من الماضي كفكرة الآلهة أو الإله الواحد أو دور السماء كمركز لإنتاج الوعي المطلق وبعض أسماء الأنبياء وبعض الأفكار الدينية إلخ "([5]).

فإذا كان الإسلام ظاهرة نَمَتَ بين الرعاة، في المجتمع العربي الرعوي، فلا بد –كما يضيف عبدالله خليفه- "أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع، ولكنه من حيث الاتجاه هو تَحَوُّل حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا، ويستهدف تخطيه وتمدينه، وهنا تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة (مكة) كقائدة حضارية لهؤلاء الرعاة، وبين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي حيث تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز، والإسلام نفسه هو العملية الحضارية الهادفة إلى تغيير هذه البنية الرعوية السائدة، وهو يظهر من خلال موقع اجتماعي وفكري محدد، حيث برز كثورة، أي أنه صعد من خلال تحالف اجتماعي طليعي مقاتل، وإن هذا التحالف هو الذي جعله يرتبط بأغلبية السكان، وبالتالي يعيد تشكيل الجزيرة والمشرق والعالم المحيط من خلالها"([6]).

نستنتج مما سبق، أن الفلسفة العربية الإسلامية قد دخلت معركة الصراع الايديولوجي–كما يقول المفكر الشهيد د. حسين مروة-، "منذ بدء تشكلها الأَوَّلي عبر أفكار الجماعة المسماة بـ"القدرية" التي رفضت خضوع الإنسان لاحكام القدر في الوقت الذي رفضت فيه سيطرة نظام الحكم الاستبدادي المطلق باسم القدر الالهي، ثم عبر افكار المعتزلة الذين واصلوا طريق "القدرية"، وبعد أن تطورت الاشكال الفلسفية إلى منظومات متناسقة على أيدي الكندي والفارابي وأبي بكر الرازي وابن سينا حتى ابن رشد، ارتفع الصراع الايديولوجي، بفضل هؤلاء الفلاسفة، إلى مستوى أعلى فأعلى، وفقاً لتطور الصراع الطبقي المتصاعد كلما اشتد التمايز الاجتماعي، طبقياً وفئوياً، في مجتمع كان يتطور اقتصادياً بدرجات متفاوتة حسب ظروف تاريخية متفاوتة، وفي ما بعد واصلت الفلسفة الإسلامية خوض هذا الصراع حتى حين انفصلت عن بيئتها التاريخية (البلدان العربية – الاسلامية)، أي حين دخلت أوروبة القرون الوسطى، ذلك أنها، في حالتها تلك، قد ساعدت القوى التقدمية النامية داخل الفلسفة الأوروبية القروسطية، والحديثة أيضاً، في التوجهات الفلسفية المادية التي كانت محوراً للصراع الايديولوجي في أوروبة بين اللاهوتية المسيحية والعلم"([7]).

من ناحية ثانية، كانت الفلسفة الاسلامية –كما يقول د. محمود اسماعيل- "تتويجاً لنهضة معرفية عامة؛ خصوصاً وأن موضوعها لم يقتصر على "الميتافيزيقا" فحسب؛ بل شمل دراسة علوم أخرى كالطب والرياضيات والفلك وحتى الموسيقى، كما وان هذه العلوم استندت بدورها على علوم أخرى كالكيمياء والفيزياء والجغرافيا وغيرها.

بالمثل –كما يؤكد د. محمود اسماعيل- "فإن نشأة الفلسفة وتطورها كانت نتيجة معطيات اقتصادية واجتماعية وسياسية تدخل في صميم واقع المجتمع الاسلامي، وتُعَبِّر عنه بدرجة أسمى من النضوج في التناول والطرح وصياغة الأنساق، فهناك من يرى في الفلسفة الإسلامية تياراً فكرياً قُحَّاً يحمل نزعة عقلية بحتة في التفكير، ودفعه باتجاه عقلاني صرف، لا يعبأ بمسائل الدين وقضاياه في منهج بعيد عن منهج الكلاميين الذي يوفق بين الفلسفة والدين، وهذا التيار في نظرهم يُعَبِّرُ عن فلسفة اليونان وثقافتهم أكثر مما يُعَبِّرُ عن فكر الإسلام وثقافته، فالفلسفة الاسلامية – بهذا المعنى- نتيجة لحركة الترجمة؛ خصوصاً ترجمات السريان وشروحهم، لكن هناك اتجاه آخر مناقض، يرى في الفلسفة الإسلامية تطوراً طبيعياً لعلم الكلام، حيث عالج العلمان قضايا واحدة وإن بمنهجيات مختلفة، فالمتكلم يؤمن بدينه أولا، ثم يلتمس الأدلة والبراهين العقلية لتقوية الإيمان والدفاع عنه، اما الفيلسوف "فيدخل في هذه المسائل مجرداً من كل اعتبار"([8]).

لكن، على الرغم من الاختلاف بين الاتجاهين، حول ما إذا كانت نشأة الفلسفة في الاسلام نتاج ظروف داخلية أو معطيات خارجية، فإنهما "يتفقان في النظرة المعرفية القحة في تقرير النشأة الفلسفية الاسلامية بعيداً عن الواقع التاريخي للمجتمع الاسلامي، أي يقعان – بوعي أو بدونه- في منزلق تفسير الفكر من خلال الفكر حسب المنهج الفينومينولوجي".

كذلك "يخطئ أصحاب الاتجاه الأول في تصور خُلُو الفلسفة من تأثيرات لاهوتية، كذا إعتبار المتكلمة مفكرين لاهوتيين؛ وهو امر لا يخلو من مجازفة، فلم تتحرر الفلسفة الاسلامية تماماً من مصادرات اللاهوت، كما وجدنا من المتكلمة من عَبَّرَ عن موقف هرطقي احياناً؛ خصوصاً في مرحلة نشأة علم الكلام؛ لا لشيء إلا لأن تلك النشأة تكونت إبان عصر الصحوة "البورجوازية" الأولى التي لم يحسم خلالها الصراع بين "البورجوازية" و"الاقطاع" حسماً قاطعاً؛ ومن ثم لم تسفر عن ليبرالية محضه تسقط المصادرات الدينية، لكن على الرغم من ذلك، فقد وسع البعض دائرة العقل إلى حد الوقوع في مزالق الإلحاد، كما عول البعض على الحدس، وأفاد الجميع من النهضة المنهجية والإبيستيمولوجية (المعرفية) التي أفرزتها الصحوة البورجوازية الثانية؛ فتعددت الرؤى والمناهج، بما أثرى مجال البحث الفلسفي في النهاية، ضمن إطار التنوع، حيث يمكن تصنيف فلاسفة الاسلام صنفين، أحدهما مثالي يعول على بحث "الماهية"، والثاني مادي ألح على دراسة أصالة "الوجود"، فهناك من الباحثين من يروا أن الفلسفة الإسلامية تأثرت في نشأتها بالفلسفة اليونانية – المثالية والمادية معاً – وأفادت منها في صياغة أنساقها مع الاحتفاظ بطابعها العربي الإسلامي المميز دون تقليد أو محاكاة، ونحن – كما يقول د. محمود اسماعيل- نتبنى هذا الرأي"([9]).

فالثابت أن الفلسفة الإسلامية تسلحت بأرسطو وغيره من المشائين اليونان لمواجهة خصوم الإسلام، إلى جانب هذا الاستنتاج الموضوعي، إلا أننا نضيف هنا، أن المفكر الراحل د.حسين مروه توصل إلى نزعات مادية في الفلسفة الاسلامية نتيجة لتأثرها بأرسطو وطاليس وأناكساغوراس من ناحية، ونتيجة لتطور الوعي الذاتي لدى الفلاسفة الإسلاميين من ناحية ثانية.






([1]) أرثور سعدييف و د.توفيق سلوم – "الفلسفة العربية الإسلامية " –دار الفارابي – بيروت / لبنان – ط1 – 2000 – ص11

([2]) د. خديجة زنتيلي – حوار مع فاطمة الفلاحي (بؤرة ضوء) – الحوار المتمدن – 15/10/2017

([3]) أرثور سعدييف و د.توفيق سلوم – "الفلسفة العربية الإسلامية " – ص 12

([4]) المرجع نفسه - ص 12

([5]) عبد الله خليفة – الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الاول والثاني - المؤسسة العربية للدراسات والنشر– بيروت– ط1 – 2005 – ص7

([6]) المرجع نفسه – ص8

([7]) حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الثاني – دار الفارابي – بيروت 1985 – ص713

([8]) د. محمود إسماعيل – سوسيولوجيا الفكر الإسلامي.. طور الازدهار(3).. فكر الفرق..علم الكلام.. الفلسفة.. التصوف – سينا للنشر – بيروت – 2000 - ص 104

([9]) المرجع نفسه - ص 105